القاهرة من سعد القرش: يمتلك الشاعر الاردني أمجد ناصر من الشجاعة ما يدفعه للاعتراف بخطأ شعراء عرب أدى خوفهم مما وصفه بالأيديولوجيا الى عزل الشعر والشعراء عما يجري حولهم مكتفين بكتابة نص محايد سياسيا غير منتم أيديولوجيا بقدر انتمائه الى الشاعر نفسه. وقال ناصر في مقابلة مع رويترز ان الخشية من السياسة أدت الى عزل الشعر العربي والشعراء العرب عن الشأن العام حتى "صار بالامكان أن تكتب قصيدة عن مقهى أو عن سائر على الرصيف أو عن تحريك ملعقة السكر في كوب الشاي من اليسار الى اليمين أو العكس هو قصارى اقتراب القصيدة من اليومي."
وأشار الى أن التفاصيل السابقة ليست هي فقط الحياة اليومية التي أصبح فيها "الجوع والقتل والفساد والقمع أيضا مفردات يومية لا تشكل موضوعات تغري الشعر. ولا أفهم هذا الانفضاض الشعري العربي عن الشأن العام كما أشدد على رفض تحويل القصيدة الى بيان أو شعار أو بندقية فهذا ليس من شغل الشعر ولكن تعقيم الشعر من كل شوائب الحياة التي هي الحياة نفسها لا يجدي قضية الشعر أيضا." ولم يجد ناصر مانعا من أن يكون الشأن العام مادة للشعر بشرط ألا يطغى الشأن العام علي الابداع وأن يحقق حضوره داخل القصيدة من خلال شروطها الابداعية حتى لا يتحول الشعر الى بيان سياسي أو مجرد شعار.
أمجد ناصر الذي يكتب قصيدة النثر غادر مصر مطلع هذا الشهر بعد أن أُقيمت له بمدينتي القاهرة والاسكندرية أمسيتان تعانق فيهما شعره مع موسيقى عازف العود العراقي نصير شمة وغناء المصري وائل سامي. وقال لرويترز ان الأُمسيتين كانتا مهمتين في مسألة التلقي "لأن الموسيقي والغناء دخلتا مغامرة مع الشعر الذي نادرا ما يدخلها علي هذا النحو حيث لم تأت القصائد من المدونة الكلاسيكية أو ما بعد الكلاسيكية التي درج عليها الغناء العربي. التجربة هنا مختلفة لان عالم القصائد ليس سياسيا ولا عاطفيا بل تتحدث عن الغياب والفقد والمنفى الوجودي كما أن قصائدي تنتمي الى ما يسمى عربيا قصيدة النثر وهي قصيدة صعبة في التلحين والغناء."
وقال ان الشعر العربي اليوم يعيش نوعا من عزلة تكاد تحصره في حدود نخبة من المثقفين. وتجربة تلقي لشعر بالموسيقى يمكن أن تقدمه الى جمهور ربما لا يكون تقليديا "كان الجمهور مستمتعا وكثيرون قالوا لي بعد الامسية انهم لم يشعروا بهذه المتعة في الامسيات الشعرية التقليدية التي يقتصر فيها الامر على قراءات نمطية يقدمها شعراء يتعاقبون على المنبر." وأضاف أن على الشعراء ألا يخشوا على الشعر وجديته من علاقته بالموسيقى "خصوصا اذا كان الموسيقي جادا ومهموما بالبحث عن أشكال جديدة لاعماله مثل نصير شمة. أنا شخصيا استمتعت بهذا الحوار الشعري الموسيقي وكنت قبل ذلك ملولا ومتبرما من قراءة الشعر أو من شكل تقديمه. لا أخفيك أنني كنت قلقا من عدم نجاح المغامرة ولكن النتيجة كانت مطمئنة." ويدور في العالم العربي جدل منذ نصف قرن حول قصيدة النثر يتناول شرعيتها وتأثيرها في القاريء العام.
ولكن أمجد ناصر قال ان كلمة "نثر" في اقترانها مع "قصيدة" خلقت التباسا أو نفورا عند القاريء العام "الشعر لا يتحقق من خلال الوزن. هذا أمر وعاه حتى العرب القدامى ولكنه يتحقق من خلال الحالة التي ينقلك اليها أي أنه يصنع من خلال اللغة والموضوع حالة شعرية مختلفة عما يفعله النثر العادي. هي ليست لغة اخبارية ولا وظيفية بل تنتج حقلا دلاليا مختلفا."
أمجد ناصر (49 عاما) يقيم بلندن وله نحو عشرة أعمال منها دواوين (مديح لمقهى آخر) عام 1979 و(سُر من رآك) عام 1994 و(أثر العابر) عام 1995 فضلا عن كتابين في أدب الرحلات . وآخر كتبه الشعرية (حياة كسرد متقطع) صدر حديثا عن دار رياض الريس في بيروت ويرى نقاد أنه طرح فيه تجربة شعرية جديدة من خلال القصائد نفسها وليس التنظير الشعري.
وعلق ناصر قائلا انه بهذا الديوان ألقى حجرا داخل كتابته نفسها "ما فعلته هو زج الشعر في حالة قصوى من النثرية. أردت أن أصل الى الشعر من طريق النثر الذي يتضمن عناصر نثرية واضحة تماما مثل السرد والتحليل والحكاية. لم أقصد أن أقول بيانا شعريا ولكن العمل بدا كبيان شعري بسبب اختلافه شكلا ومضمونا عما هو متداول. وأفضل أن أسميه اقتراحا شعريا يقترب أكثر فأكثر مما هو معيشي."
وأوضح أن ما وصفه بالترفع الجمالي طغى على القصيدة العربية الحديثة وباعد بينها وبين معطيات الحياة اليومية وجعل ما هو اجتماعي أو سياسي "شبهة ينبغي مداراتها." ويتضمن الديوان قصائد تتحدث عن أوضاع سياسية راهنة مثل نهب المتحف العراقي بعد احتلال بغداد في التاسع من ابريل نيسان عام 2003. كما يتضمن الديوان قصيدة عنوانها (قصيدة مؤجلة لنيويورك) التي أضحت كما ذهبت القصيدة قاعدة يسدد اليها الشعراء من جنسيات مختلفة "قصائدهم المدببة.. فليس شاعرا من لم يجرب حظه مع نيويورك."
وتقول بعض سطور القصيدة:
"لم أذهب الى أميركا قط

