الملامح العامة لتطور الفن التشكيلي العراقي في عقدي الثمانينات والتسعينات (القسم الثالث)

يقول احد الكتاب الاوربيين: ان من يؤلف كتابا يطمح الى المديح، ولكن من يؤلف مُعجما حسبه ان ينجو من اللوم. ان حال من يكتب في تاريخ الفن وخصوصا عن الفترات القريبة يشبه حال مؤلفي المعاجم، ليس بوسعه ان ينجو من اللوم والعتب، فان الاحاطة بجميع الاسماء ستكون من المهمات المتعذرة وخصوصا حين يتعلق الامر بالفن التشكيلي العراقي الذي وصفناه فيما سبق بانه ذو قاعدة عريضة. كما ان التقييم النهائي لدور الفنانين في أي حركة تشكيلية ومساهماتهم ومدى الاصالة التي تطبع اعمالهم ذات طابع تاريخي، فالتقييم الاقرب الى الدقة يكون في العادة بعد مضي مدة كافية، ولذلك فانه ليس من النادر ان نلاحظ ان تقييم بعض الفنانين قد جاء متأخرا جدا بعد ان عانوا من شظف العيش. وكمثال على ذلك وبمناسبة الذكرى المئوية لوفاة فان كوخ والتي مرت قبل سنوات، اقيم في امستردام حفل ومعرض يتضمن أعماله، وقد كان الدخول الى المعرض والحفل يتطلب شراء بطاقة، وقد كتب أحد النقاد " لو ان فان كوخ كان على قيد الحياة لما استطاع دخول الحفل لانه لا يمتلك سعر بطاقة الدخول "، ومع ان هذه الامثلة صارخة ومثيرة للألم، فان البشرية لم تتعض من التجربة المرة، بل العكس اذ من المعتاد ان يجري استغلال منتجات الفنانين التشكيلين، الذين ماتوا، من اجل تكديس المزيد من الارباح والجاه والشهرة.

* * * *

ان الدارسين لتاريخ الفن التشكيلي العراقي يتفقون على أن الفنان جواد سليم هو المؤسس الحقيقي لمدرسة الحداثة في الفن العراقي المعاصر والملهم لممثليه، وبنفس القدر الذي كان فيه الفنان فائق حسن هو المؤسس الحقيقي لفن الواقعية العراقية. واذا كان القول يصح بان ممثلي الحداثة العراقية هؤلاء قد خرجوا من من تحت معطف جواد سليم، فان من الصحيح ايضا ان كلا منهم قد اسس فيما بعد اسلوبه الخاص المتفرد. كان جواد سليم بالنسبة للدراسين في قسم الرسم في معهد واكاديمية الفنون الجميلة ولغيرهم موجها جريئا، وداعيا، من خلال الامثلة التي قدمها، الى نبذ الاساليب المستهلكة وتبني رؤية واساليب تعبيرية جديدة، وقد قاد هو وفائق حسن الاتجاهين الرئيسيين الذين تبلورحولهما فن التشكيل العراقي دون الانتقاص من الادوار المهمة التي لعبها كل من خالد الجادر المربي الكبير والاكاديمي اللامع أو من دور محمود صبري وكاظم حيدر ولشاكر حسن آل سعيد فيما بعد.
وفي عقدي الثمانينات والتسعينات سلك الفن التشكيلي العراقي مسالك وطرق متنوعة للرؤية والتعبير كانت من التنوع والثراء بحيث تحتاج الى مجهود ضخم من أجل الاحاطه بها وتقييمها نقديا، وكانت اتجاهات الحداثة والتجريد واستلهام المفردات الاسلامية والتراثية والحرف العربي إضافة الى ما ذكرناه بخصوص الواقعية العراقية هي الاتجاهات الهامة والرئيسية، ولكن هذه التقسيمات الاكاديمية المدرسية ليس بوسعها ان تحيط بالعشرات والمئات من الاساليب الفردية والتي لا يمكن ان تنضوي بسهولة تحت الواجهات والتقسيمات التقليدية، وتبقى الاعتراضات والتحفضات قائمة والحدود بين المدارس والتقسيمات متحركة ومتداخلة.

