عندما قررت وزارة المعارف في المملكة العراقية إنشاء ( معهد الموسيقى ) بداية عام 1936، كان اعتمادها على الموسيقار العراقي حنا بطرس الذي قدم كل ما يملك من إمكانات وطاقات في تهيئة مكان ومستلزمات إنشاء المعهد. إلا أن الإعتماد على فنان موسيقي واحد في إنشاء معهد موسيقي كانت الطموحات التي تبتغى منه كبيرة جداً في حينها كان أمراً غير معقولاً. فسارعت الوزارة إلى تقديم طلبها للحكومة العراقية بالموافقة على دعوة الموسيقار الشريف محي الدين حيدر الذي كان يقيم في تركيا، وبالفعل تمت الموافقة وحضر حيدر إلى بغداد منتصف العام 1936م. حينها تكاتفت جهود الموسيقار بطرس مع الموسيقار حيدر الذي عين مديراً للمعهد وتم إ نجاز وفتح أول معهد رسمي عراقي يختص بالموسيقى.
ولد الشريف محيي الدين حيدر في استانبول سنة 1892م ونشأ فيها، وهو الإبن الثاني لأمير مكة المكرمة الشريف علي حيدر باشا الذي عينه العثمانيون أثناء الحرب العالمية الاولى أميراً لمكة المكرمة.
بدأ محي الدين حيدر يميل إلى الرسم والموسيقى وهو في سن الرابعة من عمره فبدأ يحاول عزف مايسمعه من الأغاني على آلة البيانو، ومن ثم آلة الفيولونسيل، وفي السابعة من عمره بدأ يتعلم العزف على آلة العود بنفسه وحين بلغ الثالثة عشرة تمكن من العزف على آلة العود بصورة ملفتة للنظر حتى تمكن من تلحين ( سماعي هزام ).
عند نضوجه الفكري والفنيي وبعد تجاوز سن العشرين أخذ محيي الدين حيدر بالكتابة عن آلة العود، كما وبدأت ألحانه تأخذ منحى فنياً علمياً فقدم مقطوعات موسيقية عدت من أهم القطع الموسيقية التي تعتمدها مراكز تعليم الموسيقى حتى وقتنا الراهن مثل " ليت لي جناح " و " الطفل الراكض " و " تأمل "، وفي تلك الفترة استطاع حيدر أن يؤسس صداقات متينة مع كبار أساتذة الموسيقى والباحثين فيها مثل ( رؤف يكتا ) والفنان ( أحمد أفندي زكائي دده زاده ) الذي تعلم منه المقامات واصولها. والأستاذ ( علي رفعت ) الذي درس عليه أصول الموسيقى التركية الكلاسيكية.
دخل الشريف محيي الدين حيدر كلية الحقوق وفي السنة الثانية منها إنتسب إلى دار الفنون ( قسم الآدب ) وأخذ يدرس كلا الإختصاصين في وقت واحد، فحصل على الشهادتين العاليتين فيهما.
سافر إلى أمريكا عام 1924، وهناك أقام على شرفه استاذ البيانو المشهور ( غودوسكي ) مأدبة حضرها فنانين كبار مثل "كريسلر" و"هايفتز" والبروفسور "أوير" وغيرهم، وفي تلك الأمسية عزف الشريف محيي الدين حيدر على آلة العود بعض مؤلفاته الموسيقية التي نالت إعجاب ودهشة الحاضرين مما حدى بصحيفة " نيويورك هيرالد تربيون " أن تكتب مقالاً مطولاً حول براعة حيدر الموسيقية.
وهناك، أي في نيويورك استطاع محيي الدين حيدر أن يدرس آلة الفيولونسيل التي كان قد تعلم العزف عليها وهو في سن مبكرة، حيث استطاع يستثمر معرفته بالأستاذ " ب. فاشكا " في تعلم أسرار تلك الآلة وأصولها.
