حمل القطار العربي معه ـ قبل نحو عام أو أكثر ـ راكباً ذا طبيعة خاصة، من ذلك النوع الذي اصطلح على وصفه اختصاراً بالأحرف الثلاثة VIP.. والملاحظة الأولية تتعلق هنا بالتناقض الشديد بين تواضع القطار ـ من حيث الشكل ومستوى الخدمة ونوعية الركاب (الذين توزعوا بين المقاعد والممرات، ومنهم من استوى على سطح القطار، أو تعلق بين عرباته!!) ـ وهيئة الراكب الجديد، الذي يعتمر (قبعة فرنسية)، وتتدلى من جيب معطفه أوراق اليورو الزاهية...
حمل قطارنا العربي هذا الراكب الفرنسي المترف ـ الذي ضلّ سبيله على الأرجح!! ـ لكن لا بأس من انضمامه إلى الرحلة المتعثرة، عساه يكف عن التباهي بذاته الأنيقة، بعد أن قطع طوعاً تذكرته في عربة الدرجة الثالثة، كحال ركاب القرى والنجوع.. المشكلة الوحيدة والبسيطة، التي قد يفزعه اكتشافها بعد لحظات من مغادرة المحطة واستئناف الرحلة، هي أن القطار العربي الذي يحمله الآن، لا يشق طريقه ـ كسائر قطارات العالم ـ إلى الأمام، وإنما (ربما لجهل متقصد من السائق) يندفع بجنون لافت إلى الخلف.. في اتجاه سيفضى به حتماً إلى ما قبل نقطة الصفر، والتي كان قد غادرها بالفعل منذ نحو ألف عام...!!
الحال هكذا منذ رفع المجلس الأعلى الفرنسي للإعلام السمعي والبصري CSA سيفه الرقابي في وجه قنوات عربية ـ تأتي في مقدمتها قناة المنار اللبنانية ـ ملوحاً بوقف بثها على قمر يوتلسات الاصطناعي، بحجة (معاداتها للسامية)..
ولم يكن غريباً ولا مفاجئاً ذلك الموقف الداعم للثقل اليهودي في فرنسا من قبل المجلس الأعلى للإعلام السمعي والبصري، فرئيسه دومينيك بودي ـ (شبه المتزوج) من لبنانية ـ هو عضو المجلس الشرفي لجمعية فرنسا ـ إسرائيل، والتي ترعى ـ من خلال مجموعة كارليل ـ استثمارات عائلتي بوش وبن لادن في فرنسا..
ويجدر بأنظمة العالم الثالث أن تفاخر بانتشار دعوتها الرقابية أخيراً في أوروبا، التي كانت فيما مضى قبلة الأحرار ومهد الديمقراطية وحقوق الإنسان...!! هل حمل المهاجرون إليها من أوطانهم عدوى التخلف والإرهاب الفكري المتفشية في دول العالم الثالث؟ أم أن القارة العجوز أحنت رأسها أخيراً بين يدىّ رموز الرجعية والأمية السياسية التي تتناثر على الخريطة البائسة للعالم، حيثما يستوطن الجهل والفقر المرض؟!!
يتساءل صديقي، النشط في مجال الدفاع عن حقوق الإنسان، معلقاً: لماذا تتخذ فرنسا هذا الموقف، وهي التي اشتهرت تاريخياً بصداقة العرب؟ هل يجب بالفعل أن ننظر بحكمة إلى ما نبثه من برامج على محطاتنا الفضائية؟ ألا تحتاج بعض هذه البرامج إلى مراجعة حقيقية؟ وهل سنظل نلعب دور الضحية ونسعد بذلك، أم آن الأوان لصياغة استراتيجية جديدة لمستقبل علاقاتنا بالعالم...؟
حملتني هذه التساؤلات على إعادة التأمل في القضية برمتها، ابتداءاً بالتباس القصد من تعبير (معاداة السامية)، ومروراً بقدرة الجانب العربي على تفعيل آلياته الحقوقية والمدنية على صعيد دولي للدفاع عن مواقفه السياسية والدينية على السواء، وانتهاءاً بضرورة المراجعة الشاملة للخطاب الإعلامي العربي، وكيف أن بعض البرامج الحماسية على المحطات الفضائية العربية ـ بغض الطرف عن حجم انتشارها ومدى جماهيريتها ـ قد ينطوي على حق يراد به باطل..