محمد مهر الدين
كان عطاء هذا الفنان واضحا ومؤثرا في العقدين الاخيرين من القرن الماضي وكان أسلوبه ينطوي على مسعى للوصول باللوحة الى ما يمكن اعتباره الفن الخالص والمجرد من اية عاطفة والقائم على توازنات التشكيل البحت وفي تطوراته فنة المتأخرة تخلى مهر الدين حتى عن بعض الرموز والحروف والارقام، كما تخلى عن الاشكال التشخيصية التي ادخلها في لوحاته وخصوصا تلك التي عرضت في مهرجان بغداد للفنون التشكيلية وكانت المحطات المميزة لهذا الفنان هو المعرض الذي اقامه في أواخر الثمانينات على قاعة الاورفلي وكذلك المعرض المقام في المركز الثقافي الفرنسي ومعارضه المقامة في عمان. يمتاز فن مهر الدين بالتخلي عن اية عاطفة أو حنين أو علاقة بالمكان، انه مسعى للوصول الى فن يرفع نفسه بنفسه بدون اية روافع ( غير تشكيلية ) أو توسط من قبل رموز العالم الملموس والمرئي. وهو مسعى يجهد الكثير من الفنانين للوصول اليه وهو ما حققته الموسيقي بابتعادها، بسبب خصائصها، عن العالم الواقعي والرموز الملموسة، مما حدا بعضهم الى القول : ان الفنون كلها تطمح بان تكون مثل الموسيقى. وقد اعلنت عن نفسها في هذه الحقبة وبشكل ملفت للنظر وبارز، اسماءٌ فنية مثل : هاشم حنون، كريم رسن، علي النجار، سالم الدباغ، فاخر محمد، فهمي القيسي وشداد عبد القهار، وكل هؤلاء الحداثيون ساهموا بشكل فاعل في تكوين الصورة التي عليها الفن التشكيلي العراقي المعاصر، ورغم أن بعض هذه الاسماء قد لعبت دورها بشكل ابكر، الا ان دورها اخذ كامل مداه في هذين العقدين اللذين يغطيهما هذا البحث. يعرض هاشم حنون فنا انسانيا، من السهل رصد الانفعال والعاطفة فيه، انه فن الى حد ما غنائي (lyrical ) يقف على النقيض من فن محمد مهر الدين الصلب القاسي المهتم بالتوازنات غير العابئ لما يجري خارج الذات، الذات المركزية التي كل ما دونها توابع مثل الكواكب الصغيرة امام العمالقة الاواسر. اما فن هاشم حنون فانه يعرض تكوينات قزحية متحركة، كانت في بدايات تبلور اسلوبه، تسبح في فضاء واسع، وهي تشبه الرؤى المجهرية للعوالم الصغرى التي تضج الحياة فيها على مقربة منا وفينا ولكننا لا نعيرها اهتماما، والتي ما لبثت، في اعماله المتأخرة أن احتشدت وتقاربت وجاورت بعضها الآخر، مقلصة الفضاءات البينية، مذعورةً ناشدةً بتجاورها الطمأنينة والآمان، في عالم متلاطم، غير مبشّر. ان لوحات هاشم حنون هي احتفالية لتقديس الجمال والتوازن.

