حسين كركوش
&
&
&
كتب الأستاذ عثمان العمير، رئيس تحرير صحيفة الشرق الأوسط اللندنية السابق ، والمسؤول الحالي عن صحيفة إيلاف الإليكترونية، مقالا في هذه الأخيرة عنوانه "عندما انقذني صدام حسين"، شرح فيه ظروف زيارة قام بها قبل سنوات الى العراق، قابل خلالها الرئيس العراقي المقبور صدام حسين. وعبر العمير عن سعادته لأنه تخلص من ورطة أخلاقية، درج صدام حسين ان يوقع بها رجال الأعلام ، وهي، ان يدس في يد من يقابله من هولاء مبلغ مائة آلف دولار. وأوضح انه مدين للشعب العراقي بوجبات غداء، وبضع أيام قضاها في أحد الفنادق هناك، دفعت أثمانها من خزينة الشعب العراقي. وختم بقوله : " لنترجم حماستنا مع شعب العراق، وتصدينا للنيابة عنه في العمل والتفكير والوطنية الى ما يعتبر مبادرة مشكورة لإعادة أمواله التي هو في أمس الحاجة أليها". وعندما اختار العمير لمقالته عنوان (عندما أنقذني صدام) فهو أراد القول (عندما أنقذت شرفي المهني والشخصي) ولم احصل على رشوة من صدام.&وهذه، لعمري، بادرة لا يرفع لوائها إلا الفرسان الحقيقيون.
ويقينا، ان العلامة العراقي، المغفور له، هادي العلوي، سيرقص طربا داخل قبره، وهو يستمع لقولة الحق، هذه. فقد كان العلوي من أوائل الذين دعوا الى استردادا أموال الشعب العراقي التي وزعها صدام حسين على صحافيين عرب واجانب، لقاء تسبيحهم بحمده، وتمجيدهم لنظامه، وسكوتهم عن مظالمه. ورصد العلوي، في واحدة من مقالاته، كان قد نشرها في صحيفة "المجرشة" الصادرة في لندن، سنة 1998، نشوء ظاهرة "المثقف الثري" الذي كون ثروته لقاء كيله المديح لصدام حسين.

وذكر العلامة العلوي في نفس مقالته، بأنه " عندما كان هولاء المثقفون منهمكين في تقديم خدماتهم لنظام العصابة ويتلقون منه المكفآت الخيالية كانت المعتقلات السرية والعلنية تغص بالألوف من شباب العراق وبناته وهم بين سابح في مناقع الدم ومغتصبة تحبل وتلد من السجن أولادا للجلادين. (...) وأمسى صدام ولي النعمة الأكبر لاعداد متزايدة من المثقفين العراقيين والعرب من شتى الأقطار، بينهم شعراء ومفكرين ومنتجي ثقافة وفنانين وصحفيين كبار".
ألان، وقد حصحص الحق، أو يكاد، ونشرت الصحائف بعد ان كانت مطوية، فأي خدمة تسجى للعراقيين اكثر من تشكيل لجنة تأخذ على عاتقها مسؤولية " إعادة أموال الشعب العراقي التي هو أمس الحاجة أليها" كما ذكر الأستاذ العمير.
ونحن نقترح ان يكون اسم اللجنة (الأموال مقابل الشرف) على غرار برنامج (النفط مقابل الغذاء). ونقترح ان يكون رئيسها الأستاذ عثمان العمير. أما لماذا العمير دون غيره، فلذلك سببان. أولهما، ان العمير هو صاحب هذه المبادرة الشهمة، وعليه ان يكمل مبادرته على طريقة (ان كنت شهما فالحق رأسها الذنبا). وثانيهما، ان العراقيين لا يستطيعون القيام بهذه المهمة في الوقت الحاضر، لأنهم مشغولون بهمومهم في توفير الأمن وقوت عيالهم. وأجدادنا يقولون : "لا تشاورن مشغولا وان كان حازما، ولا جائعا وإن كان فهيما، ولا مذعورا وان كان ناصحا، ولا مهموما وان كان فطنا، فالهم يعقل العقل، ولا يتولد منه رأي، ولا تصدق منه روية".