السامية والصهيونية
لا يمكن تقويم المعالجة الإعلامية للنزاع العربي ـ الإسرائيلي قبل تحديد المقصود من المفردات ذات العلاقة، ويأتي في مقدمتها مصطلحا (معاداة السامية) و(معاداة الصهيونية)، اللذين ـ فيما يبدو ـ لم يحظيا لدى الأوساط السياسية والعلمية بتعريف دقيق حتى الآن.. وعموماً فالصهيونية ـ وفقاً لموسوعة الإمعان في حقوق الإنسان ـ هي "حركة استيطانية استعمارية هدفها الهيمنة على الأراضي الفلسطينية واستئصال سكانها وتشريدهم"، أما معادة السامية فهي "حركة عنصرية همجية شكلت بعد الحرب العالمية الثانية مسوغاً جوهرياً للصهيونية"، وانطلاقاً من التمييز بين الدلالتين يمكن تصنيف المادة الإعلامية التي تعالج الصراع التاريخي بين العرب وإسرائيل، والتي ـ بطبيعة الحال ـ لا يفترض أن تكون بمثابة مادة تحريضية يستدرجها الغضب العام، قدر ما عليها أن تترجم على نحو علمي ذلك الغضب العام إلى افتراضات واقتراحات ونظريات تقود إلى الحل، الذي يوفر التعايش السلمي بين أطراف الصراع...
ويبدو أنه من الصعب توفيق وجهات النظر حول الأغراض الحقيقية وراء ما تبثه وسائل الإعلام العربية من برامج تتناول بالنقد الممارسات الإسرائيلية ـ الصهيونية على الأراضي العربية المحتلة، فعلى سبيل المثال عندما أجريت تحقيقاً على قناة أبو ظبي قبل نحو خمسة أعوام حول الانتهاكات الإسرائيلية ضد الصحفيين الفلسطينيين، اتهمني القنصل الإعلامي الإسرائيلي في عمّان بأنني متعصب ضد اليهود، وأوصى بإدراج اسمي على القائمة الإسرائيلية السوداء بحيث جرى منعي من الدخول إلى الأراضي الفلسطينية، وهو ما تم بالفعل بموجب تعميم أصدرته وزارة الخارجية الإسرائيلية في منتصف شهر أغسطس من عام 2000.. ثم لحق بي نفس الاتهام عندما سعيت للكشف عن الدور الاستخباراتي الذي كان يقوم به مكتب الاتصال الإسرائيلي في المغرب إبان صدور القرار الملكي بإغلاقه في أعقاب انتفاضة الأقصى!
فالواقع أن إسرائيل لا تصدق أن سلوكها العدواني هو الذي يلحق العار باليهودية في نظر العالم أجمع، وقد اعتبرت محكمة باريس في 24 مارس من عام 1983 أن فضح هذا السلوك إنما يدخل في إطار النقد المسموح به لسياسة إحدى الدول، وللفكر الذى تستلهمه، ولا يشكل على الإطلاق تحريضاً عنصرياً..
الرقص على حبل السياسة!
