في تجربته السينمائية الجديدة "الف شهر"..



قيس قاسم من ستوكهولم:بعد أخراجه ثلاثة أفلام قصيرة، فازت جمعيها بجوائز عالمية، وبعد وقوفه ممثلا أمام عدسات الفرنسي اندريه تيشينيه في "بعيدا" ولأكثر من مرة أمام مخرجين مغاربة، مثل، جيلالي فرحاتي ونبيل عيوش، يدخل فوزي بن سعيدي أول تجاربه الاخراجية، للأفلام الروائية الطويلة، بفيلم "الف شهر" الذي أراد من خلاله عرض رؤيته للواقع المغربي وتقديم أكثر مشاكله الحاحا بالكشف والاعلان.

شهر واحد.. ألف مشكلة
المشهد العام لجمع من أهالي قرية مغربية فقيرة، وهم يراقبون من فوق تل أجرد ظهور هلال رمضان، سيكون مدخلنا الى حكاية السجين السياسي عبد الكريم وعائلته التي هجرت المدينة وجاءت الى بيت والده عام 1981، العام الذي شهد اضرابات واحتجاجات سياسية على الواقع السيء الذي عاشته البلاد. ثم سيضيق المشهد بحدود مساحة بيت الجد أحمد (محمد ماجد) ثم أكثر بزوجة السجين، أمينة (نزهة راحيل) وأبنها مهدي (نزار المبيض). من هذة الدائرة الاجتماعية الضيقة سيشرع بن سعيدي جاهدا لنشر رقعة انعكاس مشاكلها وتمزقاتها على نطاق أوسع. وقد تكون أوسع مما يستوعبه فيلم درامي بهذة المواصفات الانتاجية والفنية. فالمخرج أراد أن يحلل ويعري الواقع المغربي ويشخص جذور وأركان مشكلاته دفعة واحدة، وهذا قد نحيله، تبريرا، بكون "الف شهر" هو فيلمه الطويل الأول، وما يمليه عليه هذا من رغبة جامحة لاستغلاله بأكبر قدر من الأتساع والقوة لتوصيل أفكاره ورؤياه من خلاله، خاصة وانه كتب سيناريوه بنفسه. أحال بن سعيدي مشكلات المغرب في أول الثمانينات من القرن الماضي الى منطلقاتها الاقتصادية ـ الاجتماعية العامة ولكنه وحين شرع في التفاصيل أقترب من ملموسيات المشكل وجزئياته، وقدر ان المثلث الخطر برؤس زواياه (الجنس، الدين، والسلطة بتمثلاتها السياسية) هو ما ينبغي العمل عليه.

القمع في دورته الواسعة
تكاد ان تكون هذة الزاوية الأخيرة محورا مركزيا ل"الف شهر". فالمعلم عبد الكريم دخل السجن بسبب نشاطه السياسي وأنتمائة الى الحركة اليسارية التي ساهمت في تحريك الاضرابات الجماهيرية، وهي التهمة التي حولتها الدعاية الرسمية الى عيب ينبغي التستر عليه، وهذا بالضبط ما فعلته أمينة ووالده عندما أخفوا سر سجنه على ولده وقالوا له كذبا ان والده قد غادر الى باريس بحثا عن عمل. وعلى نفس المستوى نقل المخرج مفهوم السلطة وتنوع تجلياتها الى أشكال مصغرة، نقل سلطة الدولة الى سلطة المعلم وكرسيه الذي أوكل شرف حمله الى مهدي. هذا الاعتبار المعنوي سيكسب مهدي أعتبارا تميزيا بين أقرانه وسيستر الى حد معين، المخفي من قصة والده. ثم يمضي بن سعيدي أبعد عندما يكشف السلوك الفظ والعنيف لرجال الشرطة ضد أمينة، حينما تجرأت وأحتجت على قرار الغاء موعد زيارة المساجين المعتاد دون اشعار مسبق. وسيظهر بمشاهد مدروسة بعناية، في نفس الوقت، أمتيازات رجال السلطة وسط قرية أطلسية بائسة يكاد القحط ان يغزوها، وفي شكل أخر لها تمثله، سلطة المعلم الهشة، الذي تتكفل القرية باطعامه، حين تعجز الدولة عن دفع مرتبه. ان ما نشاهده في " الف شهر" هو عبارة عن دورة من تبادل القمع السلطوي، تغذيها تربية دينية سيئة، لا مساس لها بقيمه. تربية تغذي الهيمنة الذكورية والسلطوية بأسم الدين، وتحول كل استغلال وامتلاك الى شرع وحق شبه سماوي، يعد رفضه موقفا من أشد المواقف الأخلاقية مدعاة للنبذ، مثله، مثل الواقف في رحاب زاوية الجنس، الممنوع الأكبر! فأي بوح واعلان صريح عنه، يضع صاحبه في خانة الكفرة والمارقين، وسيتصدى له أكثر المنتفعين من أمتيازات الحالة الاجتماعية المتخلفة بالوعيد والتهديد، بل بالقتل أيضا، وهذا ما واجهته الشابة اليسارية، مليكة، المعارضة للقيم البالية والمتحمسة للتغيير والانعتاق. واحد من أجمل تناولات الفيلم، والتي تأتي في هذا السياق، أستغلال مسؤل المرسلة التلفزيونية لسلطته المهنية. يقطع متعمدا، نهايات الأفلام والمسلسلات عن مشاهدي برامج التلفاز، ثم يذهب لحبيبته سرا ليحكي لها نهاياتها، لوحدها فقط، فتشعر بنشوة التميز، وهو بنشوة القدرة والتحكم.