&ونحن نعرف ان المهمة التي تتصدى لها لجنة (الأموال مقابل الشرف ) الموعودة ستكون شاقة، لانها تتعلق بجسام الأمور الحاوية على مزالق ومهالك ، وستورث العداوة، خصوصا وأنها ستكون بين أهل صناعة واحدة، هي صناعة القلم وما سطر.
&ولان عمل اللجنة يحتاج الى راحة بال واسترخاء ذهن، فأننا نبدأ، من ألان، بتقديم مادة نريدها ان تكون، إنشاء الله تعالى، أرشيفية تاريخية ترفيهية خالصة. أي ليس الهدف منها تقديم أسماء ( الكانزين )، كما سماهم العلامة العلوي، رحمة الله عليه، لأننا ببساطة لا نعرفهم ولا الأموال التي كنزوها. ما نقدمه ليس سوى ملاحظات تتعلق ببعض من تاريخ الرشا في العراق، وبالأماليح والطرائف الخاصة بآهل الرشا. وهدفنا من ذلك امرين. الأول هو، توفير أجواء من المفاكهة تخرج أعضاء اللجنة الموقرين من حال العبوس الذي يكتنفهم ، وهم يستعدون لمباشرة مهماتهم، والثاني هو، اطلاعهم على بعض من تاريخ (أدب الرشا) في العراق.
والرشا، كما تعرفون زاد الله معارفكم لا يتم إلا بوجود ثلاثة أطراف هم، الراشي والمرتشي والرائش (الذي يسعى بين الاثنين يستزيد لهذا ويستنقص لذاك). أو ما يسميه رجال الأعمال، في أيامنا هذه، ب(صاحب الكوم شن).
وفي الحديث الشريف " لعن الله الراشي والمرتشي والرائش".
وتاريخ العراق (مثلما تاريخ الأمم كلها) حافل بأخبار أصحاب الرشا والمختلسين ومقدار الأموال التي احتجنوها أو ارتشوا بها.
ومن هولاء السيدة شغب والدة الخليفة المقتدر و السيدة خاطف، خالته. وكانت أم موسى القهرمانة التي سيطرت على أمور الدولة في زمن المقتدر من أهل الرشا. واشتهر عمر الرخجي بالرشا. وقد جمع ثرة طائلة عندما تقلد الأهواز للخليفة المأمون. وكان عبد الله البريدي من أهل الرشا، ايضا. واستطاع ان يتولى الأهواز برشوة قدرها عشرين آلف دينار رشا بها الوزير بن مقلة.
والرشوة - أعاذنا الله وإياكم منها- انواع. فقد تكون مالا صامتا كالذهب والفضة والمجوهرات ( هذه سمعنا عنها في قصة قناة الجزيرة القطرية، التي ما تزال مجرد شائعة نعاقب قانونيا، إذا اعتبرناها حقيقة واقعة)، والشقق الفاخرة وترخيصات لإصدار الصحف اليومية والمجلات الأسبوعية، وكوبونات نفط مهرب. وقد تكون الرشوة وجبة سمك مشوي، على الطريقة العراقية ( مسكوف)، يتناولها الاعلامي ليقول بعدها : ان عراق صدام حسين بخير.
&وقد تكون الرشوة رقاعا " صكوكا " يحملها المرتشي للصيارفة في جنيف وباريس ولندن وموسكو وبيروت وعمان والقاهرة، وفي كل مدينة فيها مصارف، لتحصيلها. وقد تكون الرشوة مالا ناطقا كالإبل والبقر والماعز، أي أنها رشوة (تمعمع)، كما يسميها أهل العراق. وهذا النوع من الرشا اندثر منذ عقود في العراق، عندما تحول هذا البلد الى بحيرة من المال الصامت، ناهيك ان رجال الأعلام والمثقفين لا يحبذونه، لانه يفضحهم، وكذلك لصعوبة نقله في الطائرات.
وإلا، فهل من المعقول ان نجد صحافيا يجلس في الدرجة الأولى ومعه ثلاث شويهات ومعزى وبقرة ؟
وعلى أعضاء لجنة (الأموال مقابل الشرف) ان يعرفوا ان العراقيين يسمون الرشوة (برطيل). ويقولون عن المرتشي المحترف، كالقاضي المدمن على الرشا، أو الصحافي الذي يبيع قلمه بمبلغ بخس، ( يمعود، هذا يتبرطل بفلسين ). وهم في هذا يهتدون بقول أبن طباطبا :
يا خليلي يا أبا الغيث درك / نصب القاضي لك اليوم شرك
طلب البرطيل فابذله له / يسكت القاضي وإلا ذكرك
لا يهولنك من دنيته / أعطه من رشوة ما حضرك

واخترع العراقيون للرشوة تعابير لطيفة، وصاغوا لها لغة مجازية مهذبة. فالثابت، ان الرشوة لا تتم في العلانية، إنما في الخفاء. ولهذا فان العراقيين يسمون الطريقة التي تتم فيها الرشوة ( جو " تحت " العباية. جو الميز " المائدة " . جو البساط).

وللعراقيين في الرشوة آداب، مثل آداب الضيافة ، أو آداب التحية. فليس من المقبول عندهم ان يقول المرتشي للراشي " اعطني رشوة "، وإنما يقول له بلغة مجازية ، اغلب الأحيان عن طريق الرائش، " أدهن السير. ادهن الزردوم. حرك ايدك. لعب اصابعك. خرخش جيبك ".