كانت الأعمال الصغيرة لكريم رسن والتي انجز منها الكثير في اعوام التسعينات على وجه الخصوص، ترسم عالما من الكائنات الغرائبية، نُفذ بعضها على الخشب، وهذه الكائنات معروضة علينا بخط خارجي حاد قام في بعض اعماله بتنفيذها بواسطة الكي على ما يبدو، والأجواء التي تحيط بتكويناته والكائنات المعروضة في بعض اعماله تحيلنا الى الاسطورة أو المتوارثات من الحكايات والاساطير والمرويات التي ترويها لنا الامهات والجدات، ولكن نشاطه المتنوع يتجاوز هذه الحدود، محيلا فنه الى المزيد من التنوع، وفي أعماله المتأخرة تعززت لديه الاتجاهات التجريدية مستبعدة بالتدريج الاشكال الملموسة، وازدادت لديه الكثافة اللونية المعززة بمواد إضافية.

علي النجار: يقدم لنا علي النجار كائناته الخيالية وهي مستلقية هانئة في إغفاءة حالمة متطامنةليس على الارض وانما معلقة في السماء، عديمة الوزن، ملونة زرقاء وحمراء وتحت رؤوسها وسائدُ هشةٌ ربما من أثير فاتنة الالوان وخلفها سماء حالمة الزرقة، كل هذا النعيم والفخامة يقدمها على النجار لهذه المخلوقات التي استنبطها خياله المحلق دون الانسان الذي استكثر عليه، على ما يبدو،هذا الامتياز والفخامة المفسِدة، فالانسان المعذَب، الذي بمعناه الملموس المجسد، هو علي النجار نفسه، الهارب من معاناته نحو مخلوقاته المحلقة، وهو في ذات الوقت أناسه واحبته الذين عايشهم ورأى عذاباتهم واغترابهم واستلابهم.
أصبحت مخلوقات النجار بمرور الوقت اكثر اتحادا وتقاربا مع بعضها الآخر، وتجسدت باتخاذها بعدا ثالثا بعد ان كانت مسطحة اشبه بالرقائق تذكر بالكولاج، الخلفية الآن ربما صفراء وليست بالضرورة سماءا زرقاء ولكن هذه المخلوقات بقيت محلقة في الفراغ الاثيري الاصفر وفي طرف اللوحة الى الاسفل وجه انساني مزدوج المنظور، وفي اعماله التي نفذها في السويد بعد ان اقام هناك منذ 1997اشتغل النجار اعمال الـ ( installation ) احداها تمثل سرير المرض وعليه انسان مفترض مرسوم ببعدين وغير مجسد وقد ارتبطت به انابيب العلاج، ورسم النجار الكف البلاستيكي للطبيب وهو مغطى بلون الدم، لقد انتهت لدى النجار كما يبدو مرحلة الهروب من مواجهة المرض الذي تعايش معه طويلا لكي ينتقل الى عالم المواجهة وجها لوجة.
وفي هذين العقدين كان فاخر محمد، الذي برز ولفت اليه الانظار في الثمانينات بشكل خاص، قد شهد نوعا من الانقطاع، ولكنه عاد واستأنف نشاطه بقوة، وربما أثر علية في حينها انشغاله بالتدريس في كلية الفنون في الحلة في لوحاته التي عرضها في القاعات التي افتتحت في نهاية التسعينات قرب جسر الصرافية في بغداد، أظهر فاخر محمد قدرته على استئناف مسيرته الفنية بنفس الزخم وطاقة جديدة.

