-1-

بدأ يوسف شاهين عمله في السينما مبكراً جداً… فور عودته من دراسته من أمريكا عام 1948، وهو لا يزال في الثانية والعشرين من العمر. وبعد عام من ذلك كان يخرج فلمه الأول (بابا أمين) عام 1950. وإذا تذكرنا أن معظم دراسته الثانوية كانت في مدارس خاصة (أجنبية)، وانه أمضى سنتين في أمريكا لدراسة السينما قبل بدء عمله السينمائي… فإنّ صعوباته لم تكمن في اللغة العربية ونطقها وفهمها فقط، ولكن ربما حتى في طريقة تفكيره وحياته، خصوصاً أن عائلته قدمت من لبنان أصلاً لتسكن الإسكندرية الكوسموبوليتانية. لكن عشقه للسينما كان أقوى من كل عوامل الاغتراب والتغريب في حياته التي ارتبطت بالسينما في كل جوانبها؛ وأقصد السينما بالمفهوم الواسع كصناعة وفن وأداة لخدمة التغيير الاجتماعي والسياسي. ولأن السينما يصعب أن تكون فناً ذاتياً أو فردياً أو جمالياً محضاً، فقد قادت "الخواجة جو" في رحلة طويلة لمعرفة مصر وأهلها وفكرها وحضارتها. وفي هذه الرحلة اكتشف (جو) ذاته وأصبح (يوسف المصري) المنغمس في حب مصر وهموم مصر: بفلاحيها وكادحيها ومثقفيها وفنانيها. إن مراقبة شاهين للعالم وجدَلَه مع هذا العالم تفجّر من خلال أفلامه؛ كل فلم كان يحمل فكرة جديدة أو اكتشاف لفكرة جديدة، ثم محاولة التعبير عنها سينمائياً. أحياناً كانت هناك أكثر من فكرة، وربما ازدحم الفلم بالأفكار … فيفلت من سيطرة شاهين، ويترك المشاهدين – وحتى النقّاد أحياناً – ليتخبطّوا في التفسيرات والاسقاطات الرمزية والنمطية على الطريقة التي سادت في العالم العربي منذ منتصف الستينات – بفضل الرقابة طبعاً – واستمرت حتى نهاية الثمانينات تقريباً. إذ انتبه المثقفون مبكراً الى أن أعمال شاهين السينمائية تحمل أفكاراً ورسائل سياسية على الخصوص ... وبدل أن يكتفي هؤلاء بالاستمتاع بالفن "الشاهيني" والانتباه الى نقاط قوته وضعفه وجمالياته مثلاً… فإنهم هلّلوا للسياسة والرسائل السياسية والاجتماعية في هذا النتاج الفني الغزير.
وعلينا أن نعترف، إن رسائل شاهين كانت رائعة وعلى مستوى فني رفيع، عميقة وتطعننا في الصميم أحياناً… على عكس الرسائل السياسية المقولبة والجاهزة في أفلام هذه الأيام؛ أن تدخل في منافسة مع عامل يهودي أو صهيوني في هولندا، أن تحرق علم إسرائيل لأنك لا تستطيع التكيّف مع الأجواء في الجامعة الأمريكية او غيرها من الكليشيهات المكررة. وبينما كان شاهين في أفلامه يبحث عن العدو الداخلي ولا يزال كذلك حالياً الى حدٍ ما… فإن كل السينما الجديدة تنطلق من ان كل شيء على ما يرام في حياتنا في العالم العربي، لولا هذه اللقيطة بنت اللقيطة "إسرائيل"؛ التي تمتد أصابعها ومخالبها إلى الزراعة والصناعة والسياسة العربية، وتطارد حتى المهاجر العربي وتلفِّق له التهم وتصنع له المشاكل والصعوبات حتى في المهجر!
إن كثيراً من النقاد والكتاب في مصر انتبهوا مبكراً لهذه الفجاجة في إقحام المواضيع السياسية في أفلام تجارية، فأطلقوا عليها اسم البهارات الوطنية أو صلصة الإثارة السياسية، وهي مرض شائع في آداب وفنون وإعلام معظم دول العالم الثالث؛ حيث تنفجر السياسة أو الخطاب السياسي فجأة، بمناسبة أو بدون مناسبة، في أعمال تبدو بعيدة تماماً عن هذه المجالات. أن النجاح التجاري والشعبي لهذه الأفلام التي تعتمد على نجوم الكوميديا الشباب ظاهرة تستحق الدراسة والتحليل الجدي باعتبارها واقعا سينمائيا واجتماعياً لا فرار منه إلى سنوات قادمة. وللحق نكرّر، إن شاهين أروع بكثير فكرياً وفنياً وتقنياً من كل هذه السينما … وربما كان أصحاب السينما "الشبابية" الجديدة يقلّدون شاهين أو يستنسخونه بسذاجة ومباشرة، لإضفاء بعض الجدية والاحترام على أعمالهم التي تمجِّد "العبط" والهبل، وتتعامل مع النماذج البشرية "الغليظة" بطريقة غير إنسانية وبدون أي احترام، فقط من أجل إضحاك المشاهد و"شفط" نقوده. وبالعودة الى شاهين، وبناءاً على اعترافاته وحواراته الكثيرة في الصحافة والتلفزيون ومع العديد من السينمائيين والكتّاب… فإنّه يبدو مستمتعاً بلعبة الاكتشافات الفكرية والسياسية والتعبير عنها سينمائياً منذ بداية عمله في نهاية الأربعينات، أي قبل أكثر من عشر سنوات على الأقل مما يعتقد معظم النقاد والمشاهدين.


