في اللحظة التي يتخلّص فيها الخطاب الثقافي - السينمائي من مناطق تأثيره الملازمة له عبر مهيمنات عدة تتوجه حينا إلى ذلك العالم واسع الآفاق الهادف للتقارب الهادئ، المسالم ظاهريا لحاجته زحزحة الصراع خلال اعتدال إنهائه، فانه يبقى يعبّر بأساليب مختلفة عن اعتقاده الراسخ بفكره النفعي، إذا أراد الإشارة – حصرا - إلى أشياء لابد للعين الغربية أن تراها في إطار حسن النوايا على الأقل. فقد يبدو المستقبل مفتوحا تماما، إن كان تصميما متعددا لإرادات متجاورة وممدودا في الأفق لكافة مستخدميه؛ منتجين للخطاب ومتلقين له، لكن بصيغ تسمح لنا أيضا بتمييز موُجّهات هذا الخطاب وتحليل أنماطه في محاولة جادة لبلورة موقفنا الثقافي من عالم صناعة الأوهام.
إن ما يمنحنا الاعتدال في محاكمة (الغير) هو بالضبط، السياسة الحذرة التي نتبِعها للسيـطرة على دوافعنا إضافة شيء ما لصورة (الآخر- موضوع الخطاب) ومن زاوية تستعيد لمحا من أقاصي الإدراك أو اللاشعور. فالسينما خطاب والخطاب قد يكون فلماً، والفيلم هنا هو : "نزوة متمردة " وله أن يُعيننا على تأمل الجمال و امتلاك المتعة، ثم معرفة هوية المتكلم على وجه التحديد. فإذا نظرنا إلى الخطاب المكتوب يبدو التقاط المضمر فيه أيسرُ للقارئ من تتبعهِ في الصورة المرئية – واسـعة الإغواء، رغم اشتراك كشوفاتنا في الحالتين بعناصر الثقافة / المرجعية والتذوق والانتباه، حيث [ من المؤكد أن أيّ خطاب يتحدد بمحموله ولكن إلى جانب هذا المضمون الواضح، ثمة آخر لاشعوري أحياناً، ومضمر دائماً..]*


•الفيلم في مغامرة اكتشاف :
فيلم المخرج "جيل ماكينن " (نزوة متمردة) المُنتَج لصالح محطة "بي.بي.سي" أعتُبر بمختلف القناعات فيلماً متميزاً يحتاج من المُشاهد وقفة متأملة، لا سيما أنه معالجة مُتروّية لنص روائي قصير بنفس العنوان للكاتبة (إستر فرويد) كان بمثابة سيرة ذاتية عن حكاية والدتها وأختها، اضطرت المخرج (ماكينن) لإجراء بعض التبديلات الضرورية التي يتطلبها الفيلم المأخوذ عن نص أدبي.
يبدأ الفيلم برسم واقع الحياة الشعبية اليومية وسحرها في قرية مغربية ضاجة بألوان مختلفة من الحيوات، مسكوبة في لوحة قوامها الهجرة والتنقل والبحث الدائم عن الأمان، كأنها منافذ متعددة إلى عمق واحد. هو عمق الشخصية الرئيسية "جوليا" التي لا يثنيها الاختلاف الكبير في الحياة وإغراءاتها عن البقاء وفيّة لنزوعها نحوَ الهدوء والاستقرار الداخلي الذي تُظهر تعلقاً شديداً به. فقد دفعها خوفها من حياتها السابقة وانعدام المعنى فيها للمجيء إلى الشرق بحثاً عن حرية أخرى واطمئنان روحي، ربما تجدهما بعيدا عن الانتهاك واللامبالاة التي تطبع حياة الغرب.
