دعتني أسطورة الفناء في ذلك النهار الواعد، كي تهمس لي أخيراً بسرها الجليل.. حملتني إلى أغوار البحر السحيقة، حيث ترقد ـ غير بعيدة من شاطئ أبي قير الموحش ـ مدينة هرقليوم، مستغرقة في سباتها منذ نحو ألف عام، تحتضن النهاية البائسة للإله هرقل، ذي الملكوت والجبروت..

أ

الكاتب في رحلة غوص تحت الماء
قلعت فجراً إلى المدينة المطمورة في باطن البحر.. كان القارب الخشبي الصغير يتواثب على أعراف الموج المضطرب في عناد، كأنما يتأهب للنيل مجدداً من فرسان هيلاس الأشداء، الذين استردوا أرواحهم بغتة ويسعون للانتقام..

وكانت الشمس تتوارى بالغمام.. فيما أقف على مقدم القارب أمعن النظر في مدينتي التي كان ساحلها يبتعد عنى شيئاً فشيئاً.. وكنت أتساءل في خاطري: ماذا تراها الإسكندرية تخفى مزيداً من الأسرار؟!!

كف الملاح عن التجديف فجأة، وطرح مرساه في البحر، وما هي إلا لحظات حتى خمد الموج، وانصرف الغيم، وهدأت الريح.. وغشي الركود كل ما حولنا، كما لو أن يداً مباركة مسدت هذا الوجود الرحب.. وهتفت بي صبية مدرّبة كلفت بحراستي تحت الماء أن أستعد، ثم شرع زميلها يختبر عتاد الغوص الذي أحاط بي على نحو محكم، والهاتف الذي سأحمله موصولاً بمحطة إرسال دقيقة على عوامة طافية، وجهاز تخفيض الضغط المزود بميكروفون حول عنقي.. ثم راح يعيد علىَ وصاياه بألا أشرد عن المسار في الأعماق، وألا يهتز فؤادي من هول ما سأرى..

....

زمجر الملاح بصوت كالرعد.. فألقيت نظرة أخيرة على الأفق الحافل بالعمران، ثم مضيت قدماً إلى حافة القارب مثقلاً بأكداس من المعدات، ومنتعلاً زعنفتين قاسيتين، ومتخصراً بحزام من الرصاص الثقيل، ومحترزاً من البرودة ببزة وثيقة... سرت متوكئاً على سواعد الرفاق، حتى بلغت الدرج المعدني المتدلي من فخذ القارب.. وبسرعة خاطفة هويت بجسدي إلى البحر في استسلام.. ملبياً نداء الأسطورة، وعاقداً نيتي على إيقاظ خبيئتها واكتشاف لغزها السرمدي، ومردداً نص الشهادتين.. فيما كان وجهي يرتطم بصفحة الماء البارد!!

....

ابتعلني اليم في جوفه، واحتواني في جملة أسراره.. حتى لم يعد لوهج الصبح عبر نظارتي من أثر.. ظللت أشق الماء في جوار حارستي، متحدراً أكثر فأكثر نحو القرار البعيد.. وبعد نحو أمتار أدركتنا عواصف الرمال تصد موكبنا في شدة وعنفوان، فانبرينا نغالبها رويداً.. فيما نتابع الانغماس في طريق وعر محفوف بالأهوال، كما في الخيال...!!

قطعت لأسفل أربعة عشر متراً قبل أن أطأ بقدميّ صخرة ناتئة في القاع.. ثم بدأت أقلب البصر من حولي، مذهولاً من أمري.....

ـ الآلهة المذبوحة !

ما أهولها خاتمة تلك التي لحقت بسادة هرقليوم وعبيدها تحت أسوار المدينة العتيدة! أية قصة وأية مأساة؟! هل كان غدراً من الطبيعة أم انتقاماً من السماء؟! أي من هذه البقايا الرثة والأطلال البائدة لديه مفتاح السر...؟

وجدت نفسي وسط حطام هائل من التماثيل التي قطفت رؤوسها، كما لو أنها تعرضت لحملة تحطيم منظمة كتلك التي قادها النبي ابراهيم عليه السلام ضد أصنام أهله وأبيه آزر.. أو أن إغراقها تم عمداً لإنصاف الدين الذي جاء به حينئذ عيسى بن مريم، مع انصراف المصريين عن عبادة آلهة الفراعنة والحضارة الهيلينية الإغريقية.. وكأن دعاة المسيحية فعلوا مثلما فعل سيدنا ابراهيم، فنزعوا رؤوس الأصنام، ثم حملوا الرؤوس والأجساد وألقوها في البحر، تطهيراً للأرض من دنس الشرك، ودفعاً للمصريين كي يقلعوا عن تقاليدهم في زيارة معابد الآلهة القديمة، التي لم تفلح المسيحية فيما يبدو في إقناعهم بالتخلص منها والتجرد لعبادة الله الواحد الأحد...

