السياسي و الديني في نشاط المرجعيات السنية و الشيعية في العراق


لم يكن للشيعة العراقيين قبل تحريرالعراق من نظام القهر و الاستبداد شكلا للظهور غير الديني المتأسس على الولاء العشائري باستثناء محاولات منفصلة قمعها النظام بقسوة، ولم تكن الطقوس الدينية التي استعادوا ممارستها خلال السنوات الاخيرة في مراسيم احياء ذكرى الحسين في كربلاء،والنجف و الكاظمية ببغداد، الا صورة خارجية لحدث مثير استجذب كاميرات الفضائيات الغربية، ليس لكونه سياسيا بقدر ما هو اكتشاف غريب ذي طابع فلكلوري لقبيلة او جماعة خرجت للