يصعب على المرء تخيل أن إنسانا ً كهذا كان مثلنا يطأ الثرى..

كان هذا كلام المراسل الأمريكي وهو يصف تشييع جنازة غاندي..

أتذكر قبل أكثر من عشرين عاما ً كنتُ أهيم عشقا ً بقراءة مذكرات غاندي ( قصة تجاربي مع الحقيقة ) وكنتُ يومها قد أكملتُ السنة الثالثة بعد العشرين من عمري..

أتذكر أني كنتُ مأخوذا ً بمذكراته إلى درجة أني حفظت الكثير من قصصها المثيرة وحكاياتها المشوقة ووقفتُ على نضاله السلمي وقدرته الفائقة على فرض احترامه على كل مَن كان يتعامل معه..

ولكن في تلك الفترة التي كنتُ فيها قارئا ً لمذكرات غاندي لم نكن نعطي لثقافة اللاعنف التي كان غاندي أحد مؤسسيها في منهجية العمل السياسي والحياتي أية اهمية تذكر لأن الساحة كانت يومها مشحونة بثقافة النضال السياسي العنفي وتابعة في معظمها لقوى التوجهات الراديكالية التي كانت تتمترس خلف شعارات المقاومة المسلحة وتقدس الكفاح العسكري..

كنتُ أتناقش مع أصدقائي في ثقافة اللاعنف التي تبناها غاندي في الهند أيام الأستعمار الإنجليزي وكنا كما أتذكر نختلف حولها في وجهات النظر ولكن لم تكن نظريته تلقى القبول لدى أكثريتنا وخاصة إننا كنا نعتقد أن كل قضايا شعوبنا لا تحل إلا من خلال العمل المسلح بما فيها القضية الفلسطينية..

وحينما زرتُ لندن في صيف هذا العام حرصتُ على أن أصطحب معي عائلتي إلى متحف الشمع المعروف بمدام توسو لأخذ بعض الصور عند تمثال غاندي الذي لازال يختال عملاقا ً فوق أجنحة التاريخ..

عظمة غاندي لم تكن في تمثاله الشمعي الخالد الذي يزوره الآلاف من الناس بل في نهجه الإنساني الذي أسسه في زمن ٍ متوحش متصادم ينزع نحو ابتكار النزاعات البشرية الفتاكة..

هل كان غاندي في ثقافته اللاعنف يريد أن يقول أن على الإنسان أن يبادر في نزع ( القوة ) أي العنف من طرفه فقط دون الاهتمام إن كان الطرف الآخر يريد أن يحتفظ بالقوة وربما هذه الثقافة استحضرها غاندي من فلسفة هابيل ابن آدم الأول وربما كان غاندي يريد أن يقول أن مَن يحتفظ بالقوة والسلاح فأنه بالتأكيد يبني ذلك على سوء الظن بالجار أو الأخ القريب أو البلد المجاور..

وقد نندهش كثيرا ً أمام سحر غاندي الذي جعل شعبه يهتف له بالحب والورود نفديك ولم يسمح لهم أن يهتفوا بالدم بالروح نفديك يا زعيم وكيف كانت نظرية اللاعنف التي تبناها بإيمان ثاتب وعقيدة راسخة أثبتت نجاحا ً باهرا ً في مواجهة الاستعمار..

واليوم أينما نلتفت فإننا لا نرى سوى دوائر العنف ومعاقل الكراهية التي تتفجر في كل مكان وكأن من المستحيل أن نجسّد اللون الأحمر في لوحة جميلة أو وردة فاتنة بل لا بد أن يتجسّد اللون الأحمر في الموت والدماء وساحات المعارك..

والعنف شجرة خبيثة على حد قول الدكتور خالص جلبي لأنها لا تنبت سوى العنف الذي يتوالد ويتكاثر من الشجرة ذاتها وبإمكان هذه الشجرة الخبيثة أن تفسد التربة المحيطة بها ولذلك فإن ثقافة غاندي الإنسانية في اللاعنف لن تجد قبولا ً عند الجهاديين الدينيين الذين استساغوا مذاق الطعم التفجيري من ثمرات شجرة العنف الخبيثة..

وقد يظن البعض أن غاندي كان رومانسيا ً حالما ً في تبنيه لثقافة اللاعنف ولن تستقيم هذه الرومانسية اليوم في عالم ٍ ينزع نحو اختلاق العداوات وإذكاء نيرانها ولكن مهما يكن الأمر فإن غاندي استطاع أن يؤكد على جمالية نظرية التفوق الأخلاقي في الصراع مع الآخر عبر نبذه المطلق لثقافة العنف..

وربما كان محقا ً ( ليو بوسكاليا ) حينما قال :

( أن الحب والذات واحد، واكتشاف أي منهما إنما هو تحقيق لكليهما ).

ومن وجهة نظري القاصرة انطلاقا ً من هذه المقولة أعتقد أن قدرة الإنسان على اكتشاف كينونة ذاته الحقيقية هو تحقيق للحب الذي يترافق فطريا ً مع عالم الذات وكذلك أيضا ً مَن يستطيع أن يفجر ينبوع الحب في داخله فأنه قد استنطق الذات في أجمل تجلياتها الروحانية والرومانسية أيضا ً..

وربما غاندي عبر إيمانه العميق بمفهوم اللاعنف و ثقافة التسامح الإنساني وتعلقه بالحب كأحد أهم ثوابت الذات الإنسانية كان إنسانا ً استثنائيا ً ومن هنا ربما نفهم مقولة المراسل الأمريكي الذي قال عنه من الصعب أن نتخيل أن إنسانا ً كهذا مثلنا كان يطأ الثرى على اعتبار أن اللوحة الرومانسية الرقيقة التي كان يرسمها غاندي بأخلاقه وتسامحه وروحه المرهفة المشبعة بالحب ونبذ العنف كانت لوحة زاهية تجسّد أرقى المعاني الإنسانية الجميلة..

وأني أجد أن غاندي قد انحاز وبدون أية افتعالات ارتجالية أو تصنع تعبيري ومسلكي إلى تجلي المعنى العميق في اللاعنف وتمجيد هذه الثقافة في مستوياتها الرومانسية الطبيعية الساحرة وأيضا ً نستشف من ثقافته تركيزه العميق على اكتشاف مكنونات الذات الإنسانية التي يجب أن تكون رمزا ً ناطقا ً للحب وكذلك نزعة غاندي الكبيرة للتأملات الوجدانية والفكرية وميلهِ لطرق الوجد واعتماده على شفافية الحدس كلها كانت تعتبر بالنسبة له المدخل الأساسي لفهم عمق الأشياء وجوهرها الحقيقي ولذلك كان غاندي واضحا ً جدا ً من حيث تبنيه الراسخ لثقافة اللاعنف التي كان يؤمن بأنها تعبيرا ً معرفيا ً لروح الحقيقة وقوتها كما عبر عنها غاندي نفسه ولأنه كان يؤمن أن ثقافة اللاعنف في أساسها الارتكازي ( تعني قوة الحق والحق ليس بحاجة إلى أسلحة أو عضلات أو صراخ ويستطيع الحق أن يقف لوحده لأنه قوي بطبعه ) كما يقول الدكتور خالص جلبي..

فهل نحن فعلا ً بحاجة إلى الرومانسيين الحقيقيين الذين يؤمنون عميقا ً بثقافة اللاعنف ؟؟!!

محمود كرم

كاتب كويتي

[email protected]