راكان دبدوب طاقة كبيرة لفنان منتج

حتى اوائل العام 1990 كان راكان دبدوب قد أقام معرضه الشخصي السادس والثلاثون، وهو ربما يكون واحدا من أنشط الفنانين التشكيليين العراقيين إن لم يكن أنشطهم جميعا وحتى ذلك الحين، أي أوائل التسعينات، لم يكن نشاطه كميا فقط، بل لقد كانت معارض راكان دبدوب الشخصية مراحلَ نوعية تؤشر نشاطه في مجال البحث الدؤوب والتجديد المستمر، كان هذا الفنان يهتم بمتانة البنيان للوحاته، التي كانت قوية التأسيس مترابطة مما حدى ببعض المعلقين الى القول بان راكان يرسم كأنه ينحت، وبالفعل فقد كانت اعماله المنفذة بشكل خاص في اواخر الثمانينات واوائل التسعينات من القوة والكثافة اللونية ما يوحي للناظر كأنها ذات بعد ثالث. وفي معارضه المتأخرة ومشاركاته في أواخر التسعينات في العاصمة الاردنية عمان رأى بعض النقاد ان اعماله فقدت بعض زخمها وكثافتها وربما لعب وضعه الصحي واصرار على المحافظة على نفس الزخم السابق دورا في ذلك.
وفي معرضه الذي اقامه على قاعة نظر، التي سبق ذكرها، قدم فنان آخر هو الفنان عامر العبيدي اعمالا عن إنسان مستوحد تستطيل مقاسات جسده و يجلس مستطرقا ساهما عديم الملامح تبرز على الخلفية من وراءه تكويناتٌ تكعيبية تشبه الكراسي كأنما صنعت من خشب صلد، ان موضوعة الانسان المستوحد الصامت التي تكررت بطرق مختلفة و مبتكرة في أعمال الكثير من الفنانين العراقيين في تلك الحقبة تعكس الشعور الحاد بالازمة الوجودية والاغتراب، وهي غالبا ما تكون قناع الفنان كما سنرى في حديثنا عن احدى لوحات الفنانة ليلى العطار، ان هذا الموضوع ـ أي موضوع الانسان ـ والذي تناوله العبيدي في معرضه سوف ينقطع عنه مركزا على خيوله " المطهمة " كما وصفها الفنان شاكر حسن آل سعيد في موضوعة كتبها عن الفنان عامر العبيدي، كانت خيوله ( المطهمة ) زخرفية( Decoretive) اما اعماله المتأخرة المعروضة في عمان و التي رسم فيها خيولا، والتي ربما لم تكن مطهمة بما يكفي من وجهة نظر آل سعيد، فانها اعمال متقدمة وقوية. انا شخصيا اتعاطف مع لوحات إنسانه المتعب المغترب لموضوعها ولكثافتها وقوة بنائها، ولكن التعاطف ينبغي ان لا يكون معيارا نقديا.
وليد شيت فنان متنوع الاساليب فالى جانب الاعمال الواقعية التي تُظهر تأثرا واضحا بالفنان الراحل فائق حسن، فانه مهتم بشق طريقه الرئيسي الذي يعلن به عن نفسة حداثيا، فالى جانب ما قدمه في مهرجان بغداد العالمي للفنون التشكيلية من عمل متقن أبرز امكانياته التقنية في استعمال الـ ( air brush ) والتي برّزت تجعدات الورق بشكل مجسم خادع،قدم لنا فيها وجها نسائيا فاتنا. وفي المعرض الذي اقامه في التسعينات على قاعة بغداد لصاحبتها الفنانة سميرة عبد الوهاب وجد وليد شيت ضالته في الحصى الذي قام باعادة تكوينه في تشكيلات مختلفة وانيقة، والتي ربما كانت أنيقة اكثرمن اللازم.
وتبقى في هذا السياق إناقة فهمي القيسي ملفتة للنظر، انه يقدم فنا يجمّل الحياة ويتماشى مع المفهوم الماتيسي للفن، كانت لوحات القيسي كما هي قاعة العرض التي افتتحها والتي سبق ذكرها، تقدم فنا أنيقا، يمهد خلفية اللوحة بمساحة من اللون بواسطة ( air brush) ويعمل على تحميل المركز بكثافة مواد مساعدة ذات بروز على غرار الرليف ثم يقوم باستعمال اللون المرشوش بشكل مائل لكي يسقط على احد الجوانب البارزة من مركزاللوحة معززا البعد الثالث.

