بينما الشتاء في الخارج يزدهر على حواف شبابيك الصف. قلت لطلاب الصف الثامن: أنا ضجر هذا اليوم، هيا نرتكب خروجاً عن العادي واليومي. ونتوه في دروب معرفة جديدة. ابتهج الطلاب. قفز أحمد من مقعده باتجاه النوافذ، أسدل الستائر وعاد إلى المعقد وهو يكاد يطير طاقة.
-أحمد لماذا أسدلت السَّتائر، سألته
-لأن الشتاء هو الصوت، ألم تدرسنا وتدربنا على الإصغاء إلى الأصوات. ألم تقل لنا أن حاسة السَّمع هي ملكة الحواس البارحة ليلاً أصغيت (تابع أحمد) إلى صوت المطر وهو يصفع الأرض والبيوت، وأصغيت أكثر إلى صوت الماء وهو يمشي بهدوء وصمت في أخاديد الطريق الوعر خلف غرفة نومي. شعرت حينها أن الشتاء فعلاً هو الصوت، وددت لحظتها لو أخبئ الشتاء تحت لحافي، أتسامر معه وأحدثه ويحدثني عن الصيف الذي يتربص به، والخريف الذي انتحر والربيع الذي سافر جبناً أو مكراً.
-رائع ما قلته يا أحمد، أجمل ما فيه توحدك مع الطبيعة وانسجامك مع أصواتها. الناس تنسى أن الطبيعة تتحرك وتتنفس وتراقبنا بحزن وحيرة
سأل محمود: ما هي المعرفة الجديدة التي تقترح التيه في دروبها يا أستاذ؟

-لديّ يا أصدقائي موضوع يؤرقني منذ مدة طويلة هذا الموضوع نتج عن ذكريات المدرسة والجامعة التي تهاجمني في الليل والنهار، هذه الذكريات الحزينة في أغلبها لا تقتصر على سنين حياتي كتلميذ أو طالب، بل تشمل كذلك سنين حياتي كمعلم جديد في مدارس عديدة.
رفع أمير يده مستأذناً بالحديث
-هل سنبحر في هذه المعرفة الجديدة هنا بين المقاعد الجديدة، هنا بين المقاعد الخشبية الجامدة والسبورة الخرساء والجدران الصماء. هيا نخرج إلى مكان آخر يا أستاذ يتلاءم مع الإبحار بعيداً والتيه والخروج على القوانين العمياء؟
-جميل هذا الاقتراح يا أمير، فالأمكنة مهمة جداً، فحين تكون الأفكار مجنونة تحتاج إلى مكان مجنون يحتوي على طاقة كبيرة، على اقتراح الخيارات وتفتيح الذهن، وتفجير الحدود. وحدها الأفكار العادية السطحية من تحتاج إلى أمكنة فقيرة وسطحية. فالسطح يبحث عن السطح دوماً، والعمق يلهث خلف العمق.
لكن المشكلة يا أمير أن الشتاء في الخارج يضيق علينا الخيارات. فمن غير المعقول أن نتوه في معرفتنا الجديدة تحت وابل المطر والريح
-قال خالد: أنت تقول من غير المعقول؟ لا أصدق إنك أنت يا أستاذي الذي علمتنا تحويل اللامعقول إلى معقول تتحدث الآن عن استحالة شيء على الذهن الإنساني والروح الإنسانية.
-إذن دعونا نخترع في الصف عالماً جديداً، أعطوني اقتراحاتكم قال أحمد: نقوم بقصقصة ورق الدفاتر ونصنع منها وروداً وسناسل وحدائق.
-قال رمزي: نرسم على السبورة غابة فيها أسود وفيلة ونمور وغزلان
-قال حذيفة: نقوم بابتكار شجرة وصخور وطرق وعرة من أغلفة الكتب المهترئة.
-قلت لهم: رائع جداً يا أصدقائي أن تكون لديكم القدرة الذهنية على تغيير العالم، استبداله والعبث الجميل بأشيائه وتحويل مصيره، نعم أنه الذهن البشري (المهمل) الذي يستطيع تحريك الجمادات بطاقته الكامنة التي هي بحاجة إلى استدراج ولغة خاصة للقبض عليها وإطلاقها شرع الطلاب بحماس شديد بتغيير معالم الصف، أخرجوا المقاعد من الصف، بدأوا يقصقصون الأوراق ويشكلونها على شكل أزهار وسناسل وصخور وأشجار ونمور وأسود ووووووووو...أما على السبورة فقد ألصقت غابة كبيرة تطل من بين أشجارها الكثيفة أصوات طيور وحيوانات كاسرة. وهكذا لم يعد الصف صفاً فقد أعمل فيه الطلاب أياديهم وأذهانهم وأفكارهم. واقتراحاتهم العنيدة، كنت أراقبهم وأنا أهمس لنفسي: هكذا هو الذهن البشري المستيقظ الرشيق الذي يعرف عمقه وتأثيره وقوته. لا شيء يقف أمام إرادة هذا الذهن. ذهن مليء بالخيارات والطرق البديلة والرغبات في التغيير الدائم، ذهن يتمتع بكبرياء عظيم، ورفض دائم للتدجين وتلقي الأوامر. ذهن يعمل لوحده، مبرمج على اقتحام الطرق المقفلة وتحدي السدود وهز القناعات.
