في أعقاب هجمات الحادي عشر من سبتمبر، صارت المهمة الأمنية الأولى في العالم هي تعقب مصادر تدفق الأموال غير الشرعية.. وبات يقيناً أن حل لغز الجريمة يترتب على الإجابة عن سؤال واحد: من أين حصل الإرهابيون على الدعم؟
والواقع أنه ليس ثمة عنصر من عناصر الجريمة أكثر تعقيداً ـ في اقتفائه وتتبعه ـ من كيفية تمويلها، فإدراك الثغرات التي دأب المحترفون على التسلل منها إلى الساحة المالية الدولية لا يحتاج فقط إلى فحص القوانين وتمحيص الإجراءات، وإنما يتطلب ـ فوق ذلك ـ خبرة وافية بالدهاليز السرية في عالم المال والإرهاب.. إنها مهمة متشابكة، كتلك التي كلفتني عناء رحلة طويلة في أوروبا والولايات المتحدة، حيث ليس لدى أحد من هؤلاء المنهمكين في الحرب على ممولي الإرهاب (المجهولين) إلا أن يخترع أو يخمن، في مناخ لم يعد يحتمل المزيد من المغالطات...

وقد كان عليّ ـ قبل الشروع في المهمة ـ أن أفرز سلسلة معقدة من الأحداث، ليست تلك التي تابعتها مؤخراً بحكم واجبي الصحفي وحسب، ولكن تلك التي عاصرتها أيضاً بحكم فضولي الشخصي قبل سنوات، ما دمت مقتنعاً بأن حل لغز من ذلك النوع الغامض لن يتأتى بوسائل البحث التقليدية...

* شاهد عيان!

والحقيقة أن انتباهي إلى فوضى المال لم تلفته في البداية قرائن الإدانة التي يروجها الغرب ضد هيئات ومنظمات خيرية دينية، يعتقد أنها تستغل نشاطها في تغذية جماعات متشددة بالتمويل اللازم لجرائمها.. فمع بلوغي السابعة عشرة تقريباً، كانت قد توفرت الفرصة لكي تتكشف أمامي أعطاب فاضحة في كيان الحركات الدينية في مصر، تتخللها مثالب محبطة في سياساتها المالية ـ لاحظت جانباً منها عن قرب ـ جعلتني أستبعد من تقييمي لأداء الجمعيات الخيرية المنبثقة عنها فيما بعد، كونها تستلهم شعاراتها من نصوص دينية، أو تمس ـ بالقدر الذي تعلنه من خدماتها ـ مواطن العجز الحكومي...

كان نشاطي الإذاعي والمسرحي يستفز المنتسبين إلى الجماعة الإسلامية من زملائي في مدرسة العباسية الثانوية بالإسكندرية، وكنت بالنسبة لهم ـ وتبعاً لتصنيفاتهم المتشددة ـ خصماً عنيداً!! حتى حملتني الرغبة في اختبار نظرياتهم ـ باندفاع مراهق يستعجل الفهم ـ إلى قبول الانخراط بين صفوفهم على نحو لا يخلو من الحذر.. وهكذا وجدتني ـ ذات مساء تاريخي ـ ألبي أولى مطالبهم بإشهار هويتي الجديدة، حاملاً صندوق للتبرعات في شارع محرم بك، داعياً رواد المقاهي وأصحاب المحال التجارية إلى التصدق بالمال من أجل الخير... أي خير؟ لا أعلم...

عندما أحلل ذلك المشهد الآن، يتعزز لديّ اليقين بأنه قد جرى ـ على نحو ما ـ استغلالي، فلماذا دفع بي ـ أنا الصبي الأنيق، ذو الموهبة المبكرة في الخطابة ـ دوناً عن أقراني الأشد التصاقاً والأقدم ارتباطاً بالجماعة، لحمل صندوق التبرعات، الزاخر بدعايات الحركة الإسلامية وشعاراتها؟...

* واجهة.. بأموال التبرعات!

يفترض المنطق أن تصب تلك التبرعات في ميزانيات الجمعيات الخيرية، حيث يتم توزيعها للوفاء باحتياجات المجتمع، والإعلان في نهاية كل عام عن الموارد والإنجازات، بالقدر الذي يؤهل الجمعية إلى المضي في جهودها، بمساندة وثقة الجمهور..