عرفتها مثل غيري من الافلام والاحلام والحروب

التي ولدت لدينا

نحن الذين تنحني جذوعنا تحت عجيجها المعدني... خفت أن يفسد مروري العابر في مانهاتن العليا قصيدتي العتيدة التي تطبخ على نار ضغائني الهادئة.

لكن بعد أن حدث ما حدث

أعني 11 أيلول... لم أعد قادرا على كتابة هذي القصيدة.

هكذا ستنجو نيويورك مؤقتا على الاقل من قصيدة هجاء أخرى لصلفها العمودي

هذه ضربة ختام متوقعة."
وقال ناصر انه لم يكتب من قبل شيئا سياسيا بمثل هذا الوضوح "كانت فكرة أن تكتب عن السياسة التي تصنع هذا الخراب العربي أو العالمي مستبعدة في شعر الحداثة العربية. وخصوصا قصيدة النثر التي تأثرت كثيرا بالنموذج اللبناني القائم على ما هو لغوي وجمالي وميتافيزيقي." وأوضح أن قصيدته عن نيويورك تظل قصيدة لا بيانا سياسيا "قلت ان علاقتنا /العرب/ بأمريكا علاقة حب وكراهية في الوقت نفسه. ثم ان عنوان القصيدة هو (قصيدة مؤجلة لنيويورك) والقصيدة المؤجلة المقصودة هنا هي القصيدة المضادة التي دأب الشعراء منذ (الامريكي) والت ويتمان (1819 - 1892) و(الاسباني جارسيا) لوركا (1889 - 1936) علي كتابتها عن نيويورك بوصفها أيقونة الحداثة المسعورة ورأس المال الشره وتحويلها البشر الى آلات أو عبيد لقوة المال.
"هذا كتبه في عشرينات القرن الماضي شاعر عظيم مثل لوركا ودأب كثير من الشعراء الذين عاشوا في نيويورك أو زاروها علي فعل شيء مماثل ومنهم (السوري) أدونيس الذي هجا نيويورك وصنع لها قبرا" في إحدى قصائده. وأشار ناصر الى أن قصيدته عن نيويورك كانت جاهزة بفعل هذا الارث الشعري "ولكنني بعد أن حدث ما حدث. أقصد بعد الاعتداء الارهابي عليها لن يكون بمقدوري كتابة هذه القصيدة ولكن علي نيويورك أو أمريكا أن تتذكر أيضا لماذا أصبحت قوة مكروهة في العالم."