كيف يتصدى المسرح- كأداة حوارية- للقطيعة الثقافية الحادثة في عصر تفوق الفردانية وغلبة التناقضات الاجتماعية والصراعات الفكرية على منطق الحوار؟ كيف يمارس سلطته النقدية- في بعدها الإبداعي- في زمن تشوبه الفوضى الثقافية ويسمه تراجع دراماتيكي للموقف الجماعي الموحِّد؟ وكيف تُخرجنا تلك الشخوص المغسولة بأضواء الخشبة من أوكارنا الذهنية وعزلتنا المكانية لتدفعنا في حركة كلّية تتجه بالفرد نحو الكشف، والمواجهة، ومن ثم إعادة بناء المهدور الروحي نتيجة لغياب منظومة التواصل الإنساني المباشر؟
وقع اختيار المسرح الدولي التابع لمنظمة اليونيسكو للتربية والعلوم والثقافة على الكاتبة المسرحية المصرية فتحيّة عسّال لتقدّم كلمة اليوم العالمي للمسرح للعام 2004 والتي يكلف بكتابتها كل عام واحد من أبرز المسرحيين في العالم من الذين أسهموا في إغناء تيار الحركة المسرحية العالمي من أمثال آرثر ميللر وجان كوكتو وسعد الله ونوس وتانكرد دورست.. إلى غيرهم من المبدعين الرادة في اقتناص لحظة الاتصال بين الجمهور الشاهد من جهة، والمسرحي المشخِّص من أخرى. تقول عسّال:" لقد آمنت بأن أهم ما يميز الكاتب المسرحي هو امتلاء روحه برسالة إنسانية سامية ينشرها بين الناس من أجل الارتقاء بحياتهم وتحريرهم من كل عوامل القهر والاستغلال وانتهاك الكرامات".
فهل ما زال مسرح القرن الحادي والعشرين يرسم حدثا مِفْصلا في الحياة الثقافية للشعوب ويثير رجّة ذهنية في أوصال الشارع إثر العرض ما يحرض الحوار وينشر المتعة ؟ أم أن هذا الكائن الشامخ قد تقزّم في وجه مدّ الشاشات الملونة وطغيان ثقافة الاستهلاك على ثقافة القيمة ؟

تفيد عسال في هذا الشأن:" أعتقد أن المسرح في حالة هزال وعزلة بالغتين. وقد تراجع بسرعة قياسية على حساب طغيان الفنون البصرية الأخرى التي تستخدم تقنيات الاتصال العالية ما يسهّل انتشارها واستقبالها من طرف الجمهور، بعكس حال المسرح الذي يعتمد على الفرجة الحية والمحاكاة المباشرة في مكان وزمان محدودين". وتضيف عسّال:" المسرح هو فعل التعرية أمام الذات والآخر في آن، وفرصة للصراخ في وجه العوائق التي حرّمت علينا تفجير طاقاتنا البشرية. ومسرحي صرخة حبلى بالكلمات منذ مئات السنين، وقد جاء وقت المخاض العسير لأدفع بحوار الأنثى إلى الوجود".

تجربة "نبراس" النيويوركية:
جملة من الأسئلة تتقدّم حين نتحدث عن هموم المسرح العربي الهوية.. هل ما زالت لصرخته تردداتها في الأرض ما يحيل صوت شخوصه إلى أبجدية هاتفة بـ "لغة العالم"؟ وأين تلتقي جذور المسرح العربي التي أسّس لها مارون نقاش في أول مسرحية عربية ذات مواصفات غربية، وهي مسرحية البخيل التي عرضها في بيته في بيروت عام 1847، مع حركة المسرح العربي الروح الأميركي الهيئة التي نشبت في مدينة الاسمنت والحداثة نيويورك على يد مجموعة من الشباب الأميركي من أصل عربي عام 2001؟
ففي وارف إرث ثقافي مشترك وبدافع تأصيلي حافز قامت مجموعة من الشبان العرب الأميركيين بتأسيس مسرح "نبراس" في مدينة نيويورك بهدف خلق شبكة اتصال بين المسرحيين العرب الأميركيين، ممن يشتركون في الهاجس الحضاري والتوجّه الفني في حركة مسرحية من طرز" الكوميديا السوداء" من أجل إنشاء حوار درامي شيّق بعيدا عن التشنجات السياسية المنمّطة للكشف عن أبعاد الشخصية العربية الثقافية وتوكيد موقع العرب الأميركيين في لحمة النسيج الثقافي الأميركي عبر تعزيز التفاهم في بنى الكيان الأميركي، في مسعى لترميم الجسور التي انقطعت إثر أحداث الحادي عشر من أيلول.