قبل ذلك نعرف إن (جوليا – الممثلة كيت وينسلوت) تركت لندن بعد أن هجرها زوجها فجاءت للعيش في بلدان المغرب العربي. وبإشارة زمنية خاطفة نعرف أن الأحداث تدور في ستينيات هذا القرن. "لجوليا" بنتان صغيرتان هما (بيا و لوسي) تمثلان بمشاكستهما مرآة صادقة لانعكاس عشرات الأسئلة الجوهرية التي حتّمها المناخ الجديد والغريب، مدفوعة بقوة استيطان الفضول والنزق في أعماق الشخصية الطفولية حين تواجه ما يقلق تصوراتها.
من الجانب الآخر يظهر (بلال – ينظر دلالة الاسم) كشخصية أخرى هامة في تطور أحداث الفيلم. إنسان بسيط وعميق، يائس وحالم، شخصية منسجمة مع نفسها وَدُودة، تربطها صداقة نقية بالزائرين الجدد "جوليا و بنتيها " فهو إذن الطرف اللازم لمعادلة سينمائية شديدة التعقيد.
مرة أخرى نحن أمام ثنائية الشرق / الغرب (يبدوا أن استخدام كلمة ثنائية هنا غير مرغوب فيه، لأنه يُجذّر المفارقة بين الطرفين أكثر مما يَصِفها) إذا حاولنا الاعتراف أن "جوليا" كقيمة، تستقطب معظم تلك المعطيات بإعجاب كبير، فتجتذبها متحركة وفاعلة على أرض الواقع، أكثر من بقائها مجرد تساؤلات نظرية ذات علاقة فريدة بالمصالح الفردية أو الجماعية، فإننا قد لا ننسجم - ربما -مع الطرح الذي يضع تصورات مُسبَقة تهدف إلى إبراز (الغرب) مركزاً للصورة بينما إطارها (الشرق).
بالنسبة لمن يَعدّ "جوليا" الذات المركزية في الفيلم، فهو مُقاد لتصور "بلال" على أنه (الآخر) في مقابل تلك الذات أو المحايث لها. على هذا النحو سنكون أمام [ شخصيات موضوعية تعني على الأكثر، مجموعاً من المواقف والحالات والآراء التي يتقاسمها الناس في لحظة ما من تاريخهم..] هذا المجموع هو ما ندعوه "بالآيديولوجيا "يقول "تودوروف".


فما هي النقطة الآيديولوجية في هذا الفيلم؟
حتى لا نعتبر تصوراتنا نهائية فإننا سنفترض أن حقيقة الشرق في الفيلم لم تكن أكثر من خلفية الصورة المتحركة، نكهة مُحبّبة تُرضي المزاج الغربي، فيتلهى بها. حتى ونحن نجهد لملائمة تصورات مسبوكة ومنسجمة لفرضيتنا تلك، ما هي إلا دقائق تضاف إلى مجال التوغل نحو عمق نجده في الوقائع، تُتيح لنا التخلّص من أحكامنا وافتراضاتنا المُسبقة. فيبدو الاستسلام لنزوع تلقائي في التأويل أنجع في تحصيل المتعة مع هذا الفيلم الذي يستمر في التنازل عن نمطيات السينما المُغرِضة إلى حد ما.
بعد صداقة إنسانية رائعة تتوّطد بين "بلال" والطفلتين من جهة، وبينه و"جوليا" من جهة أخرى (مع ملاحظة الصداقة لا الحب، كإطار واسع للعلاقة الإنسانية التي يُندر طرحها في السينما عامة) تنتقل الشخصيات من مكان إلى آخر مروراً "بمراكش المدينة" لتتعرف على الكثير من الأفراد والعادات والقيم اللافتة للانتباه بأقيسة العين السائحة "جوليا" لكن للوهلة الأولى فقط، متبوعة باندماج تلقائي في المجتمع المغربي يُنسينا –كمشاهدين- ماضي "جوليا" الذي خضع واقعياً لإحساس الاختبار الشخصي. أعلينا أن نتساءل إذا ما كان اختيارها واقعاً براغماتياً يُؤمّن لها الحماية؟
شيئاً فشيئاً تتطبع "جوليا" على نمط الحياة الجديدة وتعلّم أطفالها إن هذه هي حياتهم وعليهم تقّبلها، سيما الاستمتاع بها. إلى الدرجة التي تتشظى فيها هذه الضرورة المتعايشة معها لتصل مرتبة التصوّف الديني، بروح مُجرِبة على أقل احتمال. وبارتداء الحجاب العربي تأخذ "جوليا" في الصلاة والعبادة مثل إيقاع مُلازم لروح البؤس وإثارة هذه الروح بالحزن والفرح، اليأس والأمل.
