ليست المرة الأولى التي يفكر فيها بالأمر... لكنه اليوم وفي هذا الصباح المغبر صحا على ما يشبه القرار، لم ينهض من السرير، متابعاً التحديق في سقف الغرفة، منصتاً لنداء غامض وطرق على أبواب لم يفتحها في حياته.

قال لنفسه.. ليكن ما يكون..

وفي اللحظة التي جلس فيها على طرف السرير استيقظت أم العيال من نومها كعادتها منذ ثلاثين عاماً، كشيء مبرمج مسبقاً، فعندما يجلس على حافة السرير تفتح عينيها، وفي اللحظة التي ينهض فيها واقفاً تجلس على حافة السرير، يتحرك خارج الغرفة، تنهض من السرير، يدخل الحمام، تغادر الغرفة، يتغوط مطلقاً العنان لفرقعة غازاته، تصنع القهوة، يغسل وجهه باصقاً لخمس أو عشر مرات متتالية، تضع صينية القهوة وسندويشة الجبنة وكوب الماء البارد قرب النافذة المطلة على حديقة عامة تحولت مع الوقت إلى خلوة لكل من ضاقت به الدنيا بحبيبة أو صاحبة، أو قريبة محرمة، يغادر الحمام، تدير قرص المذياع على إذاعة صوت الشعب، يجلس قبالة القهوة، تقول له صباح الخير، ليقول لها... أهلين... بصوت مبحوح يخرج عنوة من فمه.
في هذا الصباح لم تتغير أجندة الحراك اليومي، باستثناء الأفكار التي كانت تراوده، فهو عادة ما يقول في اللحظة التي ينهض فيها من السرير... اللهم نجنا من شر هذا النهار... أما اليوم فقال... سألحس أم سامر من رأسها إلى أصابع قدميها، سأعضعضها وأضاجعها طوال النهار رغم أنف أبو سامر.... وأبو سامر هذا هو الصديق الأوحد له في هذه الدنيا إلى جانب صلة القربى التي كانت ولاتزال مدار فخر متبادل.
فكرة مثل هذه كانت ولغاية بضع ساعات فقط كارثة أخلاقية كبرى، لكنها الآن بدت عادية جداً، هو يعرف أن أم سامر مهجورة منذ ما يزيد على عشر سنوات للعنة أصابت عضو زوجها قبل الأوان بكثير، ولطالما أحس بتلك النداءات الخجولة التي كانت ترسلها دون أدنى اكتراث منه، ولكن لماذا أم سامر..؟ هو يفكر بانسلاخ أشد عن حياته السابقة، يبحث عن شيء يشبه السقوط في هاوية لا نهائية، أن يطلق سراح الشر المدفون في داخله سرباً من الغربان السوداء، تغطي سماء مدينته المتجهمة منذ فجر التاريخ.
سأفتعل في أكثر أطفال المدينة براءة...
لعلها الفكرة الأكثر شناعة، وأقصى ما يمكن لمخيلته المتقدة الوصول إليه، وضع السيجارة في فمه مبتلعاً بقايا القهوة الباردة قبل ذهابه إلى الحمام من جديد، وهي خطوة كانت كفيلة بإرباك أم العيال وجعلها عاجزة عن الحراك من مكانها، لأن ما حدث هو خرق عنيف للبرنامج الصباحي، فهو لا يدخل الحمام مرة أخرى، والسيجارة التي كانت في فمه كان عليه رميها من النافذة باصقاً خلفها، في الوقت الذي تكون فيه قد سبقته إلى الغرفة التي يدخلها على عجل، تسلمه جواربه، وبنطاله المكوي بعناية فائقة، ومن ثم القميص ليكون الحذاء جاهزاً للانطلاق، يشرب كأس الماء، يقح قحتين لاثالث لهما، متجهاً نحو الباب، تقول له كما هي العادة منذ سنوات... ماذا أطبخ اليوم... ليقول لها كما هي العادة... خرا... صافقاً الباب خلفه، تاركاً أم العيال ليوم جديد من الانتظار والملل وخاصة بعد أن كبر الأولاد ورحلوا.
إنه الان في الحمام، المرأة تسترق السمع، تحاول إلتقاط الأغنية التي كان يدندنها، كان يغسل جسده ويتحسس أعضاءه بطريقة تفقدية، لفّ المنشفة حول جسده، متجهاً إلى الغرفة أمام حيرة أم العيال التي حاولت استرجاع سيطرتها على البرنامج اليومي المخترق بطريقة سافرة جداً، فهو لا يقف أمامها عارياً، الأمر أفرحها، شعرت بمتعة شبه منسية، ألقت بثقل نظراتها على عضو زوجها، كانت نظرات مصحوبة بدغدغات طفيفة بين فخذيها.

