بيان سلمان من باريس: بعد انهاء دراسته في مجال السمعي/البصري في انقرة، شهموس داكتكن يسافر الى فرنسا عام 1987 عازما على تعلم لغتها واستخدامها كوسيلة تعبير عن حواسه الشعرية. كانت بالنسبة اليه أشبه ولادة ثانية، إذ لم تمض سنوات حتى أخذ يبرز كشاعر فرانكفوني له نكهة تختلف عن كل شعراء الفرانكفونية. ولد سنة 1964 في حارن احدى القرى الكردية جنوب شرقي تركيا. لقد أصدر عدة دواوين بالفرنسية من ينها "مسالك الليل" (منشورات كاستور استرال، 2000) الذي فاز ب جائزة العالم للشعر

الفرانكوفوني لسنة 1999، "شرايين- شمسيات" (منشورات هارمتان، 1997). غير ان حدثه الأدي اليوم في فرنسا هو روايته "ليلاً، لدن المنبع" التي صدرت مؤخرا عن اكر دار نشر فرنسية روبيرت لافون.

عند قراءة هذه الرواية، ندخل مع الراوي قريته واصفا الاحداث من زاوية محددة لضمير المتكلم الاول"أنا" ساردا في حاضر غا ئب طفولة ممتدة من ماضي يكتنفه الرموز ونظام موحد لعالم منغلق على ذاته. انه تأريخ شخص وفي الآن ذاته تأريخ جمعي يشمل شعبا بأكمله. يمتد أحيانا ليشمل العالم.
لماذا المنبع؟ ولماذا في الليل؟ ان يختصر تاريخ أناس نفسه في رمز منبع يعانق فيه الليل ليس الا: إنه يمثل عنصرا مما يؤلف الحياة بل كرمز يمثل الحياة في الآن ذاتها. اذ "أنا" الراوي تمتزج ب "أنا الجمعي" التي تسرد الأحداث تارة تحت ستار"نحن" وتارة مستترين تحت "أنهم قالوا لنا" من هنا نتأرجح بين تواريخ زمنية متباعدة في المسافة والزمن، تتقارب بالكتابة إلى حد نشعر فيه بأننا نعيش مع هؤلاء، داخل حصانة التقاليد والأعراف، في زمنهم وإن كنا في قلب عالم آخر تتحكم فيه العقلانية. الماء، التراب، الهواء والنار عناصر تكوين الخلق والكون تواجهنا خاصية كل عنصر منها وتدخلنا في لعبة السيرورة مع الزمن. فمنذ بدأ الرواية يوجهنا الرواي في تلك القرية "العالم المصغر" افقيا وعموديا "كنت صغيرا. قريتي كانت صغيرة، عرفت ذالك فيما بعد. ولكن حين كنت صغيرا بدت لي كبيرة، كبيرة بما فيه كفايه لتخيفني حين اجبرت للانتقال من جهة الى جهة أخرى. كانت مثل أن أجبر عبور سبعة بلدان وثلاثة قارات، بحار وجبال لا حد لها. أو أن أجول السماوات بعلوها والاراضي بعمقها" ص7. في هذه القرية المنعزلة قضية الموت والحياة تفرض نفسها لتغدو الارض مصدرا للحياة والموت "كل شيء يعود الى التراب " ضمن ذاك الدوران أيضا تنتمي شخصات الرواية للقرية ليلتقي الرمزالزمني للسلحفاة مع المنبع الذي يفجرطاقة البحث عن المجهوول مثلها مثل السفينه التي تؤدي الى مغامرة البحث عن عالم آخر غير هذا الساكن، المنجمد داخل فضاء المقدس عند أناس يعيدون أنتاج الماضي، رواة تأريخ شفهي بأمتياز حيث: "قالوا لنا الكبار" ليس الا تسجيلا في المجهول من قبل اللامعلوم، معطيا الكلمة الاخيرة لراوي "اصلي" ليس الا "هم، الاسبقون"اللذين انتقل الكلام منهم وتداولتها شفاه عن شفاه.
من هنا نتلمس ايضا البعد الديني الطاغي على النص، ترتيل آيات قرآنية، تساؤولات تصطدم بتساؤولات أخرى دون أجابة منطقية، ظاهرة كسوف الشمس تعلن لهم نهاية العالم. عالم محكوم بترصد قوى خفية وبأختبارات قدرية عمياء: "قالوا لنا الكبار، يمكننا التساؤل لماذا نرضخ للأختبار حين نحاول تنفيذ إرادة الهية" ص142. "قالوا لنا إن الله في حكمته المطلقة، أراد أن يكون مصدر النور ومصدر العتمة على السواء." ص89.