كانت تلك التماثيل هي ما تبقى فى أعماق البحر، بعد أن انتشل القسط الأكبر منها ـ في شهر يونيو من العام 2001 ـ غواصو المجلس الأعلى للآثار وإدارة الآثار الغارقة بالإسكندرية، بمعونة الغواصين الفرنسيين، تحت قيادة المكتشف الأثري فرانك جوديو رئيس المعهد الأوروبي للآثار البحرية، بعد رحلة بحث استغرقت خمسين يوماً ولمدة ست ساعات يومياً، تمكنوا خلالها من إزاحة رمال غطت بارتفاع مترين حطام المعابد والتماثيل بامتداد نحو ستة كيلو مترات داخل البحر من أبى قير شرقاً، إلى الميناء الشرقي قرب منطقة رأس التين، على الحدود الغربية لمدينة الإسكندرية..

استرعت انتباهي تلك المعابد التي انهارت أسقفها المنقوشة بعناية، في دلالة رمزية على مدى القدسية التي كانت تحتلها في نفوس أهل المدينة، وكانت تلك المعابد مهيأة لعبادة هرقل إله القوة والسيطرة..

ـ كليوباترا.. تحت البحر !

بدأت بعد لحظات في تمييز البيوت والأزقة والشوارع، والتي يشي طرازها المعماري بالفخامة والذوق الرفيع، فذلك هو اللوح الجرانيتي الذي يبلغ ارتفاعه 190 سنتيمتراً، وقد نقش عليه بالأحرف الهيروغليفية ـ على نحو غائر ـ أمر الفرعون نفتانيو الأول بإقامة المدينة، وقراره بأن تؤول نسبة العشر من الضرائب على تجارة الإغريق إلى خزانة معبد الإله نيت، وكان قد تم اكتشاف لوحة مطابقة لها في العام 1899 ما تزال تعرض حتى الآن في المتحف المصري... نظرت إلى اللوح الغارق مندهشاً، فيما أستمع إلى صخب الأسواق يتردد في الأعماق.. لقد كنت كمن دخل إلى عالم الأساطير...

يفترض بقصر كليوباترا السابعة آخر فراعنة السلالة البطلمية ـ وفقاً لإحدى وجهات النظر ـ أن يكون مختبئاً هنا.. ذلك القصر الذي شهد غرام قيصر ثم أنطونيو حاكم الشرق بتلك الفاتنة كليوباترا، قبل أربعين عاماً من الميلاد.. ولكن أين هو؟ إني لا أجد له أي أثر...

وفيما يبدو أنه كان ذات يوم مرفأ المدينة، عثرت على عشر سفن راسية تصطف بانتظام ولا تزال تحتفظ بمراسيها على نحو لافت للنظر.. وجزء أمامي من قاعدة تمثال رمادي يحمل أسماء الفرعون مرنبتاح الذي توفي صبياً قبل اثنين وثلاثين قرناً.. كما وجدت تمثالاً من الجير لطائر مائي مقطوع الرأس يطلق عليه أبو منجل، وآخر لكاهن يحمل أوزيريس ـ إله النيل والزرع والخصب والنماء عند المصريين ـ كأنما يراقبني بحكمة.. وبالقرب منه تمثال صغير دقيق الصنع لأبي الهول يقبع في الظلام.. ورأساً مقطوعة للإله سيرابيس الذي يؤلف بين الإلهين أوزيريس وأبيس خلال العصر اليوناني الروماني، وكانت تجرى عبادته في معابد سيرابيوم، وأشهرها في الإسكندرية.. علاوة على قطع حجرية تشكل أضخم النصب التي عثر عليها في مصر على الإطلاق، تتضمن كتابات هيروغليفية وإغريقية منذ عهد كليوباترا في القرن الأول قبل الميلاد..

ـ مدينة الخطايا !

كانت دور العبادة ـ بقوالبها الزخرفية المجردة وتماثيلها الصرحية الشامخة للآلهة الإغريقية العظمى (والتي كانت عامرة بالحجاج الوافدين من كل مكان يضعون على أعتابها قرابين أنجزها نفر متباين النزعات من الفنانين اليونانيين) ترقد بسلام إلى جوار النوادي والمراقص التي كانت زاخرة بجوقات الغناء ورفاق اللهو والمرح.. لقد أهلت الطبيعة الساحلية مدينة هرقليوم لذلك التناقض، الذي يعبر عن طبيعة الإنسان بثنائيته الجادة والعابثة.. إنها سنة الحياة بين الخير والشر، وبين الطاعة والإثم..

تذكرت على الفور رواية تاييس للأديب الفرنسي أنتول فرانس عن راقصة سكندرية اعتزمت التوبة، واتخذت سبيلها إلى راهب في الصحراء، لكنها التقته في منتصف الطريق، عندما كانت قد أعيته كثرة العبادة، وقرر الرحيل إلى الإسكندرية للارتماء في أحضان تاييس...

...

كنت أطوف بأروقة المدينة وسط الخرائب الغارقة، عاقداً ساعديّ وفقاً لنصيحة معلمي، كي أدخر أنفاسي تحت الماء، وأوفر ما تقتضيه من جهد.. لكنني توقفت لحظة متأملاً في تلك الرسالة التي تبعث بها هرقليوم من مرقدها النائي في غمار البحر.. رسالة تقول أنه يمكن لاتجاهات مختلفة أن تتجاور، ويمكن لثقافات متنافرة أن تتعايش.. وفي الحوار الذي سجل ليعرض ضمن حلقة برنامج تحقيق عن لغز اختفاء مدينة هرقليوم، سألني صديقي وزميلي الدكتور ناصر الجيلاني: هل من علاقة بين هذه الرسالة، وتوقيت اكتشاف هرقليوم في نفس العام الذي شهد انهيار برجي الولايات المتحدة واندلاع الحرب على ما سمي بالإرهاب؟ فقلت له أن كلا الامبراطوريتين يجسد الهيمنة والسطوة.. ولكن ترى ما الذي يحمله لنا اندثار هرقليوم قبل مئات القرون من استشراف لمستقبل التجبر والغطرسة في عالم اليوم؟؟

ـ قبر هيرقليوم !

وفيما كنت أسير محلقاً في قلب البحر بمحاذاة حارستي، إذ تسرب الماء إلى أنفي عبر القناع الزجاجي.. كانت يمناي آنذاك في قبضة الفتاة، وكان علىَ أن أحررها بسرعة حتى أطلق الماء قبل أن أختنق، إذ كانت يدي اليسرى تحمل تذكاراً من أحجار المدينة الغارقة لزوجتي ـ التي كانت تنتظرني في القارب ـ وكنت أتشبث به.. ولم يكن من سبيل سوى الإفلات عنوة من قبضة الحارسة الأمينة.. لكن الماء كان قد استولى بالفعل على حيز القناع بأكمله، وصارت أنفاسي أقصر وأسرع، ودق قلبي بعنف، وأصابني الذعر حين تذكرت أنني على بعد أربعة عشر متراً من السطح.. انتبهت الفتاة إلى عهدتها الموشكة على أزمة.. سألتني بإشارة من كفها عن السبب، فأومأت إليها بأنني أريد أن أصعد في الحال.. وقبل أن تعلق، كنت بالفعل قد نزعت حبل الهواء الذي يؤهل معطف الغطس للانتفاخ، ليحملني إلى أعلى سريعاً سريعاً كطيف جامح.. لم يكن لدى الفتاة ما تفعله سوى اللحاق بي لعرقلتي على نحو ظننته عدائياً.. لكننى كنت أندفع مسحوباً إلى الحياة بقوة خارقة، كنت أغادر الموت المحدق في هرقليوم قبل أن يشملني بغموضه الأبدي..

عندما لاح لي ضوء الشمس عبر القناع المفعم بالماء، فيما أقترب من السطح، اعتقدت أن المنية وافتني، فقد كانت أنفاسي قد توقفت، وعروقي تكاد تتصدع، ودقات قلبي قد أقلعت عن ضجيجها.. لكن تلك القوة وهبتني دفعة أكبر، فألفيت ذاتي معلقاً على صفحة البحر، أسترد أنفاسي لاهثاً، بينما كانت الفتاة تصرخ في وتتهمني بالجنون، إذ كان صعودنا المفاجئ سبباً محتملاً لإصابتنا بالشلل وتمزق الأوعية الدموية.. ولم أعلق على ثورتها بكلمة واحدة حتى بعد أن رجعنا أخيراً إلى القارب.. فلقد نجوت من الهلاك في قبر هرقليوم... وهذا هو المهم!!

ـ زلزال أم فيضان ؟

عندما عدت إلى الإسكندرية، وفيما أقود سيارتي باتجاه وسط المدينة قاصداً ميدان محطة الرمل، كانت أسئلة غامضة تتردد في بالي: كيف انزلقت هرقليوم إلى قاع البحر؟ كيف التهمها النسيان؟ ولماذا تعود الآن؟ هل هو زلزال أم فيضان ذلك الذي دفنها في الظلام طيلة قرون؟ أم كان وراء ذلك أحد التحولات البيئية أو الجيولوجية كارتفاع سطح البحر أو انخفاض مستوى الأرض؟

لقد زار المؤرخ اليوناني هيرودوت في القرن الخامس قبل الميلاد، مستهلاً طوافه بمدينة كانوب التي تقع على مصب الفرع الكانوبي لنهر النيل، وقدم لها ولمعبد سيرابيس وصفاً دقيقاً، وكذلك لمدينة هرقليوم، إذ أكد بأنها كانت ميناء الدخول الإجباري لمصر من جهة بحر الإغريق، ما يعنى أنها كانت قد تأسست بالفعل في ذلك الوقت.. ثم وصفها على نحو أدق المؤرخ سترايون خلال زيارته لمصر في العام 25 قبل الميلاد.. وبرغم تأسيس الإسكندرية في العام 332 قبل الميلاد، وانتقال النشاط التجاري إليها، فإن المدينة ظلت مزدهرة بفضل معابدها التي وفد إليها الناس من كل فج عميق.. وظلت هكذا حتى العصور المسيحية، حين أخذت المعابد تضمحل، وتفقد أهميتها.. ومع القرن الثامن الميلادي اختفى ذكر هرقليوم في المصادر التاريخية...

.....

... في جناح فاخر بفندق سيسل على ناصية شارع سعد زغلول، التقيت بالغواص الأثري ابراهيم درويش، كنت أعرف أن لديه الإجابة على تلك الأسئلة المحيرة.. ليس فقط لأنه كان واحداً من فريق الكشف عن هرقليوم، لكن أيضاً لأنه أمضى جل عمره في البحث عن كنوز مصر الرابضة تحت البحر، وما أن يفلت لسانك أمامه بكلمة من التاريخ القديم للإسكندرية، حتى تجد لديه صفحات من المعرفة تفسرها وتروى عنها عشرات القصص..

حكى لي درويش كيف أن فريق البحث الفرنسي بقيادة فرانك جوديو استدعى اثنين من الباحثين الجيولوجيين لمساعدته في الاستدلال على أسباب ضياع المدينة في الماء..

الأول هو عاموس نور، عالم الفيزياء الجيولوجية في جامعة ستانفورد بولاية كاليفورنيا، وكانت مهمته تحليل خرائط المكتشفات، والثاني هو جين دانييل ستانلي خبير الآثار في معهد سميث سونيون بواشنطن، ومهمته كانت تحليل الترسبات في خليج أبى قير..

اتفق الاثنان على أن الأرض انخفضت بنحو ثمانية أمتار، لكن نور رأى أن السبب هو زلزال ضرب المدينة في القرن الثامن الميلادي على الأرجح، حيث أن الإسكندرية المجاورة قد أصابتها ثمانية زلازل بين القرنين الرابع والثاني عشر الميلادي، والذي دمر نحو 80% من مباني الإسكندرية، ومنها الفنار الشهير، ومنطقة الحي الملكي، والمباني الملكية في الميناء الشرقي.. أما ستانلي فألقى باللائمة على فيضان نهر النيل، الذي كانت هرقليوم تقف شامخة على أحد مصابه..

ـ رأس الإسكندر !

وبغض الطرف عن الفرضيات العلمية التي تفسر ذلك، فقد أثارني حقاً أن أعرف من درويش كيف أن بداية التحرك للتنقيب عن الآثار الغارقة في مصر بدأ في العام 1933 على يد أمير من أسرة محمد على باشا التي حكمت مصر منذ بداية القرن الثامن عشر حتى منتصف القرن العشرين، وهو الأمير عمر طوسون، الذي دفعته قراءاته في التاريخ لإرسال بعض الغواصين تحت مياه خليج أبى قير للتنقيب عن آثار مدينة كانوب أحد المصاب السبع البائدة لدلتا النيل، ونجح هؤلاء الغواصون بالفعل في العثور على رأس تمثال الإسكندر الأكبر، والتي تعرض الآن في المتحف البريطاني..

وفى العام 1996 جاء الغواص والمغامر الفرنسي فرانك جوديو إلى ذات المنطقة، مستفيداً من تجربة طوسون، وبتمويل من شركة هيلتى السويسرية، وباستخدام تقنية متطورة.. للكشف عما تحت الماء من آثار بواسطة الأقمار الصناعية، بل واستئناف عمل الغواص المصري كامل أبو السعادات ـ الذي بدأه قبل رحيله ـ للتوصل إلى أسطول القيادة في حملة نابليون بونابرت، التي أغرقها الإنجليز في معركة أبى قير البحرية قبل نهاية القرن السابع عشر..

ـ أحفاد نابليون !

والفرنسيون ـ بهذا الاكتشاف ـ إنما يسددون بعضاً من دينهم القديم لمصر.. فقد سرق نابليون من مصر ما أعجبه من آثار، ومنها باب السلطان حسن ذي النقوش الرائعة، وحتى جنوده الذين أبهرتهم عظمة أسوار القاهرة وبواباتها، فنقشوا أسماءهم على باب النصر تيمناً به..!!

وغادر نابليون مصر مهزوماً، وغرقت بعض سفنه، لتظل الآثار قابعة في أعماق البحر، إلى أن جاء أحفاد نابليون بعد مائتي عام، وأعلنوا عن استعدادهم لإنقاذ الآثار التي أغرقها جدهم.. وها هم يعثرون على جزء منها في منطقة رأس التين شرقي الإسكندرية..

وليس الأمر بجديد، فأثناء الحملة الفرنسية ـ في العام 1798 ـ وصلت قوات القائد الفرنسي ديزيريه لمعبد دندرة، وبهر ومن معه بروعة النقوش الفنية على سقف المعبد، وهى القبة السماوية (الزودياك) واعتزموا نقله، وعندما فشلت الحملة ولم يتمكنوا من نقله مع غيره من الآثار المنهوبة، لم ينسوا خطتهم.. وبعد أكثر من مائة عام، وبالتحديد في العام 1920 قرر بعض الفرنسيين الاستيلاء على ذلك السقف الرائع لمعبد دندرة.. أرسلوا شخصاً فرنسياً بحجة عمل دبلوماسي يتعلق بالقنصلية الفرنسية بالإسكندرية، ليضلل اللصوص الآخرين من المنافسين البريطانيين ـ حيث زعم أنه متجه للبحر الأحمر، بينما توجه إلى دندره ونزع النقوش من على سقف المعبد ـ ويعود بها إلى فرنسا..

ـ الأمل الأخير !

لكن ها هي الإسكندرية تسترد عافيتها، مع إحياء مكتبتها العريقة ـ التي أحرقت في أواخر العهد البطلمي ـ ومع مشروعات الإعمار والتجميل التي تجرى بها اليوم على قدم وساق، غير أن أهم تلك المشروعات ـ وهو توسعة الكورنيش ـ يقضي ـ طبقاً لبعض الآراء ـ على آخر أمل في استخراج الكنوز الأثرية الغارقة في الحيز الساحلي المقابل للحى الملكي ومنطقة رأس التين، حيث كان يجدر بالشركة التي أبرمت معها الحكومة عقد تنفيذ المشروع ـ كما يقول ابراهيم درويش ـ أن تنسق أعمالها مع إدارة الآثار الغارقة، أو المجلس الأعلى للآثار بالإسكندرية، خشية تكرار كوارث سابقة، عندما كان من أدت توسعة الكورنيش إلى دفن العديد من الآثار الدالة على عصور الإسكندرية المختلفة..

ولم يعد من أمل سوى في الأجيال المقبلة التي قد تعيد الصياغة العمرانية للمدينة، وقد يكون من حظها أن تعثر على بقية الحلقات المفقودة في التاريخ..

وعلى سبيل المثال هناك نحو خمسة آلاف قطعة أثرية تقبع أسفل قلعة قايتباي، تعود إلى العصور الفرعونية واليونانية الرومانية، ويعمل فريق من العلماء الفرنسيين على استخراجها باستخدام أحدث تقنيات التنقيب عن الآثار الغارقة.. وقد أدى سقوط بعض الكتل الخرسانية المحيطة بالقلعة لكسر الأمواج على نحو غير مقصود ـ لا يخلو من إهمال ـ إلى تدمير أكثر من مائتي وخمسين قطعة أثرية نادرة كانت تنتظر الكشف عنها..

ويبتسم ابراهيم درويش بمرارة وهو يقول لي مازحاً: إننا نهرع فرحين إلى كل بناية تنهار في الإسكندرية، آملين أن نعثر تحتها على أثر مدفون، قبل أن يطمر لأجيال أخرى ببناء جديد!!

محمد سعيد محفوظ
إعلامي مصري
[email protected]