نوري الراوي ـ فاروق حسن ـ محمد على شاكر ـ شاكرالآلوسي ـ علي آل تاجر

حداثة دون إنقطاع عن الواقع

رمز اللانهائية في قبب نوري الراوي

لايسعى الفن الى حقيقة موضوعية، كما يفعل العلم، كما لايحاول على غرار العلم الوصول الى طرق تطبيقية وعملية لتحسين الانتاج واعادة الانتاج، وعليه فان التنوع الذي يعبر عنه الفن في اختلاف طرق الرؤية والتعبير والوصول الى نتائج مختلفة ورؤى متباينة هو لصالح الفن، وتنطوي محاولات التعميم وايجاد قواعد صارمة على تعسف لامبرر له، وفي اعمال الحداثة التي قدمها فنانون عراقيون بارزون مثل : محمد مهر الدين و هاشم حنون وكريم رسن وغيرهم من الذين ورد ذكرهم والذين ربما لم يرد ذكرهم بسبب عدم توفر مواد ارشيفية كافية، نجد ان هناك دائما درجة معينة من القطيعة والتغريب عن الواقع ترتبط لدى الفنان بعوامل عديدة، تحتاج بحد ذاتها الى دراسة معمقة، وهناك من جهة اخرى فنانون حداثيون جددوا اساليبهم باستمرار مع ارتباطهم في الرؤية بالواقع ولكن بطريقة غير تقليدية ومنهم الفنان نوري الراوي.

نوري الراوي في مشغله مع منير العبيدي

في معارضه العديدة التي اقامها في التسعينات، بشكل خاص، نشير الى المعرض الذي اقامة على قاعة أثر في بغداد وكذلك الذي اقامه على قاعة حمورابي لصاحبتها المرحومة ليلى الشمري في عمان 1997 وقد عكس هذان المعرضان بشكل خاص ثقافة الفنان الراوي النظرية وشفافيته ورقته والعمق الفلسفي لافكاره وتأثره بـ (ابن عربي)، وكانت القبة هي احدى المفردات كثيرة التكرار في اعماله كتعبير عن( اللانهائي) كما صرح هو، كما كانت الاعمال التي عرضها على قاعة حمورابي في عمان تتضمن نصوصا واشعارا مكتوبة. والقباب راسخة في طفولة الفنان مذ كان يسكن في محلة الراويين في مدينة عانة التاريخية والتي غمرتها المياة وازيحت الى الابد من الوجود بسبب السد الذي اقيم هناك وبقيت تُستعاد بألم في الذاكرة،واذا كانت بعض اللوحات تشير الى مكان بعينه ـ عانه راوة أو أعالي الفرات ـ فان الفنان في الاعمال التي عرضها في المهرجان العالمي للفنون التشكيلية في بغداد قد أبقى على (القبة) دون ان تكون ضمن اطار مكان ما، وجرى التركيز عليها كرمز لـ ( اللانهائي ) معززا رمزيتها. و يعمل الراوي باسلوب شفاف محققا تنوعا لونيا عاليا من خلال محافظته على شفافية اللون الزيتي او الاكريلك بلمسات رقيقة في تكنيك عرف في المصطلح التشكيلي الاوربي بـ (feathery ) أي الريشي والذي تكون فيه لمسات الفرشاة رقيقة الملمس وخفيفة بما يشبه الريش، وتحمل لوحاته بشكل واضح حنينا الى الماضي ( nostalgic )اضافة الى محافظته على توازنات كتلوية وبنائية كما هو واضح في لوحاته.