-قال فؤاد: هيا يا أستاذ، نحن مستعدون تماماً للتيه
-قال حسن: ما هو الموضوع الذي يؤرقك منذ فترة وما هي الذكريات يا أستاذ التي هيجت هذا الموضوع فيك
قبل عدة ليال يا أصدقاء، شاهدت فيلماً أجنبياً على إحدى القنوات الفضائية، في هذا الفيلم ظهرت إمرأة فاتنة جداً، ملامح هذه المرأة الطفلية سكنتني إلى حد الأرق. ولا أعرف لماذا أحسست حينها أني أعرف هذه الملامح وهي ليست غريبة عني، وكنت كلما اقتربت من معرفة هذه الملامح في أعماقي وذاكرتي تهت من جديد، وتداخلت ملامح أخرى مع بعضها. فأشعر بحسرة لذيذة، حسرة شخص يبحث عن شخص منذ زمن لكنه يعرف جيداً، أنه سيجده في آخر المطاف. وفي ذات ليلة طويلة وأنا منكبٌ بكل كياني على سطور رواية، هجمت عليّ الملامح من جديد. وعندها أغمضت عينيّ وتركت الكتاب يسقط من بين يديّ وغرقت في عتمة هائلة، ورويداً رويداً توضحت الملامح وتكشفت عن صورة وجه أعرفه جيداً وأتذكره، إنَّه وجه (هدى) زميلتي وصديقتي في الصَّف الرّابع، وجه واسع، مستدير أبيض جداً، لا يعرف معنى كلمة شر أو أذى، أو عنف، منذ الصف الأول وأنا أجلس بجانب هدى، كنا نتقاسم أرغفة الساندويش وقطع الحلوى، وكانت متفوقة جداً في دراستها، ومواظبة على واجباتها المدرسية، وحين سخر تلاميذ وتلاميذات الصف من خطي القبيح وهتفوا في وجهي ونحن نازلون على درج المدرسة: خرابيش الجاج، خرابيش الجاج. صرخت هدى في وجوههم، وهددتهم بإبلاغ المديرة. فلزموا الصمت وتفرقوا. بعد الصف الرابع، انتقلت إلى مدرسة أخرى. وانتقلت هدى إلى مدرسة أخرى ذهبت هي إلى مدرسة إناث وذهبت أنا إلى مدرسة ذكور. لم أعد أرى هدى، صار يجلس بجانبي في الصف الخامس تلميذ اسمه صالح، هنا وقف أيمن وسألني وابتسامة خفيفة على شفتيه: هدى وصالح، عالمان مختلفان. صحيح أستاذ؟
-بالتأكيد مختلفان، ولكن مهلاً، هما أيضاً متكاملان بمعنى أنهما لا يستطيعان الاستغناء عن بعضهما البعض. أرجو أن لا يفهم من كلمة (مختلفان) أن أحدهما أقل قيمة من الآخر
-أكمل يا أستاذ أكمل. قال حسن
وهكذا اختفت (هدى) من حياتي. كنت أحس تجاهها بشعور مريح جداً. لم أحزن كثيراً حينها، لكني شعرت بفراغ ما يتكون شيئاً فشيئاً في أعماقي وكبر معي هذا الفراغ، حتى تحول إلى حزن خفي وصامت وغصة هادئة تتحرك ببطء في دمي. ومضت بي السنون تجرفني بأحداثها وخارطاتها وتقلباتها.
لم أجلس أثناءها بجانب بنت في مدرسة، كان هناك أشرف وهادي وخالد وعدنان،لم أنسَ هدى أبداً – ظلت حتى فترة بعيدة تتربع بخيلاء وهدوء في داخلي، وشيئاً فشيئاً غامت صورتها واندترث. ولم أعد أذكر ملامحها، وأن كنت أتذكر أسمها أحياناً. وحين شاهدت الممثلة الأجنبية، استيقظت هدى داخلي بكامل براءتها وصفاء نظرتها، وطيبة قلبها. ومنذ ذلك الوقت وأنا أبحث بيني وبين نفسي في سؤال مهم جداً: إلى أي مدى أثرَّ غياب هدى كزميلة صف على طاقتي وروحي؟ أريد منكم الآن يا أصدقائي أن تعينوني بإحساساتكم واقتراحاتكم وآرائكم على فهم هذا الموضوع ومحاولة الوصول إلى إجابة تريح إذهاننا، رغم أنني متأكد أننا سنظل نسأل ونسال، ونتوهم أننا وصلنا إلى إجابات، أنني أعرف تماماً أننا أحفادُ للسؤال وأحباؤه، أمًّا الإجابات فهي لا تريحنا ولا ترغب فينا، كما أننا لا نحبها ولا نرغب فيها. أُريد منكم يا أحبائي أن تدركوا أمراً مهماً وهو أنكم بحكم أنكم لم تعيشوا واقع الاختلاط وإحساس عدم الاختلاط. لذلك، أرجو منكم أن تتأنوا في الإفصاح عن مشاعركم تجاه غياب الجنس الآخر عن صفوفكم فأنتم قد تصدرون في مواقفكم عن حنين عاطفي وعطش إنساني طبيعي وهذا مشروع وعادي. لكن لا أريد أن يكون الدافع وراء رغبتكم في الاختلاط هو فقط الاندفاع العاطفي وتلبية لأشواق جسدية أو عاطفية، فقط أريدكم أن تتعمقوا في فهم المسألة وتقيسوا ضرر غياب الاختلاط الواقع ليس فقط على قلوبكم ومشاعركم ولكن على طاقتكم على الحياة، وعلى روحك المعنوية وإحساسك بنفسك وعلاقتك مع العالم. أريدكم أن تجيبوا على هذا السؤال بكلمة صغيرة بدون أل التعريف: السؤال هو: ماذا تعني لك زميلة المعقد الدراسي. وهو المعنى الذي لا ينطبق على الزميل.