-2-

لكن اكتشافات شاهين الفكرية والسياسية كانت تتحول الى "دوغما" أو عقيدة تتكرّس سينمائياً في أفلام. ثم تتطوّر هذه "الدوغمات" أو تُراجع أو تُنقض أحياناً في أفلام لاحقة، مع تغيّرات شاهين والعالم الذي يعيش فيه، وكذلك مع إدراك شاهين لأهمية دوره في الحياة الثقافية والفنية في مصر والعالم العربي، وتصاعد دور وأهمية السينما ثقافياً وإعلامياً في هذا العصر الميديائي/ الصوري. وقد يبدو نوعاً من الظلم أو التجاوز إطلاق كلمة دوغما "السلبية" على رسائل أو خطابات شاهين السينمائية، لكن ما يبرِّر ذلك : هو دفاع شاهين المستميت عن أفلامه ورؤيته السينمائية والصخب الذي يثيره أينما حل، فيجلب الانتباه الى شخصه باعتباره مبدعاً لهذه الأعمال أو "مفكراً" و"ناشطاً" من نوع خاص. وبالتأكيد فإن سينما شاهين تستحق دراسة نظرية مطوّلة أو حتى أكاديمية لتحليل "الخطاب" الشاهيني ولغته السينمائية، باعتبارهما الأكثر تمثيلاً للسينما العربية في أرفع مستوياتها ثقافياً وفنياً.
أن أهم "الدوغمات الشاهينية" التي ترسخ في وعي المراقب لهذه السينما وبعد سنوات من المراقبة أو المشاهدة تبدو : بسيطة أو عفا عليها الزمن أو انتقائية أو ذاتية أو تساير الموضة أحياناً… لكن المهم هو النظر إليها بكلّيتها وحسب تسلسلها التاريخي والاجتماعي أيضاً، والأهم من ذلك كلّه هو النظر إليها باعتبارها اكتشافات ذاتية حقيقية عبّر عنها شاهين بصدق في المجال الوحيد الذي يجيد التعامل به اكثر من أي إنسان آخر: السينما.
1- العائلة البرجوازية سيئة – بابا أمين (50)، عودة الابن الضال (76)، إسكندرية ليه (78)، حدوتة مصرية (82).
2- المدينة سيئة بالمقارنة مع الريف أو القرية – ابن النيل (51)، الأرض (69).
3- المدينة سيئة بسبب تحكّم المال في العلاقات الإنسانية – المهرج الكبير (51) … والعديد من الأفلام اللاحقة.
4- المال سيئ جداً وهو يتحكم بكل البشر في كل مكان – سيدة القطار (53)، صراع في الوادي (54)، صراع في المينا (56)، أنت حبيبي (57) …. ومعظم أفلام شاهين.
5- المال ليس سيئاً جداً دائماً، بل ضرورياً أحياناً …. وخصوصاً لسفر شاهين الصغير للدراسة في أمريكا– اكتشاف متأخر في فلم إسكندرية ليه (78).
6- الرجل سيئ أو عاجز أو ضعيف مقارنة بالمرأة – معظم أفلام شاهين تتضمن نقداً عميقاً وقاسياً للرجل كذكر مستبد.
7- النظام الملكي في مصر سيئ بذاته – صراع في الوادي (54)، الأرض (59)، إسكندرية ليه (78).
8- البرجوازية سيئة، صغيرة كانت أم كبيرة – معظم أفلام شاهين وعلى الأخص : فجر يوم جديد (64)، الاختيار (70) وكذلك الآخر (99).
9- الاندماج سيئ، لكن الامتثال أسوأ. هاجس البحث عن الاختلاف والتفرّد – باب الحديد (58)، فجر يوم جديد (64)، الاختيار (70) عودة الابن الضال (76).
10- المثقف سيئ بسبب عجزه وتخاذله وازدواجيته – الأرض (69)، الاختيار (70)، العصفور (73).
11- السلطة سيئة بذاتها - العصفور (73)، عودة الابن الضال (76)، المصير (97).
12- الغرب سيئ مقارنة بالشرق، لأنه متعالٍ واستعماري منذ زمن بعيد – جميلة الجزائرية (58)، الناصر صلاح الدين (63)، وداعا بونابرت (85).
13- أمريكا سيئة جداً لأنها مصدر أو سبب معظم مشاكلنا المعاصرة؛ الصراع العربي – الإسرائيلي، الإرهاب الأصولي، العولمة، صراع الثقافات والحضارات – الآخر (99)، إسكندرية/ نيويورك (2004).

يبدو شاهين "منتمياً" تماماً الى هموم وطموحات شعبه في مختلف مراحل سيرورة نضال هذا الشعب، كما يبدو "منتمياً" للطليعة المثقفة والواعية في العالم العربي، ومعبِّراً عن الأفكار والشعارات التي سادت في مراحل تاريخية مختلفة. لقد استخدم شاهين السينما – وحياته أيضاً – بصورة خلاّقة الى ابعد الحدود للتعبير عن هذه الأفكار والطروحات. وفي النهاية، نؤكد أن استخدامنا لمفهوم الدوغما أو المعتقد لا ينطوي على أي تضمينات ميتافزيقية أو غيبية… لكنه يسمح لنا بالاقتراب من طريقة التفكير الشاهينية، التي لا تفصل العمل السينمائي والنضال السياسي/ الفكري عن بعضهما وعن حياته الشخصية أيضاً. بالطبع تظل في النهاية تساؤلات كثيرة عن قدرة هذه السينما على التعبير عن هذه الخطابات أو "الدوغمات" بشكل مُقنع، مفهوم، وفني ….