نساء فاروق حسنغموض حزين أم حياة هانئة

هؤلاء النسوة الاثيريات اللواتي يشبهن سحابة من عطر، مؤهلاتٌ بشكل لاشبيه له للالهام، الهام الشعراء والفنانين. مثيراتٌ لاغراء التأمل النسائي والرجالي على حد سواء، والتوق لهذا العالم الغامض الذي يتيح عددا لاحصر له من التأويلات، وهذا، كما يبدو لي، مسعىً مقصودٌ من الفنان في أن يجعل النهايات مفتوحة، متعددةَ الاحتمالات. فنساء فاروق حسن متطلعات، ناظرات نحو المشاهد مترقبات لشئ ما، وبالرغم من انهن نساء، بغض النظر عن المكان والمنشأ، الا انهن نساء شرقيات على وجه التحديد حمّلهُنّ الفنان ضمنا مفهوما حريميا. فالشعر المنسدل والملامح الرقيقة والزهور المنثورة والمرآة في اليد، كلها تروي لنا حكاية خفية، هناك سرد خفي لاحداث قادمة وترقب لايخلو من الخوف والغموض. زواج شرقي ؟ تهيؤ للانتقال الى مكان جديد مع رجل لم تعرف عنه الكثير ؟ حبيب قد تلتقي به خلسة ؟..توجد هنا، في لامجال لإنكاره، اشاراتٌ الى القيود والتحفظات الشرقية والمصائر التي تتقرر بعيدا عن صاحب الشأن، سيبقى السركامنا لدى فاروق حسن الذي آثر على ما يبدو ان يترك لنا الاجابات والتأويلات مفتوحة ومتنوعة ليجعل من لوحته عنصرا لاثارة الحوار. نساء فاروق حسن ـ على خلاف امرأة ليلى العطار العارية الناظرة الى الشمس الغاربة والتي تحتضن شجرتهاالجافة والقادمة الينا من العصور الغابرة والماثلة امامنا حتى اليوم ـ يحيط بهن بهرجُ اللون الذي لايستطيع ان يُخفي الترقبَ والقلق غيرَ المعلن، فـ ( ليلى العطار) تعلن عن الازمة الوجودية الازلية للمرأة صراحة ودون مواربة، في حين يعرض فاروق حسن نسائه بطريقة تدّعي الحيادية تاركا المشاهد متسائلا : هؤلاء النسوة ماذا ينتظرن ؟ ولمن يتجمّلن ناظراتٍ في المرايا ؟ وماذا تقول لغة الجسد وايماءات الايادي والشعر المسدول ؟. لاشك ان هذه الحيادية حيادية مدّعاة، أو اذا اردنا الدقة، انها محاولة لتبني الحياد، في الوقت الذي لايمكن ان يكون ثمة حياد بين الفنان ومخلوقاته وخصوصا اذا ما كن نساءً. بوسعي ان ادعي ان هذا الفنان يقف من المرأة موقفا يمتزج فيه الود والرغبة الصامتة الممزوج بشجن، بخيبة امل وتحفظ وحذر.
المرأة كانت دائما مصدرا للغموض بالنسبة للرجل، بل انه يكتشف، كلما ازداد اقترابا منها انها اكثر غموضا، وانه ازاء عالم يصعب اقتحامه والتعرف على خفاياه، وكان الموقف من المرأة هو المحرك الاكثر تأثيرأ في العملية الابداعية لدى الرجل، سواء ظهرت في اعماله صريحة أو غامضة كما في اعمال الفنان( مونك).
في مثال نوري الراوي وفاروق حسن بشكل خاص هناك مزاوجة رائعة بين الرؤية الحداثية والواقع دون المبالغة في القطيعة عنه، المبدأ واحد والتناول مختلف، يرسم فاروق حسن نساء على وجه الحصر اما الراوي فهو متنوع، واذ تغلب القبب على لوحاته، فانها لا تخلو بين الفينة والاخرى من نساء كن في حياة الراوي كما في لوحاته مصدر إلهام. ويشترك معهما في تحديث الواقع دون الانقطاع عنه فنانون آخرون : شاكر الآلوسي وعلي آل تاجر. وهما يشاركان فاروق حسن في تناول موضوعة المرأة، ولكن اسلوب الآلوسي يذكرنا بالمدرسة البغدادية الحديثة، اذا جاز التعبير، وبفن الحداثة المبكر الذي بشر به جواد سليم، ولكن اشكاله معاد صياغتها بطريقة اكثر معاصرة وهو مثل فاروق حسن يرسم نساء ويشترك معه في انهن ايضا مترقبات وحزينات وصامتات.