لكن الأخبار المتداولة عن بعض الجمعيات الخيرية في العالم العربي لا تؤيد هذه الفرضية، خذ مثلاً جمعية الصيادين في السويس، التي تعرض شرعيتها للإيجار، مقابل الاستفادة بإعفاءاتها الضريبية وتسهيلاتها الجمركية.. فلم يكن على أكبر شركة إعلانات في مصر قبل نحو سبع سنوات غير أن تدفع لتلك الجمعية بضعة آلاف من الجنيهات، وتستغل اسمها في حفل خيري يعود بأكثر من مليون جنيه، لكن الوثائق ستقول زوراً في نهاية العام أن الحفل ـ ويا للأسف ـ لم يربح مليماً واحداً!!

* * *

وقد انتبهت أجهزة الرقابة قبل عشر سنوات إلى مخالفات تجري في الظلام داخل إحدى الجمعيات الخيرية التي تديرها من الباطن جماعة متشددة، في وقت كان أحد الأثرياء يحول مرأب السيارات أسفل بنايته إلى مسجد، للانتفاع من بعض المزايا الضرائبية.. لتوفد الجماعة المتشددة ـ التي كانت على وشك فقدان جمعيتها الخيرية وتحتاج إلى واجهة جديدة ـ أحد أفرادها إلى ذلك الثري، مدعياً أن أسرته ترغب في التبرع لاستكمال إنشاء المسجد، وكانت تلك الخطة ـ كما هو واضح ـ تمهد للهيمنة على نشاط المسجد فيما بعد، وقد تم للجماعة ما أرادت.. ولم يعرف وقتها ـ إذ تسربت القصة إلى بعض المحيطين ـ ما إذا كان المبلغ الذي اشترى به أعضاء الجمعية الخيرية المتشددون ذمة الثري، قد أتى إليه من صندوق الزكاة، أم صندوق كفالة اليتيم؟؟

* تحذير وصمت!

بعد سنوات من تلك القصة هاأنذا أشق طريقي إلى بريطانيا لأطارد ـ بلا كلل ـ مافيا التبرعات الضالة في عمق أوكارها..

بدا لي الوضع مختلفاً بعض الشيء في لندن عنه في الإسكندرية، إذ لم يكن جامعو التبرعات بعد صلاة الجمعة في المركز الثقافي الإسلامي بالعاصمة البريطانية سوى مجموعة من المتلبسين بتلك الهيئة التقليدية التي يروج لها الغرب عن الـ (متطرف) وربما (الإرهابي): لحية كثة، وثياب رثة، ووجوه يغشاها العبوس والضجر!! ومع ذلك كان المارة يتجاوبون مع نداءاتهم! فتمتلئ الصناديق والدلاء بالعملات المعدنية والورقية! فيما لا يكف حاملوها عن الهتاف بحماس..! كنت هذه المرة صحفياً يراقب ما يدور عن كثب، وليس مجرد صبي بلا بصيرة مدفوع بفضول نزق إلي مهمة تفتقر إلى الوضوح.. وبالجهد أقنعت أحد هؤلاء المكلفين بجمع التبرعات من جهة غير معلومة للقبول باستجواب صحفي، بعد أن نهرني عدة مرات، ملوحاً بذراعه للمصور الذي كان يصوب نحوه الكاميرا، وهو يردد بنبرة متوعدة: (امشِ، روح!!)...

داهمت ذلك الشاب ـ الذي قال مفاخراً أنه ينتمي إلى الجبهة الوطنية للإنقاذ في الجزائر ـ بسؤال عن الغرض من جمع تلك التبرعات، فأجاب كما لو كان يدلى بنص أعد سلفاً: إلى الفقراء والأيتام والمساكين بإذن الله تعالى! سألته بهدوء: ومن يوزعها؟ فقال بنفس الوتيرة: أخوة مختصون في هذه الأمور إن شاء الله!! سألته عما إذا كان لديه ثمة تصريح من السلطات في بريطانيا بجمع تبرعات في مكان عام، فقال متبرماً: التصريح هو الله سبحانه وتعالى، أنا لا تهمني السلطات في هذه البلاد!! نفس هذه العبارة ـ برنينها المقدس ـ ألقاها عليّ في سياق مشابه شاب آخر بدا لي أنه من أصل هندي، عندما قال بثبات: (I have a permission from ALLAH)!