وإذا كنا نتحدث عن النهج الإعلامي العربي المتهم بمعاداة السامية، فلا يجب أن نغفل ما اعتادت القنوات التليفزيونية الإسرائيلية على بثه من برامج، تقوم على التشهير بالعرب والمسلمين، والسخرية من رموزهم، ولعل القناة الفضائية الإسرائيلية الناطقة باللغة العربية خير برهان على ذلك.. لولا أن العرب لا يجيدون الرقص على حبل السياسة كحال خصمهم الإسرائيلي!! فإذا كان رئيس الوزراء الفرنسي قد صرح بأنه ـ وعدد من وزرائه ـ قد شاهدوا عينات من برامج الفضائيات المصرية والسورية واللبنانية، ومن ثم فقد وجدوا أنها مستفزة إلى الحد الذي لا يمكن معه مشاهدتها!! فلماذا لم تستبق المنظمات العربية النشطة في فرنسا ذلك الإسفين من قبل المجلس النيابي للمؤسسات اليهودية الفرنسية باستعراض البرامج الفضائية الإسرائيلية التي لا يمكن اتهامها بأقل من تشويه صورة العرب والإسلام على نحو منهجي ومقصود أمام العالم؟ الجواب ذكره صديقي النشط في حقوق الإنسان، حين قال: إننا نسعد بلعب دور الضحية على الدوام...!
لقد أفلحت إسرائيل في إعادة استقطاب فرنسا لصالحها، بعد أن كان الرئيس الفرنسي جاك شيراك قد ندد بحملات التشويه الإسرائيلية ضد فرنسا بحجة تشجيعها على معاداة السامية، رداً على تصريح لرئيس الوزراء الإسرائيلي في فبراير من عام 2002 قال فيه: إن اليهود في خطر، مع وجود هذه الموجة العاتية من معاداة السامية في هذه الدولة (يقصد فرنسا) التي يقطنها أكثر من ستة ملايين فرنسي من أصل عربي!!.. وكان وفد من المجلس النيابي للمؤسسات اليهودية الفرنسية ـ وهو ذاته الذى نال وعداً بوقف استقبال القنوات العربية (المعادية للسامية!!) في فرنسا ـ قد قام بزيارة الولايات المتحدة، لينقل إلى المسئولين الأمريكيين رغبة المجلس فى وقف ما أطلق عليه (موجة معاداة السامية في فرنسا)، بل ودعت بعض الهيئات اليهودية إلى مقاطعة البضائع الفرنسية بما فى ذلك الأفلام السينمائية... فماذا فعل العرب في المقابل؟... لا شئ!!
لقد نادت أصوات عربية ـ بل وأفريقية ـ بضرورة التحرك على صعيد دولي، بغرض تشكيل لجان تتولى مراقبة ورصد ما يبث في الإعلام الإسرائيلي من برامج تليفزيونية ومواد صحفية، تتعمد الإساءة إلى الشعور الديني لدى العرب والمسلمين، ومن ثم تتمكن المنظمات الحقوقية العربية من إحاطة الجهات القضائية الدولية بمثل هذه الجرائم الإعلامية، لملاحقة مرتكبيها، إلا أن هذه الأصوات لم تجد سوى صداها، ووقفت مشكلة التمويل عائقاً تقليدياً أمام تنفيذ تلك الأفكار، في الوقت الذي استنزفت فيه بعض الدول العربية مواردها في نزاعات داخلية وخارجية، كان العمل على مواجهة التهديدات الإسرائيلية، أولى منها بالمال والدعم والمساندة..
استراتيجية جديدة
لا ينفى ذلك أن الإعلام العربي في حاجة إلى إعادة النظر في خطابه واستراتيجيته بما يتواءم مع مقتضيات المرحلة الراهنة:
ـ يجب أن تكف بعض البرامج الحوارية عن النباح بهمجية، إلى الحد الذى دفع العالم إلى الاعتقاد بأن العرب لا يجيدون الحوار، ولا يسلكون نهجاً حضارياً في تناول أبسط الأمور بالنقاش، فماذا عساه أن يضيف برنامج إلى القضية التاريخية التي تنتظر الإنصاف من السماء، إذا كانت مهمته فقط هي إشهاد الجمهور على تصلب المفكرين ورجال السياسة العرب حيال مواقفهم، وعدم استعدادهم للإنصات إلى الرأي الآخر؟! ولا يعنى فوز هكذا برامج في استفتاءات جماهيرية بنسب مشاهدة عالية أنها تؤدى دورها على الوجه الأمثل، قدر ما يعنى انسياقها إلى قاعدة (الجمهور عاوز كده)، ولا شك أن أي عاقل لن يستدل بهذه المقولة إلا على انهيار الذوق العام، وهبوط الفن، والاستجابة للمعايير التجارية قبل الموضوعية في تسويق المادة الإعلامية..
