ذات نهار منذ أكثر من عشر سنوات زارني أحد الجيران قبيل رحيله إلى ألمانيا للحصول على الماجستير في الهندسة الكيميائية ـ وكان وقتها من أبرز شباب الإخوان المسلمين في الإسكندرية ـ بدت الخيبة على وجه الشاب الأسمر، وهو يصارحني باستيائه من تدهور شعبية جماعته خلال السنوات الأخيرة، وإخفاقها في احتواء أبنائها الذين ينفلتون من عقدها يوماً بعد يوم، بين مستقل بفكره الديني، ومنحرف عن التيار ذاته إلى أحد النقيضين السياسي أو الأخلاقي، وكانت أنباء قد تسربت إلىّ في ذلك الوقت ـ بحكم عملي الصحفي ـ عن اعتزام بعض المنشقين تأليف جماعة منافسة، وهجرة الكثير منهم خارج مصر بعد اشتداد الحصار الأمني عليهم، ولم يغادر ذاكرتي مشهد اقتحام سيارة أمن لحرم كلية العلوم، تطارد طالباً درج على تصدر مظاهرات الإخوان في الجامعة، ولم يجد هؤلاء الشبان من طلبة الكليات العلمية المنتسبين للإخوان ـ إزاء تخبطهم في العلاقة مع الحكومة بلا توجيه رشيد ـ سوى بضعة أميين من قادة الجماعة لم يتموا دراستهم الإعدادية على الأرجح، ويلحون مع ذلك في طلب الطاعة ممن يصغرونهم سناً ورتبة، وربما يفوقونهم علماً وأدباً، وهكذا لم يكن من مفر لدى المتضررين من ذلك الوضع الخانق غير الانسحاب، وكان ذلك بالضبط هو مصير جاري البائس!
لكنه لم يقلب الطاولة على قادته كغيره من المتمردين، فقد كان أشد التحاماً بالفكر منه بالأشخاص، وكان يعلم أن الأعوام الأخيرة ـ السابقة والتالية لغزو الكويت ـ كانت قد استهلكت عزيمة الإخوان في العمل الجماهيري، حتى لم يجد أحدهم الوقت لتنقيح ثقافته ومراجعة أفكاره، ومن ثم فقد التمس الشاب من ذوي العمائم في الجماعة أن يحرضوا أفرادها على (الانكفاء على الذات لعشر سنوات) ـ طبقاً لنص عبارته ـ قبل العودة للشارع مجدداً والاحتكاك بالجمهور، وخلال تلك المدة على الجماعة أن تسعى إلى لملمة أبنائها الشاردين، وتوعيتهم في المجالات الثقافية كافة، وتدريبهم على فن الاندماج في المجتمع بلا تشنج أو عصبية، وفرز الكفاءات وتطويرها والإنفاق عليها، وإهمال كل ما من شأنه تعطيل تلك الخطة من أحداث قد تستوجب تسجيل مواقف أو إثبات وجود، فالثمن سيكون باهظاً لو قفز الإخوان إلى الألفية الثالثة بعقلية العصر الحجري، وختم الشاب الحكيم بذلك نصيحته، قبل أن يودع الرواية بأكملها لدىّ، وهو يرحل إلى مهجر لم يغادره حتى اللحظة!
الآن، وبعد مضي نحو عقد من الزمن على نصيحة الشاب الواعد، أظن أن الإخوان قد تغيروا بالفعل، وانتبهوا لضرورة التفاعل مع ما يجري في الحلبة من صراعات على السلطة، وفي اعتقادي أن ثقة رجل الشارع التي حظي بها معظم مرشحيهم في الانتخابات البرلمانية الأخيرة لا ترجع ـ كما يروج المحبطون ـ إلى نزوع البسطاء إلى الدين بعد أن قهرتهم السياسة فحسب، وإنما إلى الخطاب الجديد الذي صكه الإخوان منذ صعود شيخ يقظ إلى مكتب الإرشاد، خلفاً لسلفيه المسنيْن، اللذين شهدت الجماعة في عهدهما عدة انشقاقات في أجيال مختلفة، ويأتي المرشد الجديد ليرمم تلك التصدعات، مدفوعاً بالعواصف الإقليمية والدولية، وحيرة الجميع من المواقف الباهتة التي اعتاد الإخوان على اتخاذها حيال الإرهاب، وكان على الجماعة ـ التي توصف عبثاً بأنها محظورة ـ أن تطهر صفوفها من الحمقى الذين أساءوا باندفاعهم لسنوات إلى سمعتها، وأن تتأهل بجدية إلى معركة التغيير التي فرضتها الظروف الداخلية والضغوط الخارجية، ليجد المجتمع نفسه أمام (إخوان) في ثوب جديد، غير هؤلاء الذين فشلوا في إقناع أجيالهم الصاعدة بالصبر على القيادات الأمية للجماعة في منتصف التسعينات!
وشتان بين معسكر (الطاعة) الذي خلط منذ عشر سنوات بين ضفتي (محرم بك) الفقيرة والمتوسطة، أملاً في كسر أنوف العصاة اليافعين من صفوف الإخوان، وبين اكتساح نخبة الجماعة المثقفة لانتخابات البرلمان قبل أيام في مهرجان احتفالي جرى فيه استعراض الخبيئة الإخوانية التي خرجت أخيراً من (القمقم) زاخرة بالكفاءات! ولد من الرحم المظلم جيل مستنير، تمكن أخيراً من قمع النظام، حتى الوجوه التقليدية تغيرت نبرتها، وأرغمت على الانخراط في قواعد اللعبة، أغلقت كتب التفسير والعقيدة وأصول الفقه، وقرأت في كتب السياسة والاقتصاد وعلم النفس! لم يساعدها الظرف الراهن كلياً، فالفلاسفة الذين اشتراهم النظام قبل عقود كانوا أكبر من الظرف الراهن، ومع ذلك سقطوا أمام خطباء المساجد وأرباب العمائم، وحتى تلك الأوصاف لم تعد دقيقة، ولم تعد تعبر إلا عن تراث الفرد أوالحزب أوالجماعة!
لقد انحشرت الجماعة في (قمقم) التخلف لسنوات طويلة، قبل أن يعتلي المنبر لأول مرة قبل عيدين زعيم إخواني شاب تضارع خطبته تحليلاً سياسياً على قناة الجزيرة!! الفارق أكبر من أن نتجاهله، والحقيقة أن الشعب المصري ـ الذي عرف بخفة دمه ـ لم تعد لديه الرغبة في المزاح، وقد فكر كثيراً قبل أن يهب صوته لعشرات المرشحين الإخوان، ليضع بذلك شوكة في جنب الحزب الحاكم تحت قبة البرلمان.. ولعل تلك الطفرة التي قاد إليها الحراك السياسي، ودفعها النظام ثمناً لمغامرته الديمقراطية ـ أياً كانت حيثياتها ـ ترسي قاعدة التداول في السلطة، وتوقظ النائمين على عروشهم، فقد حان وقت (التغيير)!!

محمد سعيد محفوظ
إعلامي مصري
[email protected]