شو أول مرة بتشوفيه... عبارة أعادتها إلى توازنها المعتاد، لبس ثيابه المكوية بعناية، دخل حذاءه مسرعاً إلى الخارج دون أن يشرب ماءه البارد، أو أن يقح، فقط كان مسكوناً برغبة الخروج إلى أي مكان وبسرعة.

حسناً.. ماذا سأفعل الآن ؟ سؤال فرض نفسه على الرجل المسكون برغبة الانزلاق في نزواته الموؤدة منذ أن أدرك معنى الرغبة، وأحس مفاتنها، وها هي المدينة منبسطة أمامه، استنشق هواءً وسخاً... «لطالما أحببت نفسي أكثر من أي شيء، لطالما أردت أن أكون شيئاً مختلفاً عن هذا الذي أنا فيه» ... قال ذلك بعد أن قرر المشي إلى أن تختمر الفكرة في رأسه، مفسحاً المجال لعينيه أن تلتهما أجساد النساء، كل النساء اللاتي يعبرن من أمامه، وكان يخمن أن هذه لاتزال عذراء، وتلك حليقة العانة، وأخرى لديها واحد وردي اللون، وعاشرة أسود بحبوب ناعمة نافرة، خيالات جعلته أكثر حماساً، وقدرة على الجنوح نحو أفكار ومساحات لا متناهية من الأحلام والشهوات التي كان يقمعها بشتى أنواع القمع، عاودته عبارة يجدها الآن ساذجة ومملة، عبارة حفظها عن والده وظل يرددها كلما شاهد امرأة جميلة... «صُن أعراض الناس إن أردت الله أن يصون عرضك» .. لقد صنت أعراض أمة محمد وعيس يا أبي ولم يتوان عبود بائع المازوت عن اغتصاب ابنتي الوحيدة، الحياة ليست بهذه السهولة والبلادة، هي حادثة قلما تغيب عن ذاكرته، وحتى هذه اللحظة ليس له تصديق كل الأدلة الجنائية والطبية التي أثبتت أن عبود لم يغتصبها، وأن لولو هي التي استدرجته إلى المنزل بإرادة ورغبة مجنونة منها، قصة قديمة وانتهت ولولو الآن على زمة مساعد أول في الجيش والقوات المسلحة، رجل مستور، لكن وكما يقال عنها والله أعلم إنها لا تزال تتابع انتصاراتها لبائعي المازوت وعابري السبيل وصغار الكسبة.