"مصدر" ما يعني ايضا امنبع حيث يستلزم الأ مر بعض التوقف: فالمقصود بالمنبع هنا نبع محدد حيث يجمع بين الشفافية وعتمة الليل، بين أن يمثل مكانا للتجمع ومحلا لخلق السرد، بين أن يكون مكانا ولا مكان، بين أن تعيش طفولتك في ذالك الزمن وتنتج منها عالما متخيلا مبنيا على تناقضات .
بناء الرواية تبدوا كسيره ذاتية غير أن الفصول التي تتعاقب دون تسلسل زمني وعمربعض الشخصيات التي لا تحدد بدقة وكأن النسيان قد طوى الذاكرة بين "نسيانات"أخرى تبدد فكرة السيرة عندنا ونذعن الى نص تخييلي لا يخلو من وصف شعري.
الرغبة المكبوتة لأشخاص الرواية تدفع بهم ال خوض مغامرة نحو مجهول، أي مجهوول الا البقاء في ذاك المكان المحكوم بالانهزام أمام المعقول: "أن تمتلك قدما في المجهوول" ص92، ليس الا إ ستطرادا في البحث عن مخرج من ذالك الفضاء المغذى بألاوهام وقصص تحاك قرب نيران المواقد الشتوية حيث الموت والحكاية تتجانس لتولد نوعا أخر من أعجوبة اقرب شبها بأحلام تقطع من منتصفها حيث صدمة الواقع الموقضة تعلن شيئا آخر بين ثكناتها. لذا أن يمس شاب يد فتاة اعطته قدح ماء أو عنقود عنب هي ذروة الوصول للذة ليست مختبرة الا داخل قصص حب تراجيدية(ص50) حب يلتقيان فيه الموت والرغبة وجها لوجه مع نجمة دليله الأم التي تجسد الحب، الارض والموت بالتالي لانها المرشدة للقصة الخالدة "قيس وليلى" ولان الأم في هذه الرواية تأتي بالجمع في أكثر من مكان:" أمهاتنا"، ثم تحدد "بأم واحدة" حين تشير الى نجوم تحمل معنى العشق في تناص مع قصة مجنون ليلى مروية على لسانها لابنها: "حين عودتنا من زيارة ليلية، تحت سماء صافية متخمة بنجوم، والقمر في تمامه، أرتني أمي نجوم العشاق، نجمتيّ ليلى والمجنون(...) وفي نهاية الزمن، تحت إمرة سلام ألمهدي المنتظر، سينزلهم الله على الارض ليكملا عشقهما "ص144
ليس كل الناس لهم حظ قيس وليلى بالسكن في النجوم فالراوي يُؤول الموت حسب منطق الاسطورة، فالانسان "العادي" بعكس هؤلاء حين موته تسقط نجمته على الارض تعلن قبل الآوان موته، بينما العاشقان يعتليان السماء وتتناسخ روحاهما في نجمتين وحين ظهور المهدي المنتظر يعودان للارض "للحياة" بهيئة آخرى. "إنه صحيح ما قيل لنا، أن كل كائن له نجمته في السماء وعندما حين موته يموت معه نجمته، وهكذا فحشد النجوم الساقطة كل ليلة مختفيةً من السماء هنّ كائنات تختفي من الارض" ص68
كم الموت قريب في ذاك المكان وكم يجتاح مخيلة الراوي حين يعطي للموت جسدا حيا في حالة تجمع بين فظاعة أن يولد الموت بجسد وبين شعرية لا تستهان بها: "الجائع مخيف، يصير مخيفا بجوعه لأن الجوع كان اعلانا للموت. انه الموت بصورته المرئية " ص110. اللون الابيض للقطن لا يمكن أن يكون الا تذكيرا للفراغ الذي يملأ حياة القاطنين في القرية، صورة مستترة كوجه أخرللارض تحمل بذرة الحياة والموت معا حيث لا يصدق الراوي عينيه وهو يعلن: " قلت لنفسي، بياض القطن تلك لا يمكن أن يخرج من الارض" ص155. كمثل "الفراغ اللامرئي، سهل لا نهاية له" ص153 إثارة للوحشة التي تكتسح الراوي من الخارج نحو داخل النفس لتستقر مكونا سمة التسييج بالوحدة وإن كان الآخرون حوله. ومن جهة أخرى غرق القرية في طوفان عزلة تستلزم سفينة نوح لانقاذها. عزلة تنعكس صورتها في أدوات تترجم حب متبادل بين شبان وشابات وفي صفة مرآة مهداة من احدهم تعكس بدورها تأريخ العشق المحرم في قرية نظامها مبني على اعراف متأصلة الجذور في السلفية حتى ان الراوي يستغرب من سرعة انتشار الأخبار التي تسبب في تحطيم الغرام بين اثنين ولم يكن من شواهد سوى تلك الأدوات المتبادلة: "أخواتنا أو بنات أعمامنا المتقدمين عنا في ألأشياء الحياتية والأكثر تمرساً لرقصة الغبار، استقروا داخل شعاع من أدواتٍ مثل مشط او مرآة مقدمة من احبائهن أو خطابهن(...) وكان ذاك ايضاً أحد الالغاز التي لم نصل لفكها. خلف كل شجرة عين، تحت كل حجر أذن. كيف يمكنه معرفة كل شيء، أن يدور بسرعة فائقة ويعود جارحا قلب البعض، وآذن البعض الآخرين؟ " ص49