حاولت أن أستدعي من ذاكرتي تلك العبارات التي طبعت بصماتها على ذاتي الصغيرة قبل عقدين، بحيث انزلقت تحت تأثيرها ـ بقبول مستكين ـ إلى حافة عمل مخالف للقانون ـ حتى وإن بدا موافقاً للشرع ـ فلم أجد سوى ذات العبارات، المرصعة بذات المفردات، التي لها على القلب ذات السحر، فلا تستطيع معها إلا أن تستجيب.. وقد استجبت...

لكن الأشد غرابة أن إدارة المركز الإسلامي في لندن ـ والذي يتمتع بثقة أجهزة الأمن البريطانية ـ تعلق على أحد جدرانه المطلة على بارك رود لافتة عريضة تحمل تحذيراً باللغتين العربية والإنجليزية من (تحصيل الصدقات والتبرعات قبل الحصول على إذن خطي سابق منها)، علاوة على تنبيه بنفس المعنى يتم بثه عبر مكبر الصوت بعد الصلوات.. ذكر لي عبد السلام بن داود مدير قسم الإعلام والنشر بالمركز، أنه ليس بوسع الإدارة أن تفعل أكثر من ذلك، كما ليس بوسع أجهزة الأمن أن تتدخل في الأمر ما دام يحظى بصمت الجميع!!

* تقارير مغرضة!

على ضفة نهر تايمز بالقرب من قصر وست مينستر، كان موعدي مع الدكتور أشرف عيسى مستشار الإعلام الإسلامي بوزارة الخارجية وشؤون الكومنولث البريطانية، وفر لنا الطقس الغائم فرصة نادرة للتأمل في كل شيء، من تدهور الحال في مصر ـ التي ما زال يحمل جنسيتها ـ وشيطان الفساد الميئوس من إصلاحه في العالم العربي، واختزال وسائل الإعلام الغربية صورة العرب في تلك الجماعات المتشددة، إلى كل من إنجازاته وطموحاتي في المجال الأكاديمي، وتكيفه مع المحيط الأوروبي إلى حد الاندماج ـ بفضل خبرته ودرجته العلمية ـ في مؤسسته الدبلوماسية..

ثم تبادلنا نتفاً مما يروى عن الجمعيات الخيرية في العالم العربي، وبحثنا في الحجج المتعلقة بحقوق الإنسان والتي شجعت بريطانيا على احتضان العديد من اللاجئين السياسيين المتشددين من أنحاء العالم المختلفة طيلة السنوات السابقة، وهم الذين أشرفوا وحرضوا على جمع التبرعات لأهداف ليست كلها نظيفة، ويرى أشرف أن الهدف الأول من تلك السياسة كان يتمثل في حماية الأراضي البريطانية من أي عمليات إرهابية قد تقوم بها تلك العناصر في مقابل استضافتهم، أما الهدف الثاني الذي تعلنه بريطانيا وتدافع عنه هو أن منحها اللجوء السياسي إلى هؤلاء يسمح لأجهزتها بمراقبتهم عن كثب، كما يوفر مصدرًا قيمًا للمعلومات الاستخباراتية التي يمكن استخدامها على نحو ما كأدوات للضغط السياسي..!

غير أن تلك السياسة البريطانية قد بدأت في التحول بالاتجاه المعاكس حتى قبل أحداث 11 سبتمبر، عندما أصدرت بريطانيا قانوناً لمكافحة الإرهاب، يصنف 21 جماعة نشطة على أراضيها باعتبارها متطرفة، وأصبح تجنيد العناصر أو جمع التبرعات لصالح تلك الجماعات جرماً يعاقب عليه القانون.. ليصبح السؤال التالي في هذا السياق هو: هل ستخل تلك الإجراءات ضد العمل الخيري الإسلامي ـ موضع الشبهة في بريطانيا ـ بالسياسة البريطانية الثابتة إزاء الحريات وحقوق الإنسان؟

* * *

بعد يومين كنت في المبنى العريق لوزارة الخارجية وشؤون الكومنولث البريطانية، أنصت إلى تحليل واع من دين ماكلوجلان المتحدث الرسمي باسم الوزارة، يبرهن على أن الموقف البريطاني الثابت من حقوق الإنسان لم يتغير، وأن حرية تأسيس الجمعيات الخيرية لا تزال مضمونة في إطار القانون، وأن معيار استمرار الجمعيات القائمة في ممارسة أنشطتها هو مقدار شفافيتها مع أجهزة الرقابة والمجتمع..