محمد على شاكر ملون ماهر، شخصية متعددة المواهب

من الفنانين الموهوبين، والذين لم يحظوا بالاهتمام النقدي الكافي ولاسباب غير معلومة هو الفنان محمد علي شاكر، وهذا الفنان اضافة الى كونه من امهر الملونين وأجرأهم فانه رسام ماهر وجد صيغته الخاصة وطريقته في إبقاء فنه وثيق الصلة بالواقع دون ان يجعل هذا الواقع قيدا يحول دون انطلاقة اللون لديه، وذهب باللون الى ابعد من مجرد الانعكاس السلبي للواقع والاذعان له، وهذا الفنان يضفي على الواقع الوانه بدون أي تحفظ، انه يذكرني بقول الملون والرسام الامهر غوغان : " حسنا هل ترى ان العشب اخضر ؟ اذن ارسمه بأجمل اخضر في ملونتك "، ومحمد على شاكر يتناول الواقع بحرية مطلقة ويزاوج في لوحة بين أشياء تبدو في العالم الواقعي صعبة أو متعذرة التوائم. وهو إضافة الى الرسم مصور فوتوغرافي ويهوى جمع انواع قديمة وحديثة من اجهزة التصوير وهو ايضا يمتلك مهارة عالية في انواع الخط العربي وماهر في الكرافك وقد وضف الخط العربي في لوحات غرافيكية بمنتهى المهارة.
أنجز هذا الفنان اعمالا زيتية وغرافيكية كثيرة، وهو فنان منتج، كان نصيبه في النقد التشكيلي وتقييم اعماله لا يتناسب مع حجم المنجزات التي حققها، كما ان حساسيته اللونية وجرأته كملون ماهر لم تأخذ نصيبها من النقد والتقييم، وربما لعبت شخصيته الغامضة الانعزالية وكذلك قلة المعارض الشخصية التي اقامها وعدم براعته في الاعلان عن نفسه دورا سلبيا في انصافة خصوصا في ظروف المحاباة والشللية وتأثيرات العلاقات الشخصية والبعد عن التقييم الموضوعي، التي اصابت اوساطا من النقاد التشكيلين. توفي محمد على شاكر في عمان في اواخر التسعينات وفي ظروف غاية في القساوة بسبب مرض عضال و بذل اصدقاء اردنيون، وخصوصا طيب الذكر السيد مسلم بسيسو جهودا لمساعدته وتطبيبه.

خضير الشكرجي خضر جرجيس
هذان الفنانان عرضا احيانا سوية واقاما في الثمانينات والتسعينات العديد من النشاطات المشتركة الا ان لهما اسلوبين مختلفين. تجريدات خضر جرجيس المتأخرة تطور لمشهد طبيعي ذي تقسيم كلاسيكي حيث السماء تشغل اكثر من النصف العلوي للوحة، والتي لم تعد لديه سماءا وانما فضاءا يدعم استقرار الكتلة الصلبة التي كانت عنده يوما ما بمثابة الارض. يعمل خضر جرجيس مع هذه المساحات بلمسات خفيفة من الزيت ذات تنغيم متأني، ولكنه ما يلبث ان يستعمل كتلة ثقيلة من الزيت بسحبة من سكين الرسم تضفي على المشهد حيوية وتعطيه هوية جديدة.
اما خضير الشكرجي فانه متعدد الاساليب اعتمد على الزخارف والاشكال التي توفرها البسط الشرقية، مستلهما فطريتها ربما المتوارثة من ازمنة بالغة القدم من جيل الى جيل ومن حضارة الى اخرى، وفي اللوحات التي يرسم فيها خضير الشكرجي شخوصا ( في الغالب نساء بالعباءة العراقية ) فانه يدخل هذه الوحدات التكوينية كعناصر جمالية تعزز الجو الشرقي للوحة.

