لست بصددِ الحديث عن التجربةِ الشعريةِ الكرديةِ ومقوماتها، فهي قصيدة محقونة بالموت الداكن وفي وجهٍ آخر بالطبيعةِ التي تسكن روحَ كل شاعرٍ كردي. القصائد هنا ستكون قصائد بألوان مشعة لا تعرف أن تكون داكنةً أو باهتةً لكنها بشكلٍ واضحٍ تكون عميقةً في حبِّها للشِعر / الإنسان. "هاربون عبر نهر إفروس" ديوان للشاعرِ الكردي السوري حسين حبش والصادرة عن دار سنابل المصرية.قصائد هذا الديوان كُتبت في مراحل مختلفة لذا نلاحظ هذا التباعد في حالاتها وتكونها، يفتتحها الشاعر بسطرين لـ يلماز كُوناي: " الغربة بالنسبة لي هي ذكرى وعشق، أحجار، أشجار، طيور وتراب وطني ".. مما يُدخلنا مدخل حزن ويخرجنا مخرج حزن.
في قصيدة " قطيع الوعول يموت من الظمأ " تجد الشاعر مادة منسابة تسيل بحرية وعبر التفاصيل التي لا يرى ضرورةً في شطبها أو إلغائها، قصيدة تشبه الخيمة التي تقام على أعمدٍة أساسيةٍ وما غير الأعمدة فهو بمثابةِ قطعةِ قماشٍ مطاطية من الكلمات تتحرك لتصبَّ في مجرى واحد. هذه الانسيابية في القصيدة تهدهد ذهن المتلقي ليجدَ نفسه بعد دقائق أمام كفٍ تصفعه / قصيدة صفعة. التفاصيلية هنا كانت مختلفةً عما يتم طرحه حول " التفاصيل بوصفها تقنية قصيدة النثر " بل كانت تفاصيلية بشكلٍ مختلف يأخذ منحى الهذيان، فالشاعر يتعمد أن يقطعَ قصيدته فيلغي اللحظة الآنية من أجل اللحظة العتيقة بكل ما تحمله من تفاصيل عادية لكنها تحمل في طبيعتها الاعتيادية مجالاً للتدليل على حالةِ الشوق التي يشعر بها الشاعر تجاهها. وفي مكانٍ آخر يقوم حبش بالانتقال من فكرة خوان ميروالقائلة: " أكاد لا أفرق بين الشاعر والمصور " والموجودة في الحالة الظاهرية للقصيدة السابق ذكرها، ليضيف في قصيدته " اشتياق " متخيلاً آخر مختلف تماماً عن هذا الطرح لكنه ممزوج به، بحيث يُـكّون صورته الخاصة عن كل ما هو ميتافزيقي أو مبهم، إنه يعطي لنفسه المساحة لتشبيه أشياء محسوسة بأخرى لا وصفية / لا محسوسة، يقول الشاعر:
" أشتاق لطاولتكم الممدودة
كوجه الأرض يوم القيامة " (ص 12)
إنه في حالةِ الـ " اشتياق " التي يعرفها يمجد خسارته ويقدم لها القربان، لا أراه يضربُ كفاً بكفٍ، بل يحتفي بالخسارة صامتاً:
" ألعب معكم نردي الأخير،
أخسر، وأعلم بأني سأخسر
جميلُ، جميلُ، جميلُ جداً أن أخسر،
أخسر الدنيا معكم "

هذه التقنيات المتعددة التي يتنقل بينها الشاعر والتي أرى أنها نتيجة رائعة للتباعد الزمني والسيكولوجي والذهني بين القصائد تترك لنا أن نعيشَ كل حالة بشكلٍ منفصل، أي أن نتعاملَ مع كل قصيدة باعتبارها روح جديدة للشاعر. هنالك قصائد كانت بمثابة الإنجيل الخاص للشاعرفي تعامله مع الأشياء، مع الآخر، مع ذاته. لقد اختزلها الشاعر بشكل أيقوني كأنها قصائد هايكو لكنها تحمل كماً كبيراً من الاتكاء على المتخيل اللغوي – وهذا ما قد يتنافى ومفهومي الشخصي عن الشعر -، كما أرى في هذه الأيقونات فخاً كبيراً يقع فيه شعراء قصيدة النثر الذين يغرقون في التشبيهات، أعتقد أن حبش وقع في هذا الفخ حين كتب أيقوناته في قصائده مثال: " أوقات " و" بروج ".
"المساء استراحة محارب" (أوقات – ص 21)

لقد كان أسلوب الأيقونات منفراً بالنسبةِ لي، لكن سرعان ما تحول حبش لكتابة قصيدة تعبر عن مفاهيمه وعلاقاته مع الأشياء / الآخر / والذات بطريقةٍ أخرى جميلة جداً، وسر الجمال كامن في الحكمة التي يحملها، الحكمة في ربط الأشياء واستخدام الروابط بشكلٍ صحيح، مثال ذلك قصيدة " حـُبّ " التي ينسج فيها الشاعر صورةً جديدةً / متشائلة ( أي ما بين المتفائل والمتشائم ) نستطيع أن نرى عبرها الحـُبَّ كحالةٍ إنسانية خاصة لا عمومية رتيبة:
"إذا كنتم تحبون الشمس
فلا تطفئوا قناديلكم،
أما إذا كنتم تحبون القمر
فأخرجوا مثنى.. مثنى..
متأبطين بعضكم البعض." (ص 22)