ـ كما يجب أن يحسن القائمون على إعداد البرامج الحوارية اختيار ضيوفهم، على النحو الذى يضمن نزاهة مواقفهم من ناحية، وقدرتهم على التعبير عنها بوضوح وشفافية من ناحية أخرى.. وعلى منسقي الاتصال بمراكز الأخبار وإدارات البرامج أن يراجعوا باستمرار قوائم الضيوف المدرجة لديهم، إذ يلاحظ تكرار استضافة بعض هؤلاء الضيوف بحجة عدم توفر بدائل، فيما لا يقتضى الأمر أكثر من بحث جاد وحقيقي داخل الأوساط العلمية الزاخرة بالكفاءات، والتي لا تنتمي بالضرورة إلى تيار بعينه.. علاوة على الأهمية القصوى للترفع عن المجاملات في انتقاء أسماء الضيوف، بوصف الأمر يتعلق بالصورة التي تبدو عليها القضية العربية أمام العالم، ولا مجال هنا للمحسوبيات أو العلاقات الشخصية..
ـ ويجدر كذلك بمعدي ومقدمي البرامج ـ خاصة تلك التي تجرى على الهواء مباشرة ـ أن يعدوا أنفسهم قبل أن يعدوا برامجهم، وأن تكون لديهم القدرة على توجيه دفة الحوار وفق السيناريو المفترض للبرنامج، وتتحمل إدارة المحطة مسئولية اختيار المذيع المناسب للبرنامج المناسب مع الضيف المناسب.. فعلى سبيل المثال لا ندفع بمذيع يستهل مشواره المهني إلى حوار مع دبلوماسي إسرائيلي سيتمكن بسهولة من استعراض وجهات نظر قد تبدو في حاجة إلى تعليق أو رد أو مداخلة، ثم تمضى وكأنها نالت اعتماداً من مقدم البرنامج الذي يمثل محطته، ومن ثم البلد الذي تبث منه المحطة إرسالها، فضلاً عن ظهور الموقف الإعلامي العربي حينئذ هزيلاً وضعيف الحجة..
ـ والأهم من كل ذلك أن تراجع كل محطة فضائية عربية خطتها (بعض الفضائيات العربية بالمناسبة ليست لديها خطة ولا استراتيجية على الإطلاق)، وأن تجرى عملية تقويم على نحو دوري لتلك الخطة، ولعل المناخ السياسي الذي يحيط بالوطن العربي منذ أحداث الحادي عشر من سبتمبر بالولايات المتحدة، يفرض أهدافاً إعلامية تتعلق بالتركيز على الجانب المضئ من الثقافة العربية، وتسليط الضوء على المنجزات العلمية وجهود التنمية في العالم العربي بعيداً عن التهويل الرسمي أو التهوين الشعبي، وتشجيع البحث والاجتهاد، واستخدام العقل لا السلاح، والمنطق العلمي لا الصياح.. ولا يبقى إلا أن تدرك كل محطة فضائية أنها عين الشعب ولسانه، وأن انتشارها مرهون بمدى تلبيتها لخيارات الأمة، وأن نجاحها مشروط بمدى استجابتها لمتطلبات العصر..

محمد سعيد محفوظ
إعلامي مصري
[email protected]