سركون بولص: هي نفس المعركة

إذاً بعد كل هذه السنين يسقط الطاغية، ليأتي بعده الطوفان. ..

عبدالقادر الجنابي: تقطّرَ الشِعرُ العراقي طوال النصف الثاني من القرن العشرين، تجاربَ بحيث كان يضطر إلى أن يستجيب لكل المتطلبات... لكن جزء كبيرا منه لم يُصبح إيقاعَ هذه المتطلبات، بل استبقها. عانى كل الكوارث، الحروب، التخيلات، النفي وبالأخص خيانة عدد من شعرائه لما كان يأمل منهم من سمو ورقي. مرّ بكل التجارب الطليعية، اللغوية والشكلية، بل حتى شهد بيانات موته... لكنه ظل يتراءى وكأنه رحّالة يبحث بلا كلل عن الحقيقة التي يقال إنها أخفِيتْ في بئر. فهو، آتياً من أفواه الذين كان يُنظر إليهم كمستسلمين، فرديين، مرضى ومنعزلين، لم يتوان، في بعض تجلياته، عن ملاحقة الأفكار حتى المتاريس، والشك في الإيديولوجيات وأضغاث الأحلام، حتى لا يقع في مطب الشعارات البراقة.
الحق أن انقلاب تموز 1968 كان هو بدء المرض... سبعينات القرن الماضي كانت هي السبيل إلى تشريد الشعر؛ حاسة الصدق الوحيدة لدى الكائن العراقي. بات الدم جزءً من مِداد الصورة... هناك من تَزحلقَ ومات، وهناك من تَشبّثَ وعاش... على أن الاستقصاء في صلب القول الشعري بقي جذوة مشتعلة لمعظم الشعراء العراقيين الفارين، خارجا وداخلا، من هذا الموت العربي الذي شهد تشييعه في التاسع من نيسان 2003.

من هنا نفتح ملف الشعر العراقي،

بطرح السؤال على على عدد من الشعراء العراقيين المتواجدين في الخارج وفي الداخل... بصفتك شاعرا عراقيا يعرف عن كثب ماذا يعني سقوط نظام صدام حسين وانتقال العراق إلى مرحلة ما بعد هذا النظام.. خلال العامين اللذين مرا على يوم التاسع من نيسان 2003 هل شعرت بانزياح لغوي جديد في كتابتك للشعر، أو بتغيير في مقاربتك الشعرية للأشياء... ما هي خلاصةُ تأثير سقوط النظام على مجمل مفهومك الشعري، وأي مستقبل تتوقع للقصيدة العراقية؟" "

كيف لا يؤثّرذلك في رؤية الشاعر للأشياء، وهو الذي قضى عمراً يتوقّع حدثاً مثل هذا؟ وكم أتمنّى لو كان بإمكاني أن أقول، كما قال بورخيس العظيم عندما سألوه عن رأيه بحرب الفولكلاند، بين إنكلترا والأرجنتين:" إنها معركة بين أصلعَيْن...حول مشط!" لكن بورخيس العظيم كان في عُماه، كما يبدو، قد أدرك أسراراً معيّنة أتاحت له أن يتسامى فوق ما نسمّيه بالواقع متى شاء. ومع ذلك، إذا أردنا الحقيقة، ففي حساب الشعر، كلّ الوقائع نسبيّة في النهاية، اعتماداً على ثقافة الشاعر، وعمقه أو ضحالته.
ولن تنكتب القصيدة إلا عندما تتحقق تلك"الرابطة العميقة بين التقنية الشعرية والوضع التاريخي"، كما يسمّيها شيموس هيني، وذلك في مجال حديثه عن شعراء إيرلندا الشمالية، في مقاله الموسوم "المكان والإزاحة". فالحدث السياسي وحده مجرّد واقعة، بين آلاف الوقائع، ولن تصير شعراً إذا لم تنصهر مع العناصر الأخرى في بوتقة القصيدة، إذا أردنا أن نقارن الشاعر بالسيميائي. وهي مقارنة ليس فيها الكثير من الإجحاف، خصوصاً وأن ما يتفاعل في مخيّلة الشاعر عندما يجلس ليكتب قصيدته، أقرب ما يكون لما يحدث عندما يلقي السيميائي في بوتقته بالمعادن المختلفة ليخلق "حجر الفلاسفة" (ولكن ربّما كان الشاعر، هنا، أكثر تواضعاً في مطامحه من السيميائي!)
أنا، عندما أجلس لأكتب قصيدتي، أحسّ بأنني ألتقط خيطاً خفيّاً يمتدّ الى قلب تلك المتاهة الحافلة بما لا نهاية له من الإمكانات، الحياتية واللغويّة، ويربطني بمجموعة المصائر والأحداث، بالتواريخ والمآسي والذكريات، التي هي مادّتي الأوليّة وتربة أحلامي الساحرة. هناك، أمام عين مخيّلتي، تمرّ المواكب وتندحر الجيوش، وينفلش التاريخ بأكمله أمام السلطان الوحيد الذي لا ينحني لأحد: هذه الكتلة من الكلمات التي نسمّيها بالقصيدة. صدام وبوش، ومن جاء بعدهما، ومن سوف يجئ ، بالنسبة لما يحدث من عمل شعري في هذه القصيدة، مجرد أطياف مُسيَّرة كأنما بخيوط محرّك الدُمى ، تعبر على خشبة المسرح وتختفي في الكواليس بعد أن أدّت أدوارها. رغم أن الرجّات والزلازل التي أحدثوها، وطوابير القتلى والقبور الجماعية، تتسجّل تلقائيّاً في التراكيب الشعرية، تحت السطح إن لم يكن عليه، وذلك عند الشاعر الذي دفع الثمن كاملاً، وكرّس حياته لخلق شكل جديد من الكتابة، هو، بحدّ ذاته، ثورة على تلك الأنماط التي تتغذّى عادة على أفضال السلطة، وهي التي تغذّيها الأنظمة العربية المتهالكة على الشرعية، الخائفة من القول الجديد، وتجزل لشعرائها العطاء، وتقيم لهم المهرجان تلوَ الآخر.
وعلى خلاف من يقتحم الساحة في هذه الأيام من بين هؤلاء، بمناسبة أو غير مناسبة، ليقدم لنا صكوك اليقين بشأن الأحداث الهائلة التي تجري في العراق، أجدُ نفسي متردّداً في تقديم رأي قاطع، أو حتى في الوقوف بهيئة العارف، أو التظاهر بأنني خبير من نوع ما، ُيدلي بآرائه وكأنها آيات مُنزَلة: أقول هذا لأنني بدأت أخاف من هؤلاء—من أسماء معيّنة تقفز الى المقدّمة بلهفة تبعث على الأرتياب---كلّما ألمّت مصيبة كبيرة بالشعب، في بلادنا المنكوبة بالمصائب.
ذات يوم، شبّه عزرا باوند الصحفيَّ المأجور بالجُـعَل، تلك الخنفساء التي تقضي حياتها في دحرجة كتـَل البراز من مكان الى آخر. ولكن بأية حشرة يمكننا أن نشبّه تلك الصحافة التي كانت تمجّد طاغية جباناً انتهى في جحر لا يليق سوى بالجرذان، هو الذي كان يتشبّه بحامورابي ونبوخذ نصّر وآشور بانيبال ( وهذا الأخير، على الأقل، إذا كان صاحبنا يعرف عنه شيئاً في الحقيقة، كان سيلقّنه درساً في فنّ الأنتهاء بكرامة: إذ أن هذا الملك العظيم، عندما عرف أن أعداءه العيلاميين وحلفاءهم وصلوا الى أبواب نينوى، عاصمة آشور، جمع نساءه وحاشيته ومقرّبيه حوله ، وأشعل في قصره النار). وبماذا نشبّه شعراء قبلوا أن ينشر لهم دواوينهم "الأستاذ" عدي صدام؟ وها هو البعض منهم عاد يصول ويجول ، ليقدّم أجندة هذه الجهة أو تلك، بل وينال الجوائز"لدفاعه عن الحرية" أو "نضاله ضد الطغيان"! انهم دفّانو الحقيقة، ودفن الحقائق يولّد أحقاداً دفينة، حسب فرويد ولاكان. وأدهى ما في الأمر، أنهم من الدونيّة والخسّة بحيث يعرفون أن النسيان الجماعي، أن لم يكن الجهل الجماهيري، هو صفة عربية بامتياز.

ولأن المجتمعات العربية كلها قائمة على أسس من الكبت والحرمان، الجنسي والثقافي، فالأدب العربي بالضرورة سيكون أدباً مكرّساً للكبت. انظروا كيف تشتهر أية رواية، حتى لو كانت تافهة وبلا قيمة أدبية، بمجرّد أن تتحدث عن الجنس بمقدار معيّن من الصراحة، وتخترق حاجز التابوات الديني. هل الأسلام حقاً بهذه الهشاشة عندما يتعلّق الأمر بالجنس؟ هل الجنس هو عِقبُ آخيل المؤسسة الدينية، بحيث لا يكاد أن يستتبّ لهم الأمر، حتى يُهرع الفقهاء الذين انتهت السلطة في أيديهم بالعراق الى تغطية النساء بالسواد من الرأس الى القدم، وكأن هذا أول الواجبات التي ينبغي القيام بها في عراق مدمّر، محتلّ، يترنّح على شفا الهاوية، ويكاد يغرق في بحر من الدماء كمركب محطّم ...
أقول أنني بدأت أخاف من هؤلاء، لأنهم يبدون لي الآن وكأنهم جزءٌ من الداء. وبدأت، في الوقت نفسه، أرى كم هم متورّطون في لعبة تقليدية بدأت أحكامها تتخلخل كصناديق من ورق تحت ضغط الأحداث المميت. فاللعبة تغيّرت، لكن اللاعبين يرفضون الأعتراف بذلك. وهذا ما يجعلهم مرشّحين للتحوّل الى ديناصورات تحمل فيروس انقراضها في خلاياها. أو على الأقل، الى نعامات تدفن رؤوسها في رمال الحاضر المتحرّكة بينما الأعاصير تهبّ من حولها، والأسوار تنهار، والمجازر لا تنتهي.
إذاً هي نفس المعركة التي ستبقى دائرة الى الأبد بين الشاعر الحقيقي والشاعر الدعي، بين من يتخذ الشعر مهنة ومن لا يقبل أن يُمتهَن شعره مهما كان الثمن...
وإذا كان ثمة مستقبل للشعر العراقي، فهو سيكون لمن يفهم هذه المعادلة.

***

عبدالكريم كاصد: لنقرأ مستقبل القصيدة في حاضرها

الشعر لديّ هو، في جوهره، انزياح لغويّ في تعامله مع الواقع، أيّاً كان هذا الواقع، وهو حتى في مقاربته للأشياء لن يتخلّ عن جوهره ذاك. ولا يعني تمسكه بهذا الجوهر ابتعاده عن مادته الحياتية التي هي الواقع وتفصيلاته الحاضرة في وجدان الشاعر العراقيّ، منذ روّاده الأوائل وحتّى الآن. وليس ثمة جوهرأبداً بدون تجلٍ عبر هذه التفصيلات وإلاّ كان مجرّد وجود خاوٍ لا يستوقف أحداً. إنّ فقدان المادة الحياتية، حتى في ما هو شعر صرف، هو موت له. وهذه المادة لن تكون أبداً سلطة أو حزباً أو مؤسسة لأنّ هذه أشكال.. مجرد أشكال لا تعني الشعر الحقيقيّ وإلاّ استحال الشعر إلى شكل فارغ لأشكال فارغة. ولا أعتقد أن سقوط النظام – على أهميته في تاريخنا الجماعيّ والشخصيّ – أسقط الأنظمة التي لا تزال تعبر عنه بأشكال مختلفة، متخفية وظاهرة.
هل سقط النظام حقّاً ؟
ألا نرى مظاهره هنا وهناك، مضمرةً أومجسّدةً، في ما نرى من نصبٍ، وشعائر تقديس، وعودة قتلة، وخطب جوفاء، ومفاهيم ميتةٍ، وشعراء مديحٍ عادوا بمدائح أخرى، ولغةٍ لا تعكس واقعاً بل وهماً، وصفقاتٍ تعقد علناً، ومؤسساتٍ خاويةٍ، ولعلّ الغائب الوحيد وسط هذا السيرك هو إنساننا العراقي البسيط المنسيّ، رغم حضوره المعلن باحتفاء بالغ في مظاهرالصخب هذه.
أمّا مستقبل القصيدة العراقية، فليس الأمر أمرَ عرافةٍ أو نبوءةٍ وإنما هو واقع يعبرعن ذاته عبر هذا الغنى الذي تمثله القصيدة العراقية ممثّلةً بأجيالها الحاضرة، ابتداءً بمن تبقّى من جيل الروّاد ومن أعقبهم من ستينيين وسبعينيين، وانتهاءً بهذه الأجيال الشابة القادمة بالشعر في الوطن والمنفى. أقول المنفى لأنّ الوطن مازال بعيداً.
إنّ مساحة شعر هذا حجمها يصعب الحكم على موتها أو تحديدها بنظام شهدنا موته قبل أن يموت، وبحكم نقدي مبتسر ما أحوجه إلى المعرفة أوالفهم : قراءة المشهد الشعريّ.
لنقرأ مستقبل القصيدة العراقية في حاضرها الآن لا في نبوءة أو عرافة.

أجوبة:

مؤيد الراوي وباسم المرعبي

أحمد عبدالحسين، سهام جبار، هاتف جنابي وأديب كمال الدين

ناصر مؤنس، نصيف الناصري، دنيا ميخائيل وعادل عبد الله

فاضل الخياط، عبد العظيم فنجان، عبد الرحمن الماجدي وحميد العقابي

برهان شاوي، ناصر الحجاج، طارق حربي وجمال مصطفى

صلاح نيازي، فاضل عباس هادي، بلقيس حميد حسن، عبدالزهرة زكي وقاسم زهير السنجري