"عري الذاكرة" لأسعد الأسعد نموذجاً…!

إن أي كتابة عن عمل أدبي أو فنّي من قبل من هو غير مقتنع بأدبية هذا العمل و فنّيته، أمر محرج بالضرورة، في ظل بيئة ثقافية رعوية محلية محدودة، كحالها في الأرض المحتلّة قبل أوسلو وبالإضافات الطفيفة التي حملها كتاب ومثقفون عادوا مع قطار أوسلو "الجميل". إذ أن صاحب هذه العمل لن يسامحك أبداً وسيظن أنك كتبت ما كتبت للؤم في نفسك أو ضغينة والأغلب أن يبرر الأمر لنفسه على أنك مأجور من قبل جهات غامضة تسعى للنيل منه والتقليل من شأنه وشأن أدبه الفريد. فالنقد متجمدٌ في النظرية- الميّتة غالباً، والممارسة النقدية محظورة عملياً ومصنّفه في خانتي الإطراء والذم كتحوير بسيط لثنائية المديح والهجاء المستمدة من تاريخنا الغنائي.
فالكتابة الروائية داخل فلسطين تشكو من جملة علل أساسية ومتداخلة في الوقت نفسه، فتمركز الكتابة الفلسطينية في المنفى، وعدم وجود مشاريع روائية متواصلة، بمعنى أن الإنتاج الروائي في الداخل متقطع وموسمي، وبالتالي ليس هناك تراكم كمّي في الإنتاج قد يؤدي إلى زيادة نوعية…ويترتب على حالة تقطّع النتاج الروائي وعدم وجود تراكم كمّي، هبوط في المستوى العام إلى ما دون الحد الأدنى لمستوى أية رواية من الممكن أن تكتب.
ثمة كتّاب كتبوا الرواية كنوع من الاحتيال على سيرة ذاتية قروية في الغالب لم تملك جرأة الإعلان عن نفسها كسيرة ذاتية، فلجأت إلى التمويه- غير البارع في الغالب. وثمة كتّاب ذهبوا إلى الرواية بوهم كتابة السيرة الجمعية من خلال أحداثها الكبيرة: النكبة، هزيمة حزيران، حروب أكتوبر وتشرين الخ ، الانتفاضة. وما حدث غالباً أننا حظينا بعروض لهذه الأحداث الكبيرة في نوع من الأرشفة الأدبية غير المتقنة و"الزعبرة"، ولم نحظ بكتابة فنيّة ولم نقدم روايتنا. فمشكلة قسم كبير من كتّابنا تتلخص في كون الواقع قد سبقهم وتخطى أدواتهم ومفاهيمهم المستقرة عن الكتابة، بحيث أصبحت "قصصهم ورواياتهم" باهتة أمام واقع فنتازي معقّد يجمع التراجيديا بالهزل، و الواقعي حتّى العظم بالسحري حتّى الجنون.

بالنسبة لهذا العمل المعنون ب"عري الذاكرة" و الذي أرهق الكاتب فيه نفسه بوهم أنه يكتب روايةً، فانه شكّل لي خيبة صغيرة مضافة للخيبة الكبيرة غير المعلنة: أقصد "أدب الأرض المحتلّة" (بنسبة تسعين بالمئة منه على الأقل)، والذي توكأ على القضية الفلسطينية بشكل أخرق وغير عادل بالإضافة إلى أنه أصبح مملاً جداً، وفيه-فيما يخص الرواية- إهانة للرواية كجنس أدبي تطور في المئة سنة الأخيرة تطورات مدهشة، و وصل إلى مناطق في التجربة الإنسانية غاية في الدقّة.
ولكنك حين تقرأ بعض الأعمال التي يكتبها بعض الكتّاب هنا تصيبك دهشة المصدوم وتكاد تجزم أنهم لم يطلعوا على منجز الرواية العربية ولا أقول العالمية… فحين تجد من يبدأ مع الرواية من البداية دون أن يستفيد من الأشواط التي قطعها كتّاب رواية عرب أو حتّى فلسطينيين، فان ذلك يشير إلى حالة أدبية متردية بدون أدنى شك ونكاد أن نقول أنها عضال، فلو كان الكاتب في مطلع العشرينات وكتب عملاً ضعيفاً في ناحية من نواحيه، وتم نقده فعنده فرصة عالية في الاستفادة ووقت للاستدراك؛ ولكن حين يكون الكاتب على شرفة الستين وقد أتم تكوينه منذ زمنٍ بعيد، فان نقده يصبح عملية محزنة تشبه جلد لصوصٍ مسنين على ذنوب نسوا أنهم اقترفوها!

فالشخصيّات وهي ذات بعد واحد و تتحرك في إطار حبكة تقليدية مملة، ليست أكثر من قوالب جاهزة لصب أفكار هي الأخرى جاهزة، في لغة حوار ناشفة، لا تشعر بالمتحاورين ولا تسمع أصواتهم ولا تستطيع تخيّل ملامح أي منهم. وبالتالي ليس هناك شخصية روائية على طول صفحات الكتاب بالمعنى الروائي للشخصية. ف"أم زيد" – أم بطل الرواية-هي توليفة ما ل "أمينة رزق" فلسطينية، لم نعرف سوى صفاتها الأمومية فهي تبدو وكأنها ليست امرأة، ولا نقع على اسمها الذي أخفاه الكاتب كأي قروي يغار على أُمّه. شقيق "البطل" لا نعرف إن كان طفلاً أو من ذوي الاحتياجات الخاصة، أخيراً يظهر ثقل دمه، من خلال التعليقات التي أرادها الكاتب نكاتاً(شخصية الأخ المزّيح في الدراما التلفزيونية العربية)، شيء يذكّر بالمسلسلات الأردنية أو المصرية الساذجة والكليشيهات التي تعاد دائماً في المسلسلات الهابطة. الأب بالضرورة فصّله الكاتب من الخشب. الأخت كومبارس لو حذفها لما تغيّر أي شيء، والأمر نفسه ينطبق على نصف الشخصيات إذ لو حذفها أيضاً لما تغّير شيء.
أجزاء كبيرة من هذا العمل كان بامكان الكاتب أن يقولها في مقال سياسي، أو نقاش في مقهى، أو يحكيها لصديق صبور وطويل البال؛ وما كان عليه أن يورط الكتابة الروائية بهذه التقريرية. بالمناسبة لا يوجد خيال ولا سخرية ولا فنتازيا ولا أي شيء من هذا القبيل… كتابة قوانينها معروفة، فليس ثمة مفاجئات في هذا السرد المألوف لحوادث مألوفة من اليسير توقّعها.
أسعد الأسعد (وهو بالمناسبة رجل محترم ومهذّب جداً )فيما أعرف كاتب مقل، وصدرت له "رواية" واحدة "ليل البنفسج" قبل سنين طويلة وهاهو يصدر "عري الذاكرة" -مضيفاً إلى جانب العنوان كلمة رواية- محشوةً بالكلام الذي يخلو من عناصر الرواية. بعد إنفاق ساعات في قراءاتها تذكّرت ذلك المثل العربي الذي يتحدث عن جبل تمخّض فولد فأراً… وهو في حالتنا ذاكرة فلسطينية مثقلة بالأحداث تتمخّض عن أعمال بائسة لا ترقى بأية حال إلى التجربة الفلسطينية.

عري الذاكرة – منشورات بيت المقدس / دار الكاتب 2003
(180 صفحة من القطع المتوسط )