قال هاشم: راحة
قال سمير: سفر
قال رامي: ارتفاع
قال علي: صمت
قال كامل: مكتبة
قال زكي: هياج
قال صابر: حديقة
قال هيثم: حلم
قال هادي: صعود
قال رائد: حركة
قال سليم: نار
قال عبد الرحمن: ذكاء
قال سمير: مطر
قال أمجد: تعطل
قال فادي: ثرثرة
قال مسعود: حرام
قال خليل: بئر
سجلت كلمات أصدقائي على السبورة. طلبت منهم تأمل كلماتهم والإسهاب في شرحها وتفكيكها.
قال هاشم: ارتاح حين تجلس بجانبي بنت، ولا أعرف لماذا؟
قال سمير: أسافر إلى النجوم وتنبت في عيني أجنحة وأطير
قال رامي: أحس بارتفاع في نظري للأشياء
قال علي: أصمت أكثر بجانب بنت، بجانب شاب أثرثر
قال كامل: أحس أني أتجول بين رفوف مكتبة
قال ربحي: أُحس هياج أمواج في قلبي
قال صابر: كأني أقطف وردة زنبق من حديقة
قال هيثم: كأني أحلم
قال هادي: كأني أصعد جبلاً وألهث ولا أصل
قال رائد: الأشياء تتحرك، الستائر تغني.
قال سليم: نار تأكل عيني
قال سمير: أحس إني ذكي
قال أمجد: أحس أنها ستمطر بعد قليل
قال فادي: أحس برغبة في الثرثرة
قال مسعود: أحسس أنني أرتكب حراماً وأخاف
قال خليل: أحس أني أغوص في بئر لا قاع فيها

وماذا كنت تحس أنت يا أُستاذ – سأل مفيد.
كنت أحس أنني إنسان جميل جداً، رغبتي في الدراسة تزداد وتحصيلي يتحسن، كنت أحس أن طاقتي على الحياة كبيرة، أرغب في الرقص والكلام وأحياناً الصمت الممتع كنت أحس إني طائر يستطيع الطيران في أي فضاء يريده وأنني محمي ولا خطر يستطيع الوصول إليّ. كنت أحس أن طعم المعلم والحياة والمواد والعام مختلف.
وماذا كانت تحس هي يا أُستاذ – سأل خليل.
لا أعرف، لكني اعتقد أنها لو سئلت الآن لأجابت نفس الإجابات.
-أين هدى الآن يا أستاذ – سأل شادي
ليتني أعرف يا صديقي شادي، ليتني أعرف، حقاً أود لو أعرف قد تكون موجودة في أي مكان- بجوار المدرسة أو خارج البلاد. لكن هذا موضوع غير مهم إطلاقاً. هدى فراغ ما زال يعيش داخلي- ورغم أني تجاوزت الأربعين وعبرت حياتي نساء كثيرات. صديقات وحبيبات، وزميلات وقريبات. (الطلاب يبتسمون) إلا أن هذا الفراغ مازال موجوداً. وهو لن يزول أبداً، إن الأمر يشبه أن تفصل قوة شريرة عينك اليسرى عن وجهك بعد فترة قصيرة من ولادتك بعينيين سليمتين، وبعد سنين طويلة من العيش بعين واحدة، تُعاد لك العين المفقودة. إنك لن تنسى سنين العمر النصفي تلك المؤلمة المحفورة في فضاء ذاكرتك. ستبقى تعاني من دوار العتمة الخفيفة حتى ولو دُلقت عليك كل أنوار العالم.
الطلاب ساكتون، ثمة صمت قلق يفترس المكان والشتاء ما زال يزدهر، اسمع همسات هنا وهناك، ولا أدري إن كان ما سمعته من أحمد لزميله هو بالضبط ما قاله أم أنني توهمت هذه الكلمات:

-انظر عيون الأستاذ، ثمة لمعان مبلل فيها. هل تراه؟

زياد خداش
[email protected]
http://khaddash.i8.com