موجعةٌ هي الساعات الأخيرة …طنينٌ في الرأس …دوارٌ …بكاءٌ في القلب …حشرجة أنينٍ في الداخل…حشرجة أنينٍ في الداخل …في جوف الصدر، في القلب …..، القلب …أو ظل عندي قلبٌ لم يسحقه الذلّ بعد …أو عندي شيءٌ لم يسحق بعد ….!
قبل دقائق كانت التاسعة …يا إلهي كم هي متلاحقةٌ دقات الساعة …كخيولٍ هاربةٍ من حريقْ ….، أقسم أنها بالكاد كانت التاسعة …وها هي تشير إلى العشرون …الثلاثون …ال…، أشحت بوجهي وألتفت إلى هذه المتعلقةُ بأهداب جلبابي الرثّ …!
بنيتي …قلقٌ باكرٌ في عينيك …يا الله … أو يمكن لمن في مثل عمرك أن يقلقْ …!
تحوم حولي …تتعثر … وما كان في بيتنا البائس ما يمكن للمرء أن يتعثر به …!
أحملها إلى صدري …تلف ذراعها الصغيرة حول عنقي …تدس رأسها الصغير بوجهه الشاحب تحت ياقة جلبابي …يتناهى لسمعي صوت نشيجها الخافت الكسير …أمتلئ بالعار لأني أعجز عن طرح سؤالٍ صغير … لماذا تبكين يا بنيتي …؟
أهدهدها بين ذراعي …تهدأ أنفاسها قليلاً… تزداد تشبثاً بعنقي …يود رأسها الصغير لو إنه يفتح نفقاً في صدري للولوج إلى جوفي …!
أشدها بدوري بقوة …أود أن أبكي …أود لو جرؤت على أن أبكي …ربما لأتطهر من عار انتمائي لهذا الوطن الذي يأبى إلا أن يتجرع دمي …ليرتوي …!
أو يرتوي وطني …وقد شرب ملايين الإقتار من الدماء منذ عشرات السني….؟
أو يرتوي …؟
أتابع الغدو والرواح، جيئةٍ وذهابا في هذا القفص المستطيل الذي أسميه تجاوزاً بيتي … وما هو إلا قنّ دجاجٍ وما هو إلا بيت الدولة الظالمة التي أنتمي لها قسراً …!
أجول كأسدْ سيركٍ أو …فأر سيركْ ربما، فأنا أوهى من أن أكون أسداً … أو ظل في بلدي في هذا الزمن الأغبر… أسود …!
فأر سيرك …فأر مختبر … فأرٌ أصغر بكثير من حجم تلك الشظية التي ستقتلني في الغد أو بعد الغد أو في المعركة العبثية القادمة، بعد أسبوعٍ أو أثنين، وكم من معارك مرّة، وكم من آلاف مثلي ذهبوا بآلاف من الشظايا الصغيرة، بحجم الفأر …الذي هو أنا …!!
ترتخي كفها الصغيرة بأصابعها النحيلة، تفلت ياقة جلبابي … تفلت عنقي …وليتها لم تفعل … إذ كنت آمناً تحت قبضتها، كنت أمني النفس بهروبٍ آخر من شظية عدوي المنتظرة عودتي باحتقار لتنسلْ إلى صدري … سريعةٍ …ساخنةٍ كجمرةٍ من جحيم الرّب الأزلي ال لا أبالي … الهرم …القصي عن تحمل مسؤولياته تجاه خرافهْ …!

****
_ نامت ….!
هتفت بآخر هزائمي، التي كانت مشغولةٍ تلك الساعة بآلام العظام وفوران الدم الملوث في الأوردة والشرايين …!
-أحضر لك حقيبتك …( همست بصوت كمواء قطةٍ جريحةْ، ونهضت متعكزةٍ على ركبتيها ) ….!
وقفت برهةٍ أراقبها وهي تصرّ بضع أرغفة خبز وبقايا عشائي الذي لم أطق التهامه ( ومن أين لي شهيةٌ وأنا ذاهبٌ الليلة إلى حتفي ).
ابتلعت ريقي … كدت أغص به … إذ تطلعت إلى الساعة السوداء الوقحة، شعرت بألمٍ إذ وخزني مؤشرها الأسود وهو يحوم حول العاشرة.
حين ألقيتها برفقٍ على سريرها، ألتفت إلى الأخرى، تعالى أنينها المرعب من جديد :
-سلام …أضنني لن أحتمل الألم وحدي هذه الليلة …!
وهذا ما كانت تقوله طوال الأيام العشرة التي أزفت، ولو بقيت على هذه الحال فسأعدم وأنا على سرير زوجيتي البائس …!
-كلا …ولا ليلة أخرى …!
-وأنا …وأبنتك …و….!
-اللعنة …وأنا …على الأقل ربما أعود في الإجازة القادمة بنصف ساق أو ذراعٍ واحدة أو بلا ….( شعرت بالغثيان وفاض بي القرف وأنا أتخيل مشهد ساقي بلا شيءٌ من رموز الذكورة الشرقية الزائفة يتوسطهما … اللعنة …) … أما أن بقيت …!
وخرجت بقامتي الطويلة الخاوية كجذع نخلةٍ بلا رأس ….
-أنتظر …
-هرولت مجدداً جهة المطبخ … تناهى لسمعي صوت صنبور الماء …
تناولت رأسها الصغير ، لم أجرؤ على رفعه إلي … كنت أعلم أن الوجه مصفرّ مثل ليمونةٍ عصرت للتو … وأنا لا أجرؤ على ذبح الوجه الذي سلف للمرض أن ذبحه …!
قبلت أعلى الرأس وخرجت …
أضطرب أناء الماء في يدها، حين تناولت أكرّة الباب … :
-مع السلامة …
-أقرأ آية الكرسي …( هززت رأسي موافقاً، حركت شفتاي في تلاوةٍ زائفةٍ لآيةٍ لا أذكر منها إلا السطر الأول ).
- أذهب …حب…..( وتهدج صوتها …)، ورمت الماء خلفي …شعرت بالرذاذ يصفع أسفل ساق سروالي العسكري الكالح السمرّة …!
حين بلغت المنعطف، ألتفت … كانت لما تزل واقفةٍ تلوح لظهر ظلي المثقل بالذلّ والرعب والأسى …!
ترددت قليلاً …رفعت يدي بتثاقل … ومضيت …إلى حتفي …!