أما في قصيدة " عقر بامتياز " فيكون الزمنُ مخالفاً لحالةِ الحبِّ المتشائلة، بل يتحول لحالة تشاؤم عصية تشبه الكابوس لذلك يريد الشاعر أن يتخلص منها بسرعة، كأنها فلم سريع أو مشهد عابر لا يرغب به:
"ما فات كان عثرات وما يفوت خيبات مزمنة. يوم انسحبت الشمس ولد العقل الحديد. يكتسي الرماد السواد وفي الظلمة يولد الطفل الشلل. منجل يحصد الضوء، الأصابع على الزناد، طلقة خرساء،
الموت... " (ص 23)

من جهة أخرى لا يهمل حبش اللغة تماماً كما يفعل شعراء قصيدة النثر، اللغة بوصفها وظيفة شعرية – ذات معنى وباطنية، لا بوصفها وظيفة إلزامية - ظاهرية، فعلى سبيل المثال لا تكون العبارات بكامل بساطتها بل أنها تلبس ثياباً جديدة يختارها الشاعر:
lt;وغطّ المقاتلون في سبات "أليم"gt;
lt;حاملاً مواثيق الكرد في جعبته " الأليفة "gt;
(فجيعة النزول من جبل آغري - ص 25)
lt;ومدينتي المؤنثة تلوح بكلتي "نهديها"gt; (رحيل – ص 28)

كما أنه استخدم الخلفية اللغوية للنص الديني ليجعل منها مفتاحاً لقصيدته في مدح الماء:
"سبحان من يعظم من شأني
ويسرف في مديح كرسيي العالي" (هتاف الماء – ص 44)

مرة أخرى يعود الشاعر لحالةِ الحُبِّ دون التلفظ باسمه، فيجعل من الأشياءِ الأخرى رمزاً للحُـبِّ الذي تذيبه القسوة والقبضة الفولاذية لكنه يبقى بكامل تألقه فينا. لقد جعل حسين من مدينته لساناً يتحدث ويرفض الصمتَ:
"مدينتي عشبك يذوي تحت خف الحديد " (قصيدة رحيل – 30)

لقد رأيت الموت بألوانِه الكردية في نص " السماء مزرقة الوجه، لكمها الشاعر بالقصائد "، فالموت هنا يصبح كالزهرةِ، بلا ملابسه الشاحبة التي جعلت الإنسان يحتشد ضده منذ البداية. الموت هنا يشبه الحب – الحرية – الحلم – و( الوطن ) !!.
أكثر القصائد التي لفتت انتباهي قصيدة " في مديح أبي " فهي بالإضافة لقصائد أخرى تظهر مثلث عشق يعيشه الشاعر ( الوطن / الأب / الأم ) هذه القصيدة بالذات لا تملك أيّ تصاوير أو تشبيهات أو مفارقات أو صفعات الخ.. إنها قصيدة خالية تماماً من كل ما هو مشوش وتمتلئ بالشعر فقط، الشعر المشابه لتلك الكلمات التي يتفوه بها إنسان عادي جداً – ومتألم جداً. وفي قصيدة " الفرات " يؤكد حبش على مثلثه الذي يعتبر بمثابة بيت لقصائده، الفرات هنا هومعادل موضوعي للأب كما أرى. حتى نصل لقصيدة " حسرة " التي لسعتني بشدة، فهي قصيدة قاسية في مرارتها، في وضوحها، في جرحها، إنها تشبه البكاء الذي يبدأ بحرقه ويسير في اللا نهاية، فهذا النحيب المستمر يخلقه الشاعر عبر حسراته في أنه لا يملك وطناً وبذلك لا يستطيع أن يمارس الكثير من الحريات، إنه في ذلك جعل البكاء طويل دون نقطة توقف، بينما رأيت أنه في ذلك جعل القصيدة تنساب من الصراخ نحوالصمت، كنت أتمنى لووقف في نقطة معينة بحيث يتيح للمتلقي أن يكمل ويتخيل صعوبة أن لا يكون الإنسان بلا وطن.
ليس لي وطن أخطُّ على جدرانه بطبشور الطفولة:
" عاش وطني ".
ليس لي وطن أتجرعه في الصباح مع فنجان القهوة،
مع شروق الشمس وتساقط الدفء عليه.
ليس لي وطن أكون رئته ويكون رئتي
أكون بحته ويكون صوتي
أكون الشقيُّ المشاكس المتمرد العنيد
ويكون الحكيم العاقل الرءوف الواسع القلب.
ليس لي وطن أكتب على نحاس بيت من بيوته:
هذا بيت حسين حبش أهلاً بالأصدقاء
ليس لي وطن أسكر في حاناته
حتى الهزيع الأخير من الليل
أتسكع في دروبه ويتسكع هوفي قلبي
ألبسه ويلبسني، أعاتبه ويعاتبني
كصديقين.
ليس لي وطن..

يا للجمال !! أوه لوتوقف حسين حبش لدى حسين حبش وهو يرحب بأصدقائه واضعاً نقطة انتهاء
كهذه (.)

http://mona0.jeeran.com
[email protected]