فاق اجتماعي
يكشف "الف شهر" كل هذا النفاق الاجتماعي ويعيريه. يبدأ من الكرسي، هذا الرمز السلطوي الذي سيسرق، وبه تنتهي سلطة التلميذ مهدي، سيتعرض للاهانة والضرب. الوعظ الاخلاقي للجد، والخوف من علاقة أمينة بصديق زوجها القديم، سينهار، بسرقته كرسي المعلم وبيعه لأحد تجار الخردة، والذي بسببه، وبعد انكشاف أمره، سيضطر الى مغادرة القرية، مع عائلة أبنه، الى مكان مجهول. انتحار المعتوه حسين خاتمة لنفاق سياسي أخر، أراد ان يخفي سر جنونه، فنسبوه الى خيانة زوجته له وليس لغيابه الطويل في خدمة عسكرية مطمومة الوجهة. نفاق رجال الدين في أعلانهم الكاذب لموت مليكة. وأكثر تجلياته سطوعا، دور المسؤل الحكومي في جني الضرائب لمعلم المدرسة ووعوده الكاذبة لأبنة القرية الشابة، التي أغوتها، فتركت حبيبها هائما، سكرانا. والأخطر ان مهدي سيعرف سر غياب والده، وان الرب لم يقتل مليكة، بل قتلها مغاربة أرادوا اسكات صوتها العالي. كشف فوزي بن سعيدي كل هذا، ولم يقدم حلولا جاهزة له، أكتفى بقديم صورة لمرحلة تاريخية عاشها المغرب وأراد ان يبقي ظلا منها لما هو قادم، ينسحب على الحاضر، اذا ظل هذا المثلث حيوي التأثير!.


شراكة انتاجية.. نجاح فني
كل هذا الزخم من العرض السينمائي أحتاج الى جهد ابداعي كبير توفر عليه بن سعيدي وفريقه. وأكثر ما أثار انتباهي على المستوى التقني هو الإنارة. لقد لعبت دورا مهما في تقريب المناخ المكاني والنفسي لأبطال فيلمه، كما ان جودة التصوير والصوت، تتطلب منا طرح موضوع جدير بالمناقشة، وأعني فكرة الفيلم المشترك. ف" الف شهر" ليس فيلما مشترك الانتاج ماليا فقط، بل هو مشترك العمل الفني أيضا، فالتصوير تولاه انتوني هيبريل و الإنارة باتريك مينديز، كل هذا يدعونا الى تحديد مفهوم الفيلم المشترك وفروقاته عن مفهوم الانتاج المشترك السائد اليوم. والمهم حسب رأي هو الحصيلة الفنية النهائية من هذة الشراكة، فجودة "الف شهر" مثال مقنع عليها. ولا بد أخيرا من الاشارة الى بعض النواقص التي سجلناها، مثل طول الفيلم، الذي أسقطه في مللية وبطأ، كان يمكن تلافيها بحذف بعض المشاهد المطولة من حفلة الزواج. كما ان أسقاطات مسرحية ظهرت في بعض مشاهده، مثل سقوط فنجان القهوة من يد أمينة عند دخول الجد الذي عرف بوجود صديق ابنه في داره معها. كما يشعر المراقب بتقارب أسلوب شغل " الف شهر" مع شغل نبيل عيوش في فيلم "علي زوا" مع الاعتراف الصريح بموهبة فوزي بن سعيدي وقدرته على توصيل ما يريد قوله سينمائيا.