لن يبدو هذا الأمر بالنسبة لـ "جوليا" نطاقها الضيق بعد لقائها بالشيخ "عبد الجليل" الذي يُغرقها بحديثهِ المُؤثّر.وبين أن تكون هذه صورة أو فكراً اعتقاديا مُعبّراً عنه بالسلوك الديني (جوهر حياة العرب وملاذهم الأخير)، لن يتجسّد في المسألة ما هو أكثر من الاعتقاد القديم بمبدأ الشرق الروحي. بينما في الارتباط العميق بين مشاعر الناس والفضاء المرسوم لها، ثمة مَسحة شاعرية فريدة من نوعها، تُزيل التوتر عن المواقف العنيفة، ويُترك للموسيقى الشعبية وأنغام "جيل جلاله" أن تتحدث عن حياة البشر وظروفهم القاهرة مثلما تتغنى بمباهجهم وأحزانهم نغماً مشحوناً بعاطفة كبيرة. الأمر الذي يُسرّب لنا الاعتقاد "أن على الإنسان أن يتبعَ ما هو صحيح، مهما توجه سعيه بعيدا ".
على أية حال سنحتاج إلى عناية فائقة نُوليها لكل لقطة في الفيلم. وإذا صـح [ أن الذي تغيّر في الخطاب عن " الآخر" هو طريقة توجيه الاتهامات فقط ] فهل يكمن خلف "الصورة السينمائية" المعتدلة، نفس الدوافع المعروفة في هكذا نوع من الأفلام، بدءاً بـ –لورنس العرب- ؟
ربما في الوصول إلى مُعترك السياسة، ما يُشعرنا أننا نقف عند حافة خطرة لها شكل دوامة، لكن لّلذي يتحصّن وسط الدائرة، حرية إبصار حقيقةَ كل الجهات !
سنرى إنه،إذا كانت الأفكار هي أيضاً ما يتمثّل في الفيلم على نحو جيد، فإنه اقترب إلى حد ما من الحدود اللازمة لفهم طبيعة حياة الشرق نفسياً واجتماعيا، وحاول الإجابة عن أسئلة مؤكدة، مثل :
1- إلى أي حد يمكن للشخصية الأجنبية أن تتآلف في غير موطنها وأن لا تبقى غريبة في نظر الآخرين؟
2- ما الذي يُشكّل عنصرا حاسماً في تحديد النظر إلى الآخر : اللون، العرق، الدين، الجنس؟
3- أحقاً إن الوجدان الإنساني واسع الامتداد، هو المخبأ الحقيقي الوحيد الذي يمكن للبشر من مختلف الأجناس أن يَتَوحدوا فيه؟
مع اختلاف آراء "بلال و جوليا" إلا إنهما يلتقيان بمعاناتهما وحسهما الإنساني، ففي الوقت الذي يُمثّل "بلال" الفهم المحافظ لواجب الخضوع إلى مفردات الحياة المختلفة (الأيمان، العمل، العائلة) و الالتزام الحقيقي بها. تتطلع "جوليا" للإنعتاق من مسؤوليات كثيرة (الزواج،المؤسسة، البيت) يَفرِضُها الآخرون في المجتمع بشكل يُشوّش رغبتها في إطلاق حياتها، سمة لفهمها المتحرر. إلا أن الأمر الذي يُحسب لصالح الفيلم، أنه لم يظهر معنياً بهموم فكرية مجردة يمكن للعقل أن يحسمها، قدر محاولته دفع مغامرة الشخصية إلى براءة الاكتشاف خلال تصاعدها الدرامي كقصة ممكنة ومكتملـة. حيـث أن تحـوّل " جوليا " إلى متصوّفة – امرأة متدينة بالمعنى التقليدي – أَمنّ لها حرية الاندماج مع شعب يواجهها بالارتياب والتوّدد. وجعلها في الوقت نفسه مكروهة