المستشار محمد سعيد العشماوي
&
&
&
فور أن صدر الحكم الشهير، من محكمة الاستئناف العليا، بتاريخ 16 يناير ،1986 بأن الفائدة القانونية ليست هي الربا المحظور في القرآن، وهو الرأي الذي يتبناه الأزهر أخيراً فأصدر فتوي بما تضمنه، ثارت ثائرة الإسلام السياسي علي اعتبار أن الحكم يقوض جناحهم الاقتصادي، كما انقلب علي الكثيرون من زملائي رجال القضاة، لأن الحكم كشف حقيقتهم، ومنع عنهم العوائد التي كانوا يستفيدونها من الإيداعات وكشوف البركة لدي شركات توظيف الأموال. لقد صار حكمي المجرد العادل، الذي أخذ به الأزهر حرفياً بعد 16 عاماً، سبباً في عداوة شديدة يحملها لي من يفترض فيهم العدل والحياد والتجرد، وكانوا يدعون أني أحل الربا، دون أن يتساءلوا أولاً وابتداءً: ما هو الربا المحظور في القرآن؟ وبعد وضع تعريف له وتوصيف لأحواله، يشرعون في تطبيق المعايير الفقهية والأسانيد العقلية علي موضوع البحث أو نقطة الاجتهاد.
(و) لإشاعة الإرهاب ضد الكتاب والأدباء والمفكرين والصحفيين فقد شرع بعض أعضاء جماعات الإسلام السياسي في إقامة ما سموه دعاوي حسبة، بالجملة، وضد الجميع ومنهم نجيب محفوظ وشخصي. وكانت الدعاوي ترفع في محاكم نائية بقصد إعنات من يتهمونهم بإهانة الدين، لأية كلمة أو رأي يري الإسلام السياسي أنه لا يوائمه أو لا يلائمه، هذا فضلاً عن قيام احتمال الإدانة، ولو ظلماً وعدواناً، من قضاة صاروا ضمن هؤلاء الإسلاميين، يحملون أيديولوجيا تري أن معاقبة خصومهم في الرأي، ولو بعقوبة الإعدام، هي قربي إلي الله.
وبدلاً من أن تعالج وزارة العدل المصرية المشكلة من أساسها فقد أصدرت قانوناً ينظم ما سمته دعوي الحسبة، بحيث يكون حق رفع الدعوي للنيابة العامة الخاضعة لوزير العدل، وهو من السلطة التنفيذية، وليس من أي شخص مباشرة، فيما يسمي بالدعوي المباشرة.
ونتيجة لشيوع الأمر وخطورته، واتصال كثير من الكتاب والصحفيين لأدلي بدلوي في هذا الشأن العظيم، فقد نشرت دراسة في مجلة العربي الكويتية، وفي مجلة أكتوبر المصرية، ثم نشرت فيما بعد في كتابنا إسلاميات وإسرائيليات . وفي هذه الدراسة أثبتنا من التاريخ والفقه الإسلامي أن الحسبة ليست دعوي فيها خصومة بين طرفين تقيم الحق في الالتجاء إلي القضاء للفصل فيها، وإنما هي حق للشكوي، خاصة من إجراءات صحية أو غش تجاري يقع في الأسواق وأن هذه الشكوي لا ترفع إلي القضاء لكنها تقدم إلي من قيل أنه المحتسب، حتي يتأكد من سلامة الأغذية المطروحة للبيع، ومن صحة المكاييل والموازين، وهو نظام ابتدأه عمر بن الخطاب، وله مثيل في القانون الروماني يسمي مفتش الأسواق.. ولأن المحتسب غير القاضي، فإن عمر عين أول من عين لهذا العمل امرأة تدعي الشفاء، ولو كان المنصب ولاية قضاء ما ولي عمر امرأة فيه، لأن القضاء في الفكر الإسلامي ولاية، ولا يلي الولاية إلا رجل.
إضافة إلي ذلك فقد كتبت مقالة في جريدة أخبار اليوم تحت عنوان من الذي يشرع لمصر!؟ أكرر فيه التفرقة بين القاضي والمحتسب، بين الدعوي والشكوي، وانتقد تقنين حق الشكوي بجعله دعوي قضائية، لأن لذلك آثاراً وخيمة، فضلاً عما فيه من خطأ في تحصيل الفقه وتقنين المسائل. ولم تسر دراساتي ومقالاتي جماعات الإسلام السياسي لأنها تجردها من سلاح بتار كانت قد شرعت تشهره في وجه محمد عبدالوهاب بسبب أغنيته من غير ليه وضد نجيب محفوظ لرأي أبداه لصحفي، وهكذا. وبالإضافة إلي هؤلاء فقد حنق علي وزير العدل، ومساعدوه الذين وضعوا القانون، حيث انكشف للجميع أنهم لم يفوا الموضوع حقه من البحث والدراسة، وأنهم تعجلوا فأخطأوا.