يقول إلياس الحاج المدير المؤسس لمسرح نبراس:" النبراس- لغويا- تعني القنديل المرشد إلى الرؤية الصحيحة. والاسم- فنيا- يعني الوسيلة الأرقى لتسليط الضوء على الحقائق وخفايا الأمور، وإشاعة المزيد من الوعي بثقافات الشعوب وترجيح منطق الحكمة والعدالة في مواجهة العنف و أضاليل صدام الثقافات. النبراس هو مصدر النور، وهذا ما نحاول أن نكونه".

الحاجات الإنسانية التي يلبيها المسرح تتعدّى الهم الوجداني الخاص لتشارف الشأن الاجتماعي العام وتنغمس في السياسي منه. وقد كان لغياب الحضور الثقافي العربي كقوة فاعلة ومكملة للهيئة المجتمعية الأميركية القائمة أصلا على توليفة الإثنيات والأعراق بتعدديتها الثقافية، دورا سلبا في تحديد أبعاد الشخصية العربية والإسلامية والنأي بها عن وصمة العنف والعدوانية التي وصمت بها.
تقول مها شهلاوي المديرة الفنية في مسرح نبراس:" السؤال المطروح هنا كيف نغيّر حقيقة أن يتحدث بصوتنا وبصوت العرب والمسلمين بعامة من يجهلون الثقافة العربية والإسلامية، ونُحدث، تاليا، آلية مقابلة لمنعهم من إقامة حوار الغائب باسمنا؟! والإجابة بسيطة على ما أعتقد، وتكمن في توفير المنبر والوسيلة لنقيم خطابنا المباشر دونما وسيط أو مترجم للغتنا أوأفكارنا".من هنا ولدت فكرة مسرحية "سجّل" وهي عبارة عن مجموعة لقاءات أجراها ستة من أعضاء فريق نبراس مع مواطنين أميركيين عاديين و طرحوا عليهم سؤالا موحَّدا و هو:" ماذا تعني لك كلمة (عربي)"؟.

تفيد شهلاوي قائلة:" من واجبنا أن نبرز إشراقات الثقافة العربية والحضارة الإسلامية ونعيد للشخصية العربية بعدها الموضوعي الرصين بعيدا عن تضليل ومخادعة بعض وسائل الإعلام الغربي". هكذا يتحرك مسرح نبراس نائيا بشخوصه عن الصورة النمطية الماضوية التي رسمها الغرب من طقس وهمي ليوميات "حريم الشرق" في سلطة مجتمع رجالي يتراجع فيه الشرط المدني التعددي أمام مدّ السياسي العقائدي الأحادي.


محكومون بالأمل

ما حجم الضمور الذي أصاب قامة المسرح العالية في عصر هجمة تقانة الاتصالات الفضائية المتلفزة، والمعلوماتية البرمجية عبر شبكة الانترنت العالمية؟ أم أن " أبو الفنون" سيبقى دائما الوسيلة الأمثل للاتصال و التفاعل الإنساني المباشرين حيث ينتصب الممثل وجها لوجه أمام جمهوره لا وسيط، لاحواجز، لامؤثرات إلا نبض النص يحاكي لهفة المتلقي ويحث فيه نزوع الحوار؟ وهل غدا المسرح، في عصر سطوة الشاشات الملونة بما تبثه من أفكار جاهزة ووجبات ذهنية سريعة، تقليعة شائبة تستبيح جولاتِها المصطفاة تواتراتُ العصر المحموم بأفكاره المعلبة وصوره المتسارعة؟!

يقول الحاج في هذا الشأن:" إن الإقبال على مسرحنا في نيويورك- المدينة المِرْجل للأعمال المسرحية المحلية والعالمية، وشغف الجمهور في التعرف إلى القيمة الفنية والاجتماعية والإصلاحية التي يحملها هذا المسرح إنما يعطي دليلا قاطعا على أن العمل المسرحي في المدينة الأغنى في العالم بتقانات الإعلام والترفيه إنما هو شأن ثقافي ثابت في عقرالحراك والحداثة: نيويورك". يحضرني نهايةً قول أبي المسرح العربي المعاصر سعد الله ونوس:" في المسرح يكسر المتفرج محارته كي يتأمل الشرط الإنساني في سياق جماعي يوقظ انتماءه إلى الجماعة، ويعلّمه غنى الحوار وتعدد مستوياته. فهناك حوار يتم داخل العرض المسرحي، وهناك حوار مضمرٌ بين العرض والمتفرج، وهناك حوار ثالث بين المتفرجين أنفسهم. وفي مستوى أبعد، هناك حوار بين الاحتفال المسرحي، عرضاً وجمهوراً، وبين المدينة التي يتم فيها هذا الاحتفال. إننا محكومون بالأمل، وما يحدث اليوم ليس نهاية التاريخ".