اقامة اول حفل خاص به في 13 كانون الاول 1928م على قاعة (تاون هول ) حضر الحفل جمهور من النخبة الفنية والنقاد، بدأ الحفل بالعزف على آلة الفيولونسيل فقدم مقطوعات لـ"لوكاتيلي" و"سينت سايني" و"باخ " و"رافيل" و "بوبر"، ثم تناول عوده بعد ذلك وأخذ يعزف مقطوعاته الموسيقية التي سحرت الحاضرين. وفي اليوم التالي خرج الصحف الأمريكية ومنها جريدة الصانداي تلغراف، التي أشادة بالقدرة الإبداعية لهذا الموسيقي الذي سحر الحاضرين بمقدرته الموسيقية في عزف المقطوعات الغربية والشرقية.
عاد حيدر إلى اسطنبول عام 1932 بعد أن ألمت به وعكة صحية وبعد أن قدم العديد من الأمسيات الموسيقية في العديد من الأماكن المهمة في الولايات المتحدة، وبعد أن حظي بشهرة فنية واسعة هناك. وفي اسطنبول قدم أولى حفلاته هناك بتاريخ 4 كانون الاول سنة 1934 حظيت تلك الحفلة بنجاح كبير وبالعديد من المقالات الصحفية النقدية التي أشادت بقدر هذا الفنان الموسيقي المبدع.
حال قدومه إلى العراق تسلم محيي الدين حيدر عمادة المعهد الموسيقي وعين الموسيقار حنا بطرس معاوناً له، وأخذ حيدر بالإضافة إلى مهمامه الإدارية مهمة تدريس آلة العود والفيولونيسل.
وضع الشريف محي الدين حيدر الخطوط الرئيسة في منهاج المعهد التعليمي، حيث عمل على جعل آلة العود كآلة موسيقية تعبيرية شأنها شان الكمان والجلو والآلات الغربية الأخرى المعروفة بتعبيريتها في الموسيقيى الغربية، وبذلك فقد عمد على الإبتعاد عن إعتبار العود آلة تطريبية مصاحبة للغناء. كما أنه اعتمد مؤلفاته الموسيقية منهاجاً تعليمياً لطلبته، لذا نجد في وقنا الحاضر أن النقاد والباحثين يصنفون العازفين حسب مدارسهم فيقولون مدرسة الشريف محي الدين حيدر أو مدرسة منير بشير، على الرغم من أن منير بشير كان أحد تلامذة الشريف حيدر، إلا أنه استطاع أن يخط له طريقاً آخر بعد تخرجه حيث اعتمد مدارس موسيقية أخرى.
ومن الجدير بالذكر أن دروس الشريف حيدر لاتزال تُدرس في المعاهد والجامعات الموسيقية العراقية. من اشهر هذه المؤلفاته: الطفل الراكض – الطفل الراقص – ليت لي جناح – الأغاني للأطفال – كابريس كابريس- سماعي نهاوند – سماعي عراق – سماعي مستعار – سماعي عشاق - سماعي دوكاه – سماعي هزام – تأمل.
في عام 1948 غادر الشريف محيي الدين حيدر إلى أنقرة أثر وعكة صحية ألمت به وهو في بغداد التي عاد إليها بعد أن تزوج عام 1950 من الفنانة التركية صفية آيلا وسكن في منطقة " راغبة خاتون "، وبعد عدة سنوات غادر محيي دين حيدر وزوجته إلى أنقرة أثر وعكة صحية أخرى نصحه الأطباء على أثرها في البقاء بأنقرة، ومن هناك أرسل استقالته إلى وزارة المعارف العراقية.
توفي الفنان الشريف محي الدين حيدر في استانبول في الثالث عشر من شهر أيلول/سبتمبر 1967م، ولم يرزق بأطفال من زواجه بالفنانة صفية آيلا التي عاشت بعده طويلاً حتى وفاها الأجل عام 1998.


[email protected]
[email protected]