وأنا في انتظار المصعد السريع..الذي سيعرج بي إلى المطعم المنتظر!..لتناول عشاء عمل..أعوّل عليه كثيراً..كنت أفكر في تفاصيل ما بقي من يومي الدائم!..وأنا متكئ على جدار من جدران برج المملكة التجاري الشهير في وسط الرياض..أطرقت ببصري ملياً..وأنا أضم يدي إلى صدري..خوفاً من برد الوحدة!..لعلي أستطيع سرقة جزء بسيط من يومي المثخن بالمواعيد..أخذت نفساً عميقاً جداً..
آآآه..رائحة مثيرة جداً..ترى أين..سارعت بإطلاق سراح عيني قبل إكمال سؤالي..لتبحث عن تلك الرائحة..التي حيّرت أنفي..فلم تستطع تصنيفها..
نفضني الجدار عنه..وتركت يداي..والتفت يساراً..فرأيت امرأة واقفة بجانبي..تلبسها عباءة حالكة السواد..ملتصقة بكل جزء من جسدها..وتعلوها طرحة سوداء شفافة..يكاد وجهها يضيء..ولو لم يمسسه مكياج..عيناها تفضح البياض بالسواد..وأنفها الرفيع يحمل الطرحة بعيداً عن وجنتيها المخدوشة بالوردي..رمقتني بنظرة تسأل عن سبب تحديقي بها..
سحبت عيناي نحو المصعد المنتظر..وقلت في نفسي:ما بال صدري يرتعد..وقلبي قد جنّ بداخله..فأخذ يقفز في كل اتجاه.."هل أصبح الحب من أول شمّة؟!"..
فتح المصعد بابه..يدعو الجميع للدخول..ولكن..في مجتمعي..يُمنع مرافقة النساء في المصاعد والحدائق والسيارات والشوارع وكل تفاصيل الحياة..هناك دائماً قسمٌ للسيدات..أو النساء..أو العائلات..
جذبني الجدار من جديد..فاستسلمت له..ووجهت وجهي نحو قدمي..فعرفت المرأة لغة مجتمعنا التي يخاطب بها معظم الرجال النساء..في الحالات المشابهة لما نحن فيه.. فمرّ سوادها من أمامي..وجرّت خلفها نسائم عديدة من العطر والغنج والدفء والأنوثة..دخلت المصعد..الذي سيغمض جفناه عليها..بعد قليل ويصعد..وأنا..ما زلت رهين الجدار..وحبيس المجتمع!..
لا أدري لماذا استمر فؤادي بالخفقان بشدة..وكأنه يركل شيئاً في صدري!..لعله يركل الخوف..أو..يركل القيود العتيقة..أو..
طالع!!..كان صوتها يسألني..انفجر قلبي ثم سكن..ورفعت بصري شطر المصعد المحظوظ..ونظرت إليها..ثمّ..قالت:هل كنت تنتظر المصعد؟!..
بلعت خوفي..ثم هززت رأسي بالإيجاب..وقلت: نعم..
حسناً..تفضل إلى داخل المصعد..فأنت الأحق باستخدامه..
شكراً..ما إن نطقت بها حتى رمى بي ذلك الجدار اللعين إلى داخل المصعد..فاتجهت إلى إحدى زواياه..وأنا أتفحص أرضيته الرخام..وأغلق المصعد نفسه..فجنّ فؤادي مرة أخرى..وبدأ بتحطيم كل ما في صدري من هواء..
فاض المصعد السعيد بالعطر وأنفاسها..وفضحت مرآته تفاصيل جسدها الصاعق وعيناي..ونهض المصعد من سجوده لنا..
في مجتمعنا ـ كانت هي تتحدث ـ لايُسمح باختلاط الرجال والنساء إلا في الطواف حول الكعبة!!..
آآآه..تمالك نفسك يا حامد ـ كان داخلي يحدثني ـ لا تسقط..أعرف أنها تحدثك..دون سابق معرفة..ولكنها فرصتك لاستنشاق المزيد من تلك الرائحة العابثة بهذا المساء..
تمسكت جيداً بسياج المصعد من الداخل ثم قلت:نعم..ندفع جزءً كبيراً من يومياتنا ثمناً لبعض تلك التقاليد والأعراف المسلّطة افتراءً على حياتنا..وربما استغرقت صناعة ذلك التقليد أو العُرف دقائق معدودة..
معك حق ـ هي تتحدث مرة أخرى ـ ولكن ما أجمل علاقة المرأة بالرجل في يوميات حياة المدن الأخرى..تلك العلاقة التي تقوم على الثقة والتعاون والاحترام المتبادل بين الأنثى والذكر..صحيحٌ أن هناك مشاهد كثيرة خارجة عن هذا النسيج..ولكن يبقى أن هناك بشرٌ يعيشون الحياة بكل ما فيها من جمال..
الظاهر أن نهايتي أصبحت قريبة جداً ـ نفسي تحدثني ـ عدّلت من وقفتي..وقلت:هذا صحيح..ولكن..لا يغير الله ما بمجتمع..حتى يغيروا نمط تفكيرهم..وهنا ما زالت أمور كثيرة تسيطر على الحياة..عقل القبيلة..وقانون العيب..
من الطريف ـ قاطعتني بحديثها ـ أن المجتمع هنا خلق مؤسسة لحماية عقل القبيلة وقانون العيب..تحت عباءة كتب عليها"صنعت لحفظ الدين"..تجوب الشوارع والطرقات والأسواق..بحثاً عن المارقين عن التقليد..البعيد كل البعد عن الدين..
أنت على حق ـ قاطعتها بدوري ـ ولكنني لم أتوقع قط..سماع هذا الحديث من امرأة..تنتمي إلى مجتمعنا..و..
هههه..ضحكت ثم قالت:وكذلك أول ما نظرت إليّ بشهوانية..فقد قرأت ذلك في عينيك..وارتباكك..ومنيّت نفسك للحصول عليّ..فأنا..وكما يبدو لك..امرأة متبرجة..تبحث عن غزلٍ..أو موعدٍ..
لا..لا..هذا ليس صحيحاً ـ قاطعتها قائلاً ـ..
نظرت إليّ وقالت: في المجمل..ليس لتفكيري إلا أن يقودني إلى هذا..وليس لك إلا أن تفكر بهذه الطريقة..فأنا وأنت صنيعة هذا المجتمع..ويجدر بنا أن نكون أبناء بررة له..
فتح المصعد بابه..عن مجموعة من النساء والرجال..كانت بانتظار المصعد في الدور الـ44..تنقلوا بأبصارهم في المساحة التي تفصلني عن تلك المرأة التي كانت ترافقني..تحولت وجوههم إلى علامات تعجّب كبيرة..واستنكارٍ أحمر..لا سيّما عندما دخلوا المصعد..ولم يلمحوا أي اقتراب في المسافة بيننا..على افتراض أنها زوجتي أو إحدى قريباتي..فحالوا بيني وبينها..وتعالت كلمات الاستغفار والحوقلة..وازدادت نظرات الشكّ والرّيبة..فنظرت إليها..وإذا بها تغمز لي بعينها..وتضحك ..

آخر ليلة في ديسمبر 2004م