ويوافق نذير أحمد اللورد البريطاني المسلم عن دائرة براد فورد الغربية على ذلك الرأي، لكنه ـ في المقابل ـ يرفض إلقاء التهم جزافاً من دون أدلة على الجمعيات الخيرية بصفة عامة، ويشكك في نوايا بعض التقارير المنسوبة إلى جهات معادية للمسلمين، ويطالب بالنظر إلى بعض الجمعيات الخيرية المسيحية واليهودية التي تشجع الإرهاب وتدعمه بالمال..

هنا صار يتوجب البحث عن تلك الأطراف التي تواجه الآن من الجميع اتهاماً بدعم وتمويل العنف أو ما يسمى (الإرهاب) من أموال التبرعات.. توصلت ـ بعد صعوبات ـ إلى أحد زعماء ما يسمى بالحركات الأصولية المتشددة، ويدعى ياسر السري.. وهو ليس مجرد هارب في بريطانيا من حكم بالإعدام في مصر لاتهامه بمحاولة اغتيال رئيس مجلس الوزراء المصري الأسبق الدكتور عاطف صدقي، لقد صار ـ على نحو غير مفهوم ـ مفوضاً من كل الجماعات المتشددة في العالم للتعبير عن مواقفها أمام وسائل الإعلام!!

* النشاط ( السريّ ) لياسر السريّ!

قبل منتصف الليل بساعة، دخل من باب الفندق مزهواً بلحيته.. حرر عنقه من الكوفية الصوف، وخلع معطفه المبلل بماء المطر، واطمأن لوجاهة جلبابه القصير.. ثم (بحلق) في حذائه المتهالك، وهو يسأل موظفة الاستقبال بإنجليزية ركيكة: محمد سعيد موجود؟ أشارت له نحوي دون اهتمام.. كنت جالساً في محيط بصره لولا أنه لا ينظر إلا عن ذات اليمين..!!
ـ أهلاً أخ ياسر!
... كان مبتسماً في دهاء، جلس إلى جواري، وبادرني قائلاً: ها قد جئت إليك، فماذا تريد؟ شرحت له مهمتي حتى استراح.. ثم تنهد، فملأ أنفي برائحة السواك، وقال لي في ثقة: موافق!

* * *

وفي غرفة ضيقة بجوار مقبرة على أطراف لندن ـ حيث يدير نشاطاً تجارياً غامضاً ـ حكى لي ياسر السري كيف خرج من مصر بصورة مفاجئة عام 1988 متوجهاً عن طريق البر إلى الأردن، ثم انتقل إلى اليمن بعد ذلك ليبقى بها خمس سنوات إلى أن نصحه أصدقاء له في الحكومة اليمنية ـ وفقاً لزعمه ـ بالخروج منها عام 1993، بعد أن ورد اسمه في قائمة سلمتها مصر إلى اليمن تضم 16 اسماً تطلب تسليمهم.. فتوجه إلى السودان، حيث دفع 800 دولاراً مقابل الحصول على جواز سفر مزور غادر به إلى لندن طالباً حق اللجوء السياسي، وهناك أسس المرصد الإعلامي الإسلامي.. ليعتبره المعنيون بالشئون الأمنية واجهة جديدة للأنشطة الإرهابية التي يتم التخطيط لها في أوروبا، خاصة بعد أن أصدر من خلاله كتاباً خطيراً لقيادي في الجماعة الإسلامية المصرية ـ حصلت على نسخة منه ـ يدعى رفاعي أحمد طه أباح فيه إهدار دم الأقباط والسياح في مصر بحجة أن الإسلام يبيح قتل الكفار غير المعاهدين!! كما أباح قتل ضباط وجنود الشرطة دون فرق وفي أي وقت!!