هذه الذكرى كانت كافية لإشعال النيران في صدر الرجل، أن تملي عليه المزيد من الرغبة في الانتقام، قال لنفسه ربما كنت مخطئاً باستسلامي المفرط لأحقية القدر أن يفعل ما يشاء، أعرف أن حياتي لم تكن سيئة لهذه الدرجة لكنني نسيت نفسي تماماً، نسيت أن الحياة هي الفرصة الوحيدة لشيء من الإشراقات السعيدة، لطالما كانت سعادتي صدى لنجاحات الآخرين، حسناً... الولد.. هو الشيء الوحيد الذي سيشفي غليلي ويقضي على الحسنات التي أضعت عمري في ارتكابها، عبارة تشبه القرار النهائي، أختتم بها سيلاً من الأفكار الباردة مطلقاً لأقدامه حرية البحث عن الهدف.
ولكن ما الذي حدث على الضفة الأخرى من الحكاية، فإذا أعدنا الشريط إلى الوراء قليلاً، سنجد أن أم العيال وباللحظة التي أحكمت فيها إغلاق الباب خلف زوجها، بعثرت كل ما وقع أمامها، شعرت بأن شيئاً ما انفلت منها، أو بالأحرى حالة من طفحان الكيل كما حدث مع زوجها تماماً، رغبة التغيير تجاوزت اليوم كل أساليب إلهاء نفسها في تغيير الديكور، زرع عشرات الأنواع من النباتات، تبديل بلاط الحمام، تفصيل ستائر جديدة، حتى مكنة التريكو التي اشترتها منذ مدة قصيرة لم تعد تعنيها، حطمت ما وصلت إليه، مزقت ثيابها لتقف أمام المرآة شبه عارية، إنها ذات المرآة التي شاهدت نفسها فيها تكبر وتتبدل ملامحها رويداً رويداً، لكن مرآة اليوم قادتها إلى عوالم كانت غائبة عنها، عوالم منسية بفعل الزمن والعفة المفتعلة، عاد إليها منصور الذي مات بعد زواجها بسنة واحدة، وحده منصور كان الأقدر على استلابها تماماً، وحده الذي تخطت جرأته إخوتها الأربعة وأسوار المنزل العالية، ليأتيها كل ليلة إلى فراشها ويمارسان الحب حتى ساعات الفجر الأولى، صحيح أنه لم يكن يلجها وحافظت على عذرية غير منقوصة، إلا أنه كان يأتيها من أمكنة لاتزال تُفضلها، باختصار كانا يمارسان فجوراً كاملاً وسرياً إلى أقصى الدرجات، فجور انقطع بعد أن ساقها القدر إلى والد أولادها، رجل يمارس كل شيء وفق الأصول، كان فحلاً وكانت تستمتع بقوته الجنسية، إلا أن روتين الممارسة كان كفيلاً بقتل إحساسها باللذة، وأصبحت ذروتها معه تشبه شرب الماء أو أي شيء مألوف، كان روتينياً لدرجة أنه وفي إحدى الليالي لعق صرتها وتابع نزولاً إلى عانتها، كانت لحظة استثنائية لم تكتمل، لأنه سرعان ما أوقف كل شيء ليعتذر منها، وأن الذي حدث لن يتكرر ثانية، فقد كان ينظر إلى زوجته بشيء يشبه القداسة والإيمان، وأن هذه المرأة لم تُخلق لمثل هذه الأفعال. إذا لم تكن أم العيال بأحسن حال من زوجها فقد كانت هي الأخرى تلبي نداءً رعوياً مقموعاً، بفعل التصنع والعجز عن المكاشفة، والأولاد الذين جاؤوا الواحد تلو الآخر، أسرة مثالية لم يعكر صفوها إلا قصة لولو الوحيدة بين أربعة ذكور، فيهم الطبيب والمهندس والمعيد، والصغير الذي التحق بالكلية العسكرية، جميعهم متزوجون والحمد لله، سعداء والحمد لله، لديهم منازلهم والحمد لله ،أعضاء عاملون في أكثر الأحزاب السياسية رواجاً والحمد لله.

أم العيال اليوم تتقد كشعلة، هي تعرف أن العطار لن يصلح ما أفسده الدهر، لكنها أرادت أن تعيش يوماً استثنائياً، أن ترمي حجرة في بحيرتها الراكدة، أن تتنازل عن الدور الذي لعبته طوال حياتها كممثل أصيب بلعنة الدور الواحد.