اسماعيل خياط والفنانون الاكراد في معرض المصغرات

في أواخر الثمانينات اقامت مجموعة من الفنانين الاكراد معرضا فنيا مهما على قاعة الرواق ساهم فيه مجموعة بارزة من الفنانين وبضمهم الفنان إسماعيل الخياط، وكان هذا المعرض معرضا للمصغرات، وكان الفنان اسماعيل الخياط من الفنانين الناشطين، وكانت المساهمة التي قدمها في مهرجان بغداد العالمي للفن التشكيلي تتمثل بلوحة كبير تجريدية مرسومة بالابيض والاسود على لوحة من الخشب، كما قام هذا الفنان بمجهودات لجرد وتوثيق الفن التشكيلي لفناني كردستان، وقدم على احدى قاعات جمعية الثقافة الكرية في الوزيرية، حينذاك عرضا بانوراميا توثيقيا لابرز ممثلي الفن التشكيلي في كردستان العراق وكان معززا بعرض الشرائح الملونة ( السلايدات ) عن لوحات الفنانين والنشاطات الفنية.
وفي أواخر الثمنينات اقام الفنان محمد عارف معرضه سمفونية الجبال على قاعة الرواق، وكان حتى أوائل التسعينات من المساهمين النشطين في العرض في قاعة أصدقاء الفن، والتي مرّ ذكرها في القسم الاول والتي كانت تحت إشراف المرحوم موفق الخطيب كما ساهم المرحوم آزاد شوقي بنشاط في العرض في هذه القاعة، وبسبب الظروف الناشئة في اعقاب حرب الخليج الثانية والوضع الخاص لكردستان فقد قلت مشاركات الفنانين الاكراد في النشاطات التشكيلية المقامة في بغداد شيئا فشيئا و فقد المهتمون بالفن التشكيلي وجمهور المعارض فرصة الاطلاع والتمتع باعمال كوكبة من اهم المساهمين فيه.

قبل ان نضع خاتمة هذا الجزء من الدراسة والذي سوف تتبعه حلقات اخرى كان بودي التطرق الى اسماء ساهمت ولازالت تساهم في تكوين الصورة البانورامية التي عليها الفن التشكيلي العراقي واخص بالذكر الفنان علي طالب والذي غادر العراق للتدريس في الجامعات الاردنية ثم غادر للاقامة في هولندا. كان آخر عهدي باعمال هذا الفنان المبدع والذي سيشكل عدم تناول فنه بما يكفي من التفصيل ثغرة في هذه الدراسة، هو المعرض الذي اقامه في اواخر الثمانينات على قاعة الاورفلي، ورغم مرور اكثر من 15 عاما على هذا المعرض فانني لا أزال اتذكر بعض الاعمال التي عرضها حينذاك وخصوصا " المراقب " هذا الفنان الطليعي اجد ان من اللازم ان اتناوله بما يكفي من الاهتمام والتفصيل ما ان تتوفر المواد اللازمة لذلك.
كما لاينبغي اغفال الدور الريادي الحداثي للفنان رافع الناصري الذي شق طريقه الخاص والمميز بحثا عن توازنات جمالية فريدة خاصة به. اما الفنان الآخر والذي رأيت تبلور اسلوبه في الغربة والمقيم ايضا في هولندا فهو الفنان ستار كاووش. وسارحب باية ارشادات تدلني على امكانية الاطلاع التفصيلي على اعمال هؤلاء الفنانين وفنانين آخرين لم يتناولهم البحث، وسارحب كذلك باية ملاحظات أخرى إضافية.

بريشة هاشم حنون

يتــبع
[email protected]

الحلقة الأولى

الحلقة الثانية