نتيجة لدراساتي ومقالاتي فقد طلبت جهات سيادية تقنين ما اقترحته في مقالتي المنشورة في جريدة أخبار اليوم. من عدم قبول دعوي الحسبة اطلاقاً، فأغضب ذلك كثيرين من رجال القضاء، ومن رجال السلطة الذين يتقربون إلي جماعات الإسلام السياسي في مصر تزلفاً وتخوفاً، ويخطبون ود الحكومة السعودية بأي ثمن.
لكن القانون صدر بعدم جواز قبول دعوي الحسبة أمام المحاكم المصرية إطلاقاً وبهذا لم تجعل لي كلمة الحق صديقاً، وهو تعبير كان قد قاله سقراط قبل 24 قرناً.
(ز) بدأت المحاكم، والمحاكم العليا، كالمحكمة الدستورية ومحكمة النقض في التزييد في كتابة الأسباب لتضمنها قواعد الإسلام السياسي فتجعل من هذه القواعد الخاصة جداً، قواعد عامة، علي تقدير أن ذلك يلزم المحاكم جميعاً، ويحمل أدبيات القضاء الفكر المتطرف فلا يكون ثمة مجال للفكر الليبرالي الحر أو المستنير.
فقد أصدرت المحكمة الدستورية العليا بتاريخ 18 مايو 1996 حكماً في القضية رقم 8 لسنة 17 ق، فيما يعرف بمسألة النقاب. وحاصل الواقعة أن وزير التربية والتعليم كان قد أصدر قراراً ينظم تحديد الزي في مدارس البنات، وتأدي تنفيذ القرار إلي منع فتاة منقبة من دخول المدرسة، فطعن والدها ووليها الطبيعي علي هذا القرار ناعياً عليه عدم الدستورية، وقضت المحكمة الدستورية العليا برفض الدعوي، وجاء في أسبابها: وحيث أن القرار المطعون فيه قد قدر لكل فتاة تلتحق بإحدي المراحل التعليمية هيئة محددة لزيها تكفل في أوصافها الكلية، مناسبتها لها، ولا يكون موضعها من بدنها كاشفاً عما ينبغي ستره منها، بل يكون أسلوبها في ارتدائها كافلاً احتشامها، ملتزماً تقاليد وأخلاق مجتمعها وأضافت المحكمة تقول القرار الوزاري المطعون فيه لا ينال من حرية العقيدة ولا يقوض أسسها أو يعطل شعائر ممارستها ولا يناهض جوهر الدين في الأصول الكلية التي يقوم عليها، بل يعتبر اجتهاداً مقبولاً شرعاً لا يتوخي غير تنظيم رداء الفتاة في دائرة المعاهد التعليمية عبر المراحل الدراسية التي حددها بما لا ينتقص من حيائها أو يمس عفافها أو يشي يقصد يكشف عورتها، فإن القرار يدخل في دائرة تنظيم المباح، ولا يعد افتئاتاً علي حرية العقيدة .
هذه الأسباب كافية لحمل المنطوق عليها وابتناء الحكم علي مقتضاها، كما هو مقرر في فقه القانون ومستقر في العرف القضائي، لكن الذي حدث أن الحكم تزيد ثم أسرف في التزيد فوقع في أخطاء كثيرة ورتب نتائج فكرية واجتماعية وسياسية ذات خطر شديد، ذلك أنه و قد انتهي من بيان الأسباب التي تكفي لحمل الحكم علي دعائها، قصد تبني فكر الإسلام السياسي، وجعله تشريعاً عاماً، ونظاماً قضائياً.
(ج) وبتاريخ 5 أغسطس 1996 أصدرت محكمة النقض حكماً في الطعون التي كانت قد أقيمت أمامها فرفضتها وأيدت الحكم الذي كانت قد أصدرته محكمة الاستئناف بالتفريق بين أستاذ جامعي وزوجه، علي تقدير بأن الأستاذ، بما كتب في كتبه، ارتد عن الإسلام.
هذا الحكم امتنع عن تطبيق المادة 3 من القانون رقم 81 لسنة 1966 النافذة اعتباراً من 22 مايو 1996 والذي يمنع المحاكم من نظر دعوي الحسبة، وهو ما كان يفرض علي محكمة النقض، وهي محكمة قانون، أن تلتزمه لأنه صدر ونفذ قبل أن تصدر الحكم ومادامت المحكمة قد رفضت تطبيق القانون رغم أنها محكمة قانون، وتصدت للوقائع، فإنها تكون قد أحدثت حدثاً عظيماً في النظام القانوني والنظام القضائي، لم يعد أحد بعده آمناً علي نفسه بالقانون أو بالقضاء.
وفضلاً عن هذا الخطأ الجسيم، فإن المحكمة تزيدت في أسبابها - كما فعلت المحكمة الدستورية من قبل- ونصت في الأسباب، علي ما لا ضرورة للنص عليه، لإثبات وتأكيد شعارات الإسلام السياسي، وما تتصور أنها قواعده وتتخيل أنها مباديء الإسلام ذاته!
وفي الحديث القادم بين خطأ تدخل السياسة في القضاء، وما فعلناه رداً علي ذلك.
&
مفكر وكاتب مصري