وللعراقيين ملاحمهم الشعرية عن الرشا. فقد كتبوا مطولات شعرية، بالفصحى،مثلما بالدراجة المحكية، في هجاء أصحاب الرشا، خصوصا القضاة منهم، والمسؤولين الاداريين.
ومن طريف شعرهم المقذع في هجاء المرتشين هو، قول شاعرهم العباسي ، يهجو قاضيا يتظاهر بالورع والسمت، ولكنه يحترف الرشا :
لنا قاض له وجه/ على اخذ الرشا عابس
ولكن أي... ه/ أي... يدق الرطب واليابس
لكن الملحمة الشعرية العراقية الكبرى عن الرشا هي، تلك التي تتحدث عن (قائمقام طويريج).
والقائمقام، عند العراقيين، هو رئيس الوحدة الإدارية التي يحكمها، ويطلق عليها ( القضاء). أما طويريج ، فهي بلدة صغيرة ( من اقضيه العراق) اشتهرت أخيرا في العالم كله، بعدما تداولت اسمها وكالات الأنباء، اثر دخول القوات الأميركية لها.
وكان ذاك القائمقام (يلفظه العراقيون قيمقام) يدير شؤون قضاء طويريج، أثناء العهد الملكي، بواسطة الرشا. ولم يبق شخص من أهالي قضاء طويريج لم ينتف ريشه القائمقام. وعندما اتعب أمره أهل المدينة، تبرع شاعر شعبي منهم، اسمه إبراهيم الشيخ حسون، فخاض معركة شعرية ضده، كعادة العراقيين، دائما وابدا، في استخدام سلاح الشعر في معاركهم الصغرى والكبرى. وهجا الشيخ حسون، رحمة الله عليه، القائمقام بقصيدة كلها غرر ودرر، أين منها قصائد الحطيئة. وشاعت القصيدة بين العراقيين، وتناقلها الأحفاد عن الاجداد.
ويقال ان العراقيين قرروا هذه الأيام إعادة كتابتها بماء الذهب، وتعليقها على أستار بناية وزارة الأعلام، بعد ان عرفوا ان النية تتجه الى تشكيل لجنة ( الاموال مقابل الشرف)، ولأنهم يخشون عليها من الضياع، بعد عمليات حرق الأضابير الرسمية.
والقصيدة (الحسونية) من المطولات، وهي مكتوبة بالدارجة العراقية، كما نوهنا. ونحن نذكر منها بيتين فقط يعتبرهما نقاد ومؤرخو ( أدب الرشوة ) فص القلادة في هذه الخريدة. وغرضنا من ذكرهما هو، ان يتدرب رئيس وأعضاء لجنة (الأموال مقابل الشرف) على قراءة وفهم الدارجة العراقية، لانهم سيحتاجونها عند بدء عملهم داخل العراق.
والبيتان يطريان على خفة دم القائمقام المرتشي وشطارته التي لا تضاهى. وها نحن نثبت البيتين، ونترك لأعضاء اللجنة ان يتدبروا أمرهم في حل ألغازهما :

تره القيمقام ملتح ولوتي- وشغله حيل ضابط موش خرخوتي
محد سلم منه حتى آبو الاوتي لو يغسل هدومه عليه الصابونة
والأمر الآخر الذي نود ان نلفت انتباه رئيس وأعضاء لجنة (الأموال مقابل الشرف) أليه هو، احتمال ان يعثروا أثناء تحقيقاتهم القادمة على نساء مرتشيات من صدام حسين. وقد تكون بينهن ممثلات فاتنات وصحافيات جميلات. وربما ستحاول إحداهن إغواء أعضاء اللجنة ب( رفع طرف)، أو (غمزة حاجب) ، أو حتى ( إظهار نحر). فعليهم في هذه الحالة ان يعتصموا بالصبر، ويتذكروا قصة تلك المرأة الفاتنة التي خاصمت زوجها الى الشعبي، فمرت بالمتوكل الليثي في منصرفها وقد قضى لها على زوجها. فقال الليثي :

فتن الشعبي لما/ رفع الطرف اليها
فتنته ببنان / وبخطى من حاجبيها
فقضى جورا على / الخصم ولم يقض عليها
كيف لو ابصر منها / نحرها او ساعديها؟
لصبا حتى تراه / ساجدا بين يديها&&
ونحن نهيب بأعضاء اللجنة الكرام أن يتقوا الله وان لا يقضوا جورا على الشعب العراقي المظلوم لصالح خصومه.
وعلى اللجنة الموقرة ان تعيد قراءة التقرير المفصل الذي نشرته أسبوعية الاكسبريس الفرنسية في عددها الصادر يوم الاثنين 18 أيار / مايو الجاري، حول مقدار الأموال التي نهبها صدام وأفراد عشيرته، وأسماء الشركات الوهمية التي أسسها، واسماء المرتشين، والدول العربية والأوربية الموجودة فيها حاليا الأموال المنهوبة.
واخيرا، نود ان نعرف ماذا سيكون حكم لجنة (الأموال مقابل الشرف)، لو ان صحافيا جاء أمامها واعترف قائلا (أنا لحم اكتافي من صدام حسين). هل ستقطع أكتافه ؟ وإذا فعلت فماذا سيكون موقفها أمام منظمة هيومن رايتس، أو امنيستي انترنشنال، أو جمعية مراسلون بلا حدود؟
نحن، من جانبنا، نقترح ان تكون عقوبة صحافي كهذا، إذا وجد فعلا هي، العمل طوال ما تبقى من حياته من اجل إعالة اليتامى العراقيين والأرامل والثكالى الذين يتم العثور على ذويهم هذه الأيام داخل المقابر الجماعية في العراق.
&