طرقات متقطعة على الباب، أجفلت المرأة، أخرجتها مذعورة من خيالاتها، لفّت على جسدها برنس الحمام ومضت بثقة بعد أن تذكرت موعدها مع أم شوكت، وهي امرأة استثنائية بدأت حياتها كخاطبة وساهمت اسهامات مشرفة في تزويج المئات، لكنها مع الوقت وازدياد طلبات وشروط الزبائن اختلطت عليها الأمور، فراحت تزوج الراغبين بذلك، وتقوّد لمن يرغب بعلاقة عابرة، وكانت بلا أدنى شك تشعر بالدور الذي تلعبه وتستمتع بنظرات الامتنان التي كانت تصلها من الرجال والنساء الذين أغدقوا عليها ثروة لا بأس بها، غير أن التحولات التي مرت على هذه البلاد لم تتركها وشأنها، فالناس لم يعودوا بحاجة لمن يزوجهم بعد أن انكشف الجميع على الجميع، فاكتفت بالقواد، ولكن حتى هذه المهنة تغيرت أساليبها ولم تستطع اللحاق بالمتغيرات، فما كان من أم شوكت إلا أن وجدت لنفسها مخرجاً بالتركيز على النساء المفجوعات بفحولة أزواجهن واللاتي وصل بهن الملل أقصاه، إلى جانب الباحثات عن الجنس بأساليب مبتكرة، هن حزب من النساء اللاتي يبحثن عن المتعة ويرفضن الخيانة أو بناء علاقة مع رجال آخرين، وأم شوكت لديها الخلطات العشبية والوصفات المجربة، أفلام إباحية، أعضاء ذكورية صناعية من كل صنف ولون، سلاسل معدنية، عصي، هي في نهاية المطاف نعمة حقيقية لكل من يحتاجها.
تأخرت يا أم شوكت... هذا ما قالته أم العيال بعدما تنهدت جالسة تتنازعها مشاعر الخوف والخجل والرغبة في انجاز ما عزمت عليه، اقتربت أم شوكت منها... أنا لا أتأخر أبداً، مواعيدي تضرب بها الأمثال، وعلى كل حال أخبريني وجعك
آه... أنا متعبة جداً، وأم شوكت لا تحتاج للكثير من الجهد لتعرف تماماً وجع مريضها، فهي تراقب الوجه، حركات الأطراف، طريقة النطق، وغيرها من الإشارات التي اكتسبتها مع الوقت والخبرة على امتداد سنوات مهنتها.

هيا يا فاضلة... إملئي حوض الاستحمام بماء فاتر واغلي هذه العشبة مع القليل من الشاي، قالت أم شوكت هذا بينما كانت تمرر يدها بين فخذي أم العيال متحسسة لحمها الطري الدافئ وانفعالاتها.

صاحبنا كان مغلوباً عليه تماماً، ثمة ما يقوده من عرقوبه، إنه وفي هذه اللحظات يقف قرب إحدى رياض الأطفال، اختار منطقة فقيرة لتكون سيطرته وقدرته على الإغراء أكبر، ثمة ما يملي عليه رغبته الجامحة بالانتقام من أي شيء وأي شخص.

- كيف ستجري الأمور يا ترى ؟
- على أحسن ما يرام.

- ولكن كيف سأفعل الأمر؟
-عليك استدراج الفريسة بعيداً عن أعين القطيع كما تفعل الذئاب والكلاب البرية، القليل من النقود وقطع الشوكولا كافية لإنجاح الخطوة الأولى.

لطالما أحب أولادي الشوكولا، ولطالما كانوا ينتظرون عودتي لأفرغ لهم ما في جيوبي وظلوا يفرغونها إلى أن كبروا، ملأوا جيوبهم وغابوا في الحياة، كانوا أطفالا رائعين، يا ترى هل كانوا يوماً ما عرضة لما سأفعله اليوم؟ ابتلع لعابه بعد أن باغتته نوبة غضب جامحة، نظر من حوله ليجد أنه ليس الوحيد الذي يقف ومعه كيس مليء بالشوكولا، أكلّ هؤلاء ينتظرون فرائسهم أيضاً، فمنهم من كان يسترق النظر من بوابة الروضة، والبعض يقف على ناصية الشارع، ومنهم من اختار البقاء في سياراته.

- تأخروا... أليس كذلك ؟
- آه... آه...نعم.

- أظن أني أراك هنا للمرة الأولى.

- في الحقيقة نعم .

- أنا المهندس «فلان الفلاني» ولي ولد وبنت في الروضة.

- أنا « فلان الفلاني» أيضا .