كيف ينسى احدنا لغة أمه؟ هذا ما يحاول الراوي أن يشرحه لنا بصيغة لا تخلو من رثاء وتهكم. أن يحلّ لغة الأب(بما يعني لغة نظام الاحتلال) محل اللغة الاصلية مظهرا الشخصية حقا كطفل يتمرن على استعادة القدرة على التكلم بعد عودته من الخدمة العسكرية، في ذاك العالم العشوائي وكأن القرية بكل ما يحتويها من تناقضات تحمل سّر صيانة اللغة ونقلها وإن شفويا! "لم اتعرف على الزوج إلا بعد خدمته العسكرية، كان قد نسيّ لغة ناحيتنا كما حصل مع رجال آخرين من قريتنا حين عودتهم بعد انتهاء الخدمة ودون أن يتعلموا كثيرا مما استخدموه في الجيش(...) شيئا فشيئا تمكن الرجل من العثور على اللغة المتداولة في القرية "157-158
"حكاية المنبع ليست الا واحدة من حكايات أخرى"ص208. يقر الراوي، وكأن العالم كله حكاية شاملة قطعت أجزاؤها لتروى كقطع تتماسك في نهاية المطاف كما المنبع يمثل المصدر، الأصل. ففي كل بقعة تتداول الحكاية ملازمة لتأريخ وشروط شعب ما. ومن هنا أيضاً فصفة "حكاية" تعطي بعداً شفهيا على السرد مما تضيف قوة على دقة استخدام الكلمات وتوظيفها بما يلائم الغرض ويوصل المعنى. ففي ذاك العالم، عالم طفولة الراوي وموطن اغترابه، لا يعثر على خيط ربط الاحداث سوى تعايش الاحداث مع من وجد في القرية فالحكاية هي حكاية الجميع اذ ليس هناك شخصية رئيسية . فالصوفي يوسف يتحول الى شخصية رئيسية حين يخصص له الراوي صفحات يتكلم عن ورعه وأسلوب ترتيله القرآن، وهكذا صفحات للعمة وزوج العمة. المنبع لوحده يمثل شخصية تحتل كل رموز الرواية وعن طريقها نخترق عتمة الليل حين يسود أسطورة الوحش الرابض على المنبع ولا يَعلم إن كان ثعباناً أو تنيناً أو جنا يسكنه: "على شاكلة المنابع المتناثرة حول القرية، منحصرة في ثلاث اتجاهات فغدت مرتعا للجن، للتنانين، للوحوش، وبفضل حكايات الكبار هذه الصخور والكهوف المحيطة بقريتنا صارت مع الزمن موطناً ثبتت فيه آمالنا، منابع أخذ يولد فيها خوفنا " ص218. كل ذالك يضيف غموضاً على حياة اهل القرية وهم يقتاتون من زاد حكايات خلقت من وحي اوهامهم ولن أقول خيالهم.
وهكذا فالقرية بمنازلها معتلية قمة جبل على شاكلة سفينة أهلها في طريقهم لتعلم الف باء كشف الالغاز" كانت قريتنا سفينة ونحن ركابها اللاواعون، مبتدئون في المعرفة والوعي" ص27. القرية أيضاً شخصية محورية حين يرهن الامر بموطن الحبكة فتسقط في رمز المنبع المتشعب الى ثلاثة فروع " كانت منازلنا على شاكلة المنع" ص28 ومنها ينسج الراوي صورته الأخيرة حيث ينهي الاحداث دائرياً بصورة تسكن مخيلته معقبا الأثر الذي يتركه ماض منته لحاضر محاصر داخل كتابة يلتقي فيها السرد من حيث بدأ بالقرية لينتهي عند المنبع: "رسائل لن أنتهي من زيارتها، من ظلال هاتيك الاشجار التي تسكن حاضري(...) آثار ملأتها من رسائل مع الذئب، القمر، الماعز، تحت سماوات متغيرة، عابراً من لغة لأخرى، من الف باء لآخر، مثل ما تغيّر دابة في مشوار طريق، لارتقاء الليل، عند النبع" ص 230-231