وكشف لي ياسر السري عن زيارة مسئول أمني بريطاني له في منزله بلندن عام 1996 نصحه بتغيير محل إقامته لأسباب أمنية، تتعلق بمحاولات الأجهزة المصرية اقتفاء نشاطه.. وفي عام 1999 اعتقلته الشرطة البريطانية لفترة محدودة بموجب قانون الإرهاب بعد أن أرسل بياناً إلى كوفي عنان الأمين العام للأمم المتحدة حول عمليات تعذيب يقول أن المتشددين المعتقلين في مصر يتعرضون إليها..

وكان السري قبل نحو عامين ـ وفقاً لمعلومات أدلى بها إلىّ مصدر قريب منه ـ يستعد للتحالف مع رجل أعمال قبطي هارب في فرنسا.. وكان الاتفاق ـ وفقاً للمصدر ـ يلزم رجل الأعمال بالتبرع لصالح أسر بعض المسجونين على ذمة قضايا الإرهاب، مقابل توحيد أهداف الطرفين، الرامية إلى زعزعة النظام الحاكم في مصر!! وقد علق السري على تلك الرواية بقوله: أنا لا أقبل أموالاً من أحد، خاصة المشبوهين بأكل أموال الشعب المصري..

أما عن الجمعيات الخيرية الإسلامية في الدول العربية فهو يرى أنها تمارس أنشطتها في العلن، تحت سمع وبصر السلطات الأمنية ووزارات الشؤون الاجتماعية.. وهي ـ بحسب قوله ـ مؤتمنة على ما تتلقاه من زكوات أو صدقات لإيصالها إلى مستحقيها.. وعندما سألته: ما الذي يجعلك متأكداً من أن كل أموال التبرعات تذهب بالفعل إلى مشروعات خيرية؟ هل تتابع عمل كل الجمعيات في العالم من خلال هذه الغرفة؟ أجاب في استسلام: لا!!

* * *

أعادتني تلك المقابلة إلى حديث كنت قد سجلته ـ في قاعة بفندق تشرشل بوسط لندن قبل نحو أربعة أعوام ـ مع الشيخ عمر بكرى زعيم جماعة (المهاجرون)، تركز حول نشاطه في تدريب الشباب المسلم في بريطانيا على القتال وإرسالهم إلى كشمير وكوسوفو وأفغانستان عبر باكستان وبنجلاديش، وعلاقته بشركة (السكينة الأمنية) التي كان يملكها شخص يدعى محمد جميل، وكانت هذه الشركة تعمل في تدريب المتطوعين للجهاد على فنون القتال المسلح في مزرعة تبلغ مساحتها ألف فدان تقع في الولايات المتحدة!!

كما تناول الحديث ـ الذي أذاعته قناة أبو ظبي في ذلك الوقت ـ عمليات جمع التبرعات التي تقوم بها جماعته تحت مظلة 12 جمعية وهمية ذات اسم مستعار رغم أن الحكومة البريطانية سحبت في نوفمبر 99 ترخيص جمع التبرعات الخاص بهذه الجماعة.. ولا زلت أذكر كيف أن الشيخ عمر راح يهددني ـ قبيل انتهاء اللقاء ـ بأنني سوف ألقى نفس مصير الصحفية التي أساءت له في إحدى المجلات، فدعا عليها مع أتباعه حتى أصيبت بالشلل، وجاءت إليه تطلب الغفران!!

وفي اليوم التالي اتصل بي هاتفياً واعترف لي بأنه وضع مسجلاً صغيراً تحت الطاولة أثناء المقابلة، وأنه استمع مرة أخرى إلى الحوار، فتأكد أن الأسئلة مغرضة، وبدأ يطالبني بتسليمه الشرائط، وإلا فإنه سوف ينفذ تهديده!! وبطبيعة الحال رفضت، وأذيعت المقابلة كاملة، ولم ينفذ بكرى كلامه..!!!

* مخالفات مالية أم شرعية؟

في العاصمة السويسرية الفيدرالية برن، روى لي أحد الصحفيين العرب ـ الذي التمس عدم ذكر اسمه ـ كيف وصمت إدارة المسجد المركزي بالكفر هؤلاء المسلمين الذين توعدوها بفضح مخالفاتها المالية وعبثها بأموال التبرعات أمام الحكومة، التي كانت لتوها قد توعدت عناصر مؤيدة وداعمة للعنف ـ تختبئ لديها ـ بمزيد من التشدد في إجراءات الرقابة والمتابعة..

وقد سردت لي جوديث شميت وكيل وحدة مكافحة غسيل الأموال في سويسرا مجموعة الخطوات التي اتخذتها الحكومة في مجال محاربة تمويل الشبكات الإرهابية، وفقاً للقوائم المقدمة من قبل الولايات المتحدة والأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي، كان أقلها تجميد 72 حساباً بنكياً بما قيمته 32 مليون فرنك، لكنها في ذات الوقت تعتقد أن تجميد هذه الحسابات لا يعني قطع الطريق تماماً على مصادر تمويل ما يسمى بالإرهاب، نظراً لاعتماد هذه المصادر ـ في أغلب الأحيان ـ على طرق مشروعة، ومنها التبرعات الشعبية والخاصة.. والتي يصعب السيطرة عليها، بنفس القدر الذي يسهل فيه التلاعب بها، كما في حالة المسجد المركزي في برن، والتي لم تجد من المسلمين هناك من يعلق عما نشر حولها في بعض الصحف السويسرية، المعروفة بعنصريتها ضد العرب والإسلام...

وربما كانت تلك الصورة الباهتة التي يبدو عليها المسلمون في سويسرا ـ والبالغ عددهم 450 ألف ـ هي السبب وراء الهجوم المتواصل عليهم من قبل الصحافة السويسرية.. لقد التقيت في جينيف بالصحفي السويسري سيلفيان بيسون، الذي عرف بقسوته في انتقاد العرب، وعدائه الشديد للإسلام، وقد اكتشفت أنه ليس بمقدوره أن يميز بين التيارات الإسلامية المختلفة، ولا أن يفرق بين الجماعات والمذاهب.. بل ويضع بن لادن في سلة واحدة مع ياسر عرفات ويوسف القرضاوي وعمر خالد....!!

وقد تساءلت فيما أستمع إلى تحليلاته المشوهة: كيف لم يعبأ أي من الصحفيين العرب والمسلمين في سويسرا بالرد عليه وإعانته على الفهم، وتفنيد أفكاره الناقصة والمعيبة؟ ولماذا يضع المسلمون أنفسهم في موضع الشبهة؟ ومتى يصبح الأمر لدينا أكثر من مجرد حملة تقليدية ضد أفكارنا القديمة؟

حملت معي تلك التساؤلات إلى نيويورك، معتقداً أن النكسة التي تعرض لها العرب والمسلمون هناك سوف تدفع بهم إلى مراجعة الذات.. فلم أجد مدافعاً عن الإسلام سوى حاخام يهودي يتزعم حركة واسعة لمناهضة الصهيونية يدعى ديفيد ويس، قال لي: إن جمع التبرعات لصالح إسرائيل من أجل قتل الفلسطينيين هو إرهاب، ويجب أن تلتزم الجمعيات اليهودية ـ التي تدعي أنها خيرية ـ بالقانون، الذي تريد الحكومات إملاؤه على الجمعيات الإسلامية وحدها..

* * *

كانت نيويورك ـ كعادتها ـ صاخبة، وكانت المنافسة الرئاسية المحتدمة بين جورج بوش وجون كيري هي حديث كل اثنين يجتمعان هناك.. وذات أصيل قررت السير على قدميّ غرباً من التقاء طريق برود واي (ذي الدعايات الانتخابية الوافرة) وشارع 25 (حيث أقيم)، باتجاه نهر هادسون، مروراً بموقع برجي مركز التجارة، اللذين اندثرا في يوم مظلم قبل ثلاثة أعوام..

وعندما وصلت إلى ضفة النهر، امتلكتني الرغبة في الصعود فوق نيويورك على طائرة هيلكوبتر سياحية، وما هي إلا دقائق حتى كنت أحلق في سماء المدينة اللاهية، عندها نظرت عن قرب إلى وجه تمثال الحرية، ولاحظت كم هو قبيح ودميم، رغم بريقه الواهج في أعين المخدوعين بالنموذج الأمريكي.. وفيما كانت الطائرة تعلو وتعلو.. فكرت في وطني البائس، وتساءلت: هل مازال مقدراً لنا أن نظل نهبط ونهبط؟!

محمد سعيد محفوظ
إعلامي مصري
[email protected]