بالرغم من كثرة الحديث عن الفساد، والمطالبة بأن يعالج من جذوره، لم يحدث في تاريخ السلطة الوطنية الفلسطينية أن تداعى عدد من الناس الذين يعنيهم شأن ما من شؤون هذا الوطن، للتوقيع على عريضة ضد أحد الوزراء، ترفع إلى من يهمهم الأمر، ليروا ما يراه الناس، ويتعرفوا على واقع قد تكون كثرة التبجح في إنجازاته، وقدرة أصحابه على الترويج له، حائلا دون أن يعرفوه، إلا في الوثيقة التي تتحرك الآن، بين العديد من المعنيين بالثقافة، لتقول إن على الصوت أن يرتفع في وجه من يجيرون الثقافة لمصالحهم الشخصية، الأكثر ضيقا من أفق يدعونه.

ورغم أن ما يحدث حقيقي، ويجيء من الإحساس بأن السيل يبلغ الزبى ويفيض، والحالة يصعب السكوت عنها، إلا أن من توجه العريضة لغير صالحه، وتتهمه بأنه يبعد عن وزارته أهل الاختصاص، من أهل المعرفة على وجه التحديد، لتشير ضمنا إلى الذين يحظون بالقرب، وبالرضا الشامل، ولماذا يحدث معهم (أو معهن) ذلك، يكاد يتظاهر بأنه ينظر إلى الأمر بنوع من اللامبالاة، وقد يعتز بأنه الأول الذي يوجه إليه رفض شعبي، هو الأول في تاريخ السلطة، مهما كان مدى قوته، لأن سلوكه هذا، هو الذي اتسمت به إدارته للوزارة التي يعتبرها ضيعته الخاصة، منذ صعقته المفاجأة التي تمثلت بوصوله إلى مقعدها، فلم يعد يعرف كيف يتصرف، خوفا على وجوده فيه، وعمد إلى اختيار مجموعة من الركائز التي تقوم أساسا على تجنب من يرى فيه تهديدا، أو نفيه أو معاداته، بسبب المعرفة أو حسن السلوك، وإلى إبعاده، لا عن الوزارة والمنح الكثيرة التي يوفرها للمقربين منه، والمقربات، ومن يقدمون الخدمات، ومن ترجى منهم خدمات، وإنما عن نشاطات الوزارة العامة أيضا، رغم صغرها، حتى وإن كان المنطق لا يقبل أن تكون هذه الوزارة، على وجه التحديد، لمن يعملون فيها وحسب.

علق سميح القاسم، مثل كثيرين غيره، على مشاركة فلسطين في معرض فرانكفورت الدولي للكتاب، فلمس شيئا من الجرح حين وصف صورة الوفد الرسمي بالقول: إنهم موظفون يدعون موظفين. وهذا حقيقي في كل الأحوال، رغم أن المسؤول الأول، وجوقته من المقربين كثيرا منه، بذلوا جهودا تهدف إلى ستر العيوب، أكثر مما بذلوه من أجل مشاركة فاعلة في المعرض، ووعدوا، ضمن تسويد الصفحات في الدفاع عن الخطأ، بأن يدرسوا التجربة، ويستفيدوا من عثراتها.

لكن الطبع يغلب التطبع كما يقال، فلا التجربة درست دون مكابرة، ولا العبر استخلصت منها. وإذا تذكرنا أن ما يعقد في القاهرة الآن، هو معرض دولي للكتاب أيضا، لاكتشفنا أن السلوك ذاته يتكرر، مضاعفا هذه المرة: في نصفه الأول، سوف نكتشف مثلا أن فلسطين ليس فيها مثقفون، خارج وزارة الثقافة، ولذلك فإن الوفد الكبير كله، ليس سوى تزكية جديدة، من موظفين لموظفين، غالبا ما تحدث جزاء طاعة أو رضا، أو حرصا على مصلحة، أو بحثا عن خدمات أو دعم، يكاد بعضه يثير التساؤل: لماذا بعض هؤلاء (خاصة من المغضوب عليهم قبل أيام) بالذات، في هذا الوقت بالذات؟ ألأن لبعضهم سندا ما، في مكان ما، في هذا الزمن الذي تلوح فيه رياح تغيير حقيقية، أم لأن عودة لبعضهم الآخر، أو لمن يخصّ بعضهم، إلى الواجهة القديمة، باتت محتملة؟
أما في النصف الثاني من هذا السلوك ـ الاختيار، فالأمر أشد إثارة للعجب، لأن الوفد الثقافي إلى معرض القاهرة للدولي للكتاب، يضم أناسا لا علاقة لهم بالكتاب، ومن بينهم من لم يقرأ في حياته كتابا واحدا، كما أنه لا ينظر بعين الرضا إلى كل من يقرأ، وكثيرا ما يُسمع وهو يسخر من "المُسأَفين" الذين يعتزّ بأنه ليس واحدا منهم، حتى وهو يمسك بين يديه شيئا مما هو ضروري لبقاء حياتهم، اسمه المال، سيد السادات جميعا في بعض الأوقات!

أسباب الاختيار، كما يشير السلوك كلّه منذ بدأ، لا علاقة لها بالكتاب، ولا بالثقافة، من قريب أو بعيد، لأنها تدور حول حسابات ضيقة، ومصالح ذاتية، ولا تتجاوزها على الإطلاق.
كنا نتصور، كما وعدنا، أن تستخلص العبر من المشاركة في معرض فرانكفورت الدولي للكتاب، الذي غاب عنه جناح الكتاب الفلسطيني، وأن يستفاد منها في النشاطات المشابهة، فلا تكون دعائية كما هي العادة، ولا زراعة ورود في صحارى جافة، لا تنبت غير الأشواك، بل أن تكون أمرا له بالثقافة الخصبة شيء من علاقة حقيقية، بصفتها قيمة مجردة، لا ارتباط لها إلا بما يخدم الوطن، لا الموظفين الذي يحنون على الموظفين، ليسيّروا لهم أمور وظائفهم، وربما غيرها من الأمور.

يستطيع الإنسان أن يلمس بكل وضوح، أن مرحلة جديدة بدأت في التعامل مع بعض الرموز التي كرست كل جهدها، وربما جهد الآخرين، من أجل مصالحها الشخصية، والتي استطاعت أن تخدع كثيرين من الناس، زمنا طويلا، فشقت طريقها عن هذا الطريق، فوصل بها الأمر أن تخدع نفسها، وتوهمها بأنها تعمل لغير صالحها وحده، لكن ذلك جاء في الوقت الذي بات فيه تصديق الناس لما تقول هذه الرموز، وما تفعل، أمرا بعيد المنال.

إن الحديث عن عريضة يوقعها عدد من الأسماء التي لها فعل في الثقافة المحلية، وغير المحلية، ولها إنجاز ما يزال متصلا في الحالتين، ليس حدثا عابرا في لحظة عابرة، ولكنه يشكل مبادرة سوف تحتذى، في اللحظة التي يتمنى فيها كل الناس تحولا في الأسلوب، يسمح لهم بأن تكون لهم آراؤهم في كل ما يخص شؤونهم، ويمنح أهل الاختصاص، في كل موضوع، حق الشكوى والنقض والاعتراض، والمطالبة بأن يعرف من بيده الأمر كل التفاصيل الحقيقية، لا تلك التي تخضع للتزويق، ولا تلك التي تتحرك تحت الأقنعة، خاصة حين تكون تفاصيل لا تسر، ولا تنفع غير أصحابها.