كعادته عندما يستبد به الملل ؛ فإنه يعمل نظره فى القضبان الصماء.. أسند ظهره الى الخشب الناتىء عن الكشك العتيق، وجعل يتسمع نقيق الضفادع الصاعد من الزروع المجاورة.. بدت أيامه المنقضية أطيافا تلح على عقله، وتنتزع منه أوقات هموده الإرادى، فتداعت بأحلامها الغائمة، ورؤاها الوردية، رفع عينيه الى السماء القريبة، جالت فى نجيماتها التائهة ؛ حتى أوقفها الألق النازل من القمر، كان القمر كما هو دائما ؛ رحيما صامتا، حتى وهو يمارس مكره الليلى، ويفتش عن الأشياء القديمة بين الحنايا فى طفولية، يحب القمر، يشعر فى داخله ؛ أن نوره صادق، وأن ماعداه ؛ ضوء مزيف، وزينة بلا فرح.. دس يده فى الجيب السحرى للصديرى، أحس بسخونة صدره، لامست أصابعه خفقات القلب، بدا الخفق كقطرات ماء تساقط على حجر أملس، خفـقات قـديمة يعـرفها، تصدر عن قلب قديم نادر، بحثـت أصابعـه عن الساعـة " الكينج ريتشارد " التى إبتاعها قبل أكثر من ثلاثين عاما من الخواجة "نستاسيو" فى محله بشارع النبى دانيال بالإسكندرية، فتح الغطاء المعدنى، وأمسك بحلقة السلسلة، وترك الساعة مدلاة تتراقص أمامه، وكأنما يراها للمرة الأولى، وقد أيقظت تكاتها عفريت الحكايات القديمة، كان ظلها الدائرى ينعكس ضخما على ألواح الكشك والسيمافور، قربها من أذنه قليلا، ثم إنسلت طائعة الى مكمنها القديم الدافىء.

لايذكر " عـم ويـصـا " يقينا متى تعلم الحساب والأوقات ؛ هل كان ذلك فى دروس كنيسة مطاى، أم فى مدرسة الأمير طوسون بالمنيا، ربما أيام التطوع فى المجهود الحربى أثناء العدوان الثلاثى على بورسعيد. لايذكر... لكنه يذكر تماما؛ كيف حاصرته السنون مع زوجة حزينة، تبكى فراق أولادها المهاجرين الى البلاد الغريبة، لاتفرح كثيرا بحوالة الدولارات الخضراء التى تأتى الى البنك، وتتمنى لو بقيوا لترى أولادهم أمام عيونها وتصحبهم الى المدرسة والسوق والكنيسة، لكنهم ذهبوا ولن يعودوا، هم فقط يرسلون صورا مليئة بالضحكات والثلج والشوارع التى ليست كالشوارع، وتردد دائما عن أكبرهم وأحبهم إليها :
ولد هامل.. ناسى ناسه..بس يعاود وانا أكسر له راسه...

تزاحمت الأيام قبالة عينيه، لايكبح ثورة الإجترار المر ؛ إلا عود ثقاب،تتراجع أمام وميضه، كل الأشباح المختبئة تحت الفلنكات الخشبية السميكة، برز من بين الألواح فأر صغير، تبادلا نظرات يعرفانها، قبل أن يعود كل الى مكانه، ينساب الدخان الأسود من السيجارة " الكليوباترا "، يترامى صوت إصطكاك العجلات على الأسفلت البعيد، يسفر ضوء السيارات المارقة بين الفينة والفينة عن ملامحه ؛ إلتماع جبهته العريضة، بياض شاربه الكث، مع إرتعاشة خفيفة فى الشفاه فضحتها السيجارة.. نفير غاضب يتوعد من بعيد، إنه السريع مصر / طنطا / إسكندريه.. تعالت صرخات محمود، خفير المحطة من بعيد :
يـا عــم ويـصـا، يا أبــو مـكــرم.. 918 داخل ياخال.. حول.. ياعم ويصا....

كاد ينسى، جذب الذراع الحديدية بسرعة، وإقترب من الشباك، ترامت الى أسماعه مع شلال الهواء الهادر للقطار المار، مداعبة حسين سائق القطار :
ياويصا..ليلتك فل ياصعيدى..

نشوة تحتويه، عندما يتبادر إليه أن هذه التحويلة، وهذا المقبض الحديدى، يدفع بالناس من طريق الى أخر على يديه، تخلص من تداعياته، نفض الليل والقمر عن عيونه، عاد الى سيرته الأولى، نادى على محمود، وطلب منه ألا ينساه ويعمل حسابه فى كوب شاى ثقيل، جلس على سور حديدى حول الكشك، بدا الحاضر ماثلا، بمسوخه الشائهة، بأشباحه وهوسه، بفلنكاته وفئرانه، بالظلم الواقع علية فى الترقية، أبتسم وهو يردد : ملعون أبو السكة الحديد.. تمنى لو عاد الزمن خمسين عاما، عاد الى التذكر، تذكر أباه، إنطبعت صورته على الألواح الخشبية، كان على نفس هيئته القديمة، معتمرا طربوشه الأحمر وهو يرفل فى جلبابه الصوف وكوفيته الكشمير:
( ربنا يقدس روحك يابوى.. كل المخاليق كانت بتحبك..)

كان تاجر القماش الطيب، يجوب البلاد، ممسكا بيد وحيده ويصا، يدخلون كل بيت ويشربون الشاى مرات ومرات إذا أفلتوا من ضغط الإلحاح على الطعام،تعرفهم شوارع ومقاهى مطاى والعدوة ومغاغة، حتى البلاد بالمديريات المجاورة كانت تحفظ وجه الرجل وصغيره، كان دفتر حسابات الأب مليئا بالحكايات، حكايات البشر والأرض، فهذا زوًج إبنته منذ سنوات ومازال مدينا بأربعة جنيهات، والأخر ذهب الى الحجاز ومازال مدينا بثمن قماش عباءة صوف إمبريال إنجليزى، وواحد من أبو قرقاص أخذ كسوة للمراتب والأسرة وسيسدد بعد بيع محصول القصب، أما السيدة التى تسكن شارع الملكه نازلى ببندر المنيا، فلن يطالبها هذا العام بعدما علم بموت زوجها فى هاويس نجع حمادى.

كان الوالد يقف منتصبا باسما على ألواح الكشك، سحب ويصا دفقة هواء بارد الى رئتيه وهو ينظر الى والدة الماثل نورا على الألواح، نظر إليه بإنكسار، لم يبرر له لماذا باع المحل، وأسلم نفسه للترحال، بين المنيا والإسكندريه وشبرا، لماذا قبل تراب الميرى المخلوط بالذل، لماذا فرط فى العيال وتركهم للبلاد للغريبة ولم يلصقهم بأرض أجدادهم كما أوصاه، كان منكسرا وهو يلقى نظرة أخيرة على الألواح قبل أن يغادر الأب جغرافيا الذاكرة.

غنى بصوت مرتفع : يا وابور قووولى رايح على فين.....، ندت عنه إبتسامة متعجبة، أتبعها بضحكات همجية ملء شدقيه، تـثـاءب، شاهد أمواج السحب السوداء، وهى تقترب مجتازة النجوم، شاهد ستنا العذراء، وهى تنظر الى المحرومين السعداء، شاهد القمر بنوره الصادق، رفع يديه الى رأسه ليحك بها شعره، إرتفعت الطاقية المنفلوطى لتهبط على عينيه، تثاءب ثانية، قبل أن يرى نـسـتـاسيو، ومحمود وشوارع مطاى، وبورسعيد، وعياله التائهين فى البلاد الغريبة، كانت السيجارة الكليوباترا تحتضر فى رمادها الأخير بين أصابعه.

[email protected]

كاتب من مصر