من بعض قومها الإنكليز في المغرب. الأمر الذي ألغى فوارق أخرى كان لها أن تولد لو كانت " جوليا " تلك الإنكليزية المُتَعجرِفة صاحبة المال والنسب الرفيع. ولأنها بلا مال وفير، بقيت عاجزة عن اكتشاف مكامن السلطة التي للآخرين. وهذه نقطة أخرى هامة ذات دلالة حاسمة في جدل الإنسان والمجتمع. حيث تشعر " جوليا " إنها أقرب إلى طبقة العاملين والفقراء بواقعها وأحلامها، منها إلى الطبقات الأخرى. فليس سواها من أمضى أيام حياته ينتظر حوالة مالية ربما ستأتيه من لندن مع ما يمكن أن تجلبه معها من أحلام مشروعة، لكن مؤجلة. وخلال انتظارها الطويل لمبلغ من المال قد يأتيها من زوجها البعيد يُعينها فيه على تحملِ حياتها الشاقة، نكتشف في نهاية الفيلم، إن تلك الأحلام لن تكون سوى تذكرتين للسفر، لا يسعهما إلا أن يفتحا الطريق المعاكس أمامها للعودة إلى موطنها من دون محمول سياسي في (وعيها الشقي) الذي بقيَ إنسانياً منزوع الغايات مع إن [ الوعي هو السلاح الأول للسيطرة على (الآخر)، لأنه يحوّله إلى (موضوع)، في حين لا يمكن للموضوع أن يتحولَ إلى وعي]
تختلُ موازنة الفيلم في بحر العودة مجهول القاع. وقبلها كانت الشخصـيتان "الشرق / الغـرب" معـبرتـان عـن شيء ثابت من نمطية النظر إلى"الآخر". فـ"بلال -الشاب القروي" لا يصدق أن "جوليا – المرأة الإنكليزية " لا تملك المال، فهل يعقل أن الإنكليز لا يملكون ؟ مثلما يعتقد البعض إن كل النساء الغربيات عاهرات أو رخيصات، أو إن كل الشرقيين عبيد يباعون ويشترون بسهولة. ان وُجد ذلك كإيحاء في ذهن المخرج أو كاتب النص، سيعني انه تلاشى في هوية الصداقة الرائعة التي ربطت مصير الشخصيتين بشكـل جعـل افتراقهما في المشهد الأخير صورة مؤسية حزينة، لكن واقعية.
هل يعني ذلك استعادة مضطرة لمقولة "الشرق شرق، والغرب غرب،
ولن يلتقيا " ؟
ربما في مشاهدة هذا الفيلم الذي حرص مخرجه "جيلس ماكينن" على تصوير لقطاته المؤثرة في المغرب العربي ببراعة تعاضدت في الأجواء والموسيقى والأداء المميز للممثلة الإنكليزية الأصل "كيت وينسلوت" والممثل المغربي الشاب "سعيد تغماوي"،ما يُخفف الإيقاع الآيديولوجي الرهيب الذي يُردد دائماً :
أن اختيارا آيديولوجيا ما لنظرة يحملها (الآخر) عنّا، تُحتم بالطبع (أخرى) مماثلة نواجهه بها !
أليس في فيلم " نزوة متمردة " ذلك الأفق الجميل الذي يُمثل دعوة خجولة للذهاب نحو أخلاق جديدة، تحترم حقَّ الذات في وجودها، ناهيك عن استقلالها، وتؤشر للتقارب الممكن في إنسانية الفن قبل التقاطع البشع في لامعقولية الواقع ؟


* ما بين الأقواس الكبيرة [ … ] نقلا عن مقدمة " تودوروف " لكتاب "الاستشراق " لـ إدوارد سعيد. الثقافة الأجنبية. ع 3 / 1992.