- حقا.. يا لها من مصادفة.

- لابد أنك تأخرت في الزواج ليكون لك أولاد بهذا العمر.

للوهلة الأولى كان سيصرخ «بفلان الفلاني» يا أخي دعني وشأني ليس لي أولاد ولا هم يحزنون. أنا هنا في رحلة صيد ستغير مجرى حياتي.

ـ في الحقيقة... إنهم أحفادي.

ياللروعة... للأسف أبي لم يعش ليحقق حلمه برؤية أحفاده، وكأي مسلسل درامي عربي، أخرج فلان الفلاني خرقة صغيرة ومسح عينيه في إيحاء بليد بحزن عميق على والده الذي لم يمت ولا هم يحزنون، بل تخلص منه بالاتفاق مع أخوته ورموه بأول مأوى للعجزة، أشعل الرجل الباكي سيجارة ملتفتاً إلى امرأة وصلت للتو... أهلاً.. أهلاً.. مدام فلانة
- هل من أخبار جديدة؟
- لقد ألقوا القبض على الفاعل لكن الطفل لا يزال في حالة صحية ونفسية صعبة جداً.

- لابد أن النيابة ستطالب بإعدام هذا الحيوان
وكانت القصة التي رواها فلان الفلاني شنيعة ومؤلمة إلى أقصى درجة ممكنة، بينما كان الرجل يشعر بنوبة تعرق وبرودة أحكمت على ظهره وأمعائه، لينسحب ببطء بعد أن استجمع قواه وراح يمشي إلى أن وصل بوابات أحد الأحياء القديمة ماضياً في رطوبتها المنعشة.

ماء ساخن وجسد يتمدد فيه...
أم شوكت كانت قادرة على فهم ما تشعر به أم العيال، كان مزيجاً من الخجل والدهشة والمتعة التي بدأت تتسلل إلى جسدها مع كل لمسة من لمسات الطبيبة التي كانت تمرر أصابعها بحرفية عالية في أماكن مبتكرة، هي تبحث عن مفاتيح جديدة للجسد الذي أمامها، ومع الوقت نسيت أم العيال خجلها وسلمت أمرها تماماً لهذه الساحرة التي كانت تضغط على أمكنة عديدة، تمرر أصابعها وتنتظر الجواب إلى أن أدركت أن هذه المرأة ليست بحاجة للجنس بقدر ما هي بحاجة للمزيد من الإثارة والصخب، والكثير الكثير من العنف واللمسات المؤلمة، حسناً.. جففي جسدك واتبعيني إلى السرير حيث كانت العدة جاهزة.

ما عساي أن أفعل الآن ؟
خطوة الأطفال مستحيلة ليس لأنها كذلك بل لأني أكثر جبناً من القيام بها..

وأم سامر..
نعم أم سامر فريستي الأحلى والأجمل، لمعت عيناه من جديد بعد أن كان جالساً يعتصر خيبته على حافة رصيف متسخ، نهض من مكانه وراح يسرع إلى بيت صديقه الوحيد... لم تعنه هذه العبارة أي شيء، كل نداءات الخير التي كانت تأتيه بين الحين والآخر كان يتجاهلها وكأنها لا تعنيه، كانت أم سامر تظهر له بين الحين والآخر.. كان يراها تناديه بشعرها الطويل وقامتها المربوعة المتناسقة، ولكن لماذا هذا الذبول في عينيها، لابد أنه ذبول الافتقاد... هذا ما قاله لنفسه عندما أدخلته المرأة غرفة الاستقبال.

- ألم تذهب إلى أبو سامر في المقهى.

- إنه هناك الآن.. لكني أرغب بالحديث معك.

- خير إنشاء الله.. ؟
- نشرب القهوة أولاً
وحين استدارت أم سامر، كان نتوء مؤخرتها اللين كافياً لخربطة كل الأوراق التي أعدها في رأسه.... كيف سأبدأ الآن... هل أجثوا عند قدميها طالباً الغفران عن كل التجاهل الذي لقيته مني...أم أعلن لها حبي الذي تفجر بين ليلة وضحاها، وأم سامر لم تكن تفتقد للذكاء الذي أكد لها أن ثمة ما هو غير مألوف في هذه الزيارة.

ـ لم أنت بعيدة... اقتربي قليلا.

أحست المرأة بغليان يتحرك في أحشائها، غليان ذاقت منه المرارة منذ أن أعلن أبو سامر انسحابه السافر من الفراش.

- أعرف يا أ م سامر أنها زيارة مفاجئة.. لكني فقدت القدرة على الصبر.

- الصبر على ماذا...؟
ـ على لهفتي عليك، جنوني بك، رغبتي المتوحشة بملامستك، أن أغمر وجهي بشعرك، إنه أبسط حق من حقوق العشاق، ومضى الرجل في جمل لم يألفها أو يقلها في حياته، عبارات غامضة جاءته من واسع علم الله، وأم سامر التي غلبها ذهولها، شعرت بثقل يجبرها على الجلوس والتسمر في مكانها، وكأنها دخلت المصيدة، لم تكن تسمعه بل كانت تفكر بنفسها بعمرها، وبكل الزمن الذي مضى مبتعداً سارقاً منها البهجة والأحلام، كانت كمن يقفز بالزمن، ويحلق فوق حياته، والرجل دنى منها إلى درجة التلاصق، أخذ يستنشق رائحتها، ويرمي على عنقها قبلات ناعمة سرعان ماتحولت إلى مص على الشفتين، مرسلاً يده الأولى إلى فخذيها والثانية إلى نهديها، بينما راح يعتليها وراحت تعطيه بقوة كل ما لديها، كانت ترى نفسها بشرائط وجدائل مرخية على جسدها العاري المشلوح على شاطيء، استعادت أول قبلة باغتها بها ابن جارها في باحة المدرسة، أراجيح العيد، أول خاتم ذهبي اشتراه لها والدها، أول حمالة صدر لبستها وكادت تموت من الخجل، في الوقت الذي كانت فيه أم شوكت في حالة من السيطرة المطلقة على أم العيال التي راحت تدخل وببطء شديد في رعشة عميقة كادت تخنقها، كانت تشهق، تغلبها تشنجات، واهتزازات عصبية انتهت بصرخة مدوية ومن ثم سكون يشبه الموت.

الرجل يسبح في مساحات من الظلمة التي لم يكن قادراً على تحديد أي بصيص نور وسطها، عتمة لم يخرج منها إلا عندما أغلق خلفه منزل أبو سامر مسرعاً نحو الشارع فاتحاً فمه لأكبر كمية من الهواء؟
- ماذا سنطبخ اليوم؟
سؤال اعتاد أن يطرحه على أم العيال منذ سنوات عديدة، خرا...

جواب اعتاد على سماعه منذ سنوات عديدة، ولذلك لم يدهشه الأمر كثيرا،ً صارخاً بأعلى صوته... قلت لك ألف مرة أكره سماع الأغنيات الوطنية، وأم العيال لا تسمع غيرها وكأنها تعيش في ثكنة عسكرية.
ـ تعالي لأروي لك الحلم الذي رأيته
ـ بعد قليل يأتيك أبو سامر وأروي له ما تشاء.

حرك الرجل كرسيه المتحرك إلى الشرفة المطلة على حديقة خاصة بأبناء الشهداء، جهز طاولة الزهر فأبو سامر لا يخلف بمواعيد، يجلسان لساعات يلعبان الطاولة، ويروي الرجل لصاحبه أحلام اليقظة التي يعيشها على مدار الساعة قبل انسحابه إلى غرفته متصنعاً النوم مفسحاً المجال لأبو سامر وأم العيال لنهار أحمر جديد.

هو يعرف كل شيء، لكنه قرر ألا يعنيه شيء، وأن يتفرغ تماماً لأحلام اليقظة التي كان يكتبها ويرسلها إلى الصحف التي لم تكن تنشر منها أي شيء.


[email protected]
قاص وصحفي سوري صدر له رجل الدعوة الأخير، الجدار الرابع