إلى شديد الجمال خالد السروجي.. أقرب مبدعي مصر لنفسي، أحبّهم إلى قلبي!

.. ملء شدقيها تضحك.. متجاهلة حزنا في القلب يعشّش.. تتعالى هي اليوم على حزنها، قهرها، هزائمها أيضا. هي ذي تستقبل العام الجديد بقصّة شعر جديدة.. تشتري باقة ورد تهديها لنفسها.. تتعهّد كما كلّ سنة بآلاف الوعود، ستصبح نعامة من فصيلة لا أرى، لا أسمع، لا أتكلّم، و ما دخلي مادام لا شيء أصابني.. تقسم أيضا أنّها خلال عيد الحبّ هذا ستتصالح مع ذاتها و ستلهو مع هذا و ذاك و الآخر.. بل تجزم أنّها ستعاني مستقبلا و بقوّة من تضخّم الأنا.. حتّى أنّها ستفقد أيّ قدرة على التّضحية. و لأنّ ظلّه الزنيم لا زال هنا فلا شيء ممّا تُمنّي به نفسها سيتحقّق.
لا تدري لِم أسمته بصاحب الظلّ الطّويل منذ غادرها. ثملة هي بزلّة نبضه الأولى : " يدقّ القلب يدقّ.. و لا أحد يفتح الباب".إنّها تشتاق لكلماته الأقرب للسعة الجليد.. لنظراته الّتي لا زالت تكتوي ببرودة جمرها. منه تعلّمت أنّ الحبّ حقّ يُنتزع و لا يعطى. ألم يحرّك السكّين في قلبها لينزف له ؟ نعم. و الله قد فعل!
" أشياء كثيرة تصغر كلّما كبرنا " قالتها سحر يوما." مخلص" أتى بعدها يؤكّد أنّنا نحن من نصغر و نتقلّص في حين تظلّ الأشياء كبيــــــرة.. كبيـــــرة!
"مـــــــــخـــــــلـــــص".. تهمس باسمه و تتحسّس شفتيها اللّتين لا تزالان رطبتين بذكر حروف اسمه.. لكأنّهما تنتصران له!!
تعبث بها الذّكريات.. تثير فيها شهوة الأفعى في الخراب.. تحملها لتتذكّر كيف التقت ذات صيف ماطر ب"مخلص".. صاحب الظلّ الطّويل!
في الثّاني من انتكاساتها تعرّفت عليه. تحديدا في مستشفى مرضى السّرطان. بحرقة كانت تبكي بعد أن كشف لها الطّبيب المُعالج مدى تقدّم السّرطان في رئة والدها اليسرى. اقترب منها مبتسما كطفل في عامه الأوّل. مارس اغتيالا جميلا لحزنها. وسيما كان، شفّافا، ذكيّا أيضا. تركته يركض بحُريّة في دهاليز نفسها حين تكرّرت اللّقاءات بينهما بعد ذلك.
منذ صغرها و هي تنفر من ذوي الأسنان الصّفراء.. يقول قائل أنّ عين المرء باطنه أمّا هي فبياض الأسنان يعكس لها بياض القلب. لكنّها أحبّت أسنانه الصّفراء هو المدخّن الشّره.
كثيرا ما رأت النّاس مجرّد أشكال و رؤوس تتحرّك حيثما اتّفق. معه اختلف الأمر تماما. كان إنسانا يُلبس جسَدهُ روحا تجرح نفسها لتُداوي الغير.
مرّة أحسَّها مختنقة و جريحة. سألها عن السّبب. أجابته بسؤال آخر : " هل تعرف كيف مات لوركا ؟ ". فاستفسر منها عن هذا الّذي غدر بها. كم عشقت إدراكه العميق و فراسته. يجهل هو أنّها قبّلت روحه ألف مرّة.
لطالما أغبطت نفسها عليه. تُحدّثه عن خوفها و تفكيرها المستمرّ بالموت.. فيصارحها برعبه من مجرّد التّفكير في الموت الحقيقيّ كالإقصاء و التّهميش. تبثّه حزنها الشّديد و امتعاضها من دراسة الطبّ.. فيئنّ أمامها من حوادث الاغتصاب المتكرّرة للعراقيّات أمام أزواجهنّ و أبنائهنّ. تهدي له عطر "جورجيو أرماني ".. فيُسكنها وردة في جوف حرف في قصيدة. تشرح له مراحل سرطان الثّدي و الرّئة.. فيخبرها عن تغلغل السّرطان في المؤسّسات الحكوميّة و المستشفيات و الفنّ و العدالة. تتحدّاه على مدى مقدرته في استفزازها.. فيناقشها في الجنس و الجسد و مُجمل التابوهات. ليجعلها تخلُص إلى انتماءها لشعب يخاف لغته و أحايين كثيرة تاريخه !
لم ينمُ فيها مطلقا أيّ إحساس بسطحيّتها مقابل عمقه. هي لم تكن سطحيّة أبدا. كانت تدّعي ذلك و حسب. لكنّها كرهت أن يستفزّ فيها عمقها الّذي تناسته طلبا للرّاحة.
القدَر كان صديقا حميما لها. صديق يطلّ عليها باستمرار ليدعوها إلى طاولة الشّطرنج ناشدا ملاعبتها. فأجمل الأدوار هو دور لم يلعبه بعد. و كان" مخلص" آخر جولة ظفر بها للآن. تُرى ما عناه ذاك الشاعر حين قال أنّ الإنسان أعظم من قدَره؟!!
لم يكن السّرطان الّذي أصاب "مخلص" في حلقه هو من قتله. بل سرطان أخطر.. سرطان ارتدى ثوبا آخر ليقتل باسم الدّين. الحلاّج صُلِب لأنّه نادى مردّدا " أنا الحقّ.. أنا الحقّ ". "مخلص" ذُبح لأنّهم حلّلوا عقيدته و إيمانه على هواهم. رموه بالماركسيّ القذر، الملحد الّذي يتيمّن بقولة نيتشه المريضة " مات الله ".
كبُومة "جون ريفنسكروفت "أحسّت هي.. خبطت ذكراه فعاد ظلّه اللّعين.. أينما استدارت تجده.. ظلّه الطّويل يطاردها.. كلّما داسته يزاد طولا.. و طولا.. و طولا!!
تباغتها أمنيتها الجديدة.. ماذا لو قُذف بها في وجود آخر.. ستحدّد ماهيّتها و تختار أن تكون نملة.. و ما بها النّملة؟هاهم سنّوا قوانين تمنع هدم بيوت النّمل و تعاقب كلّ من سوّلت له نفسه فعل الأمر. جيّد أنّهم لم يغرقوا في طوباويّتهم أكثر فيمنعون هدم بيوت تلك الكتل البشريّة فوق رؤوسهم.. فالزّمن هذا هو زمن النّمل العاهر!!
و تعود لتضحك ملء شدقيها.. عازمة أن ترى الآخر نعيما لا جحيما.. مصرّة على أنّها لن تكون صفصافة تعبد حطّابيها.. متشفيّة في ظلّه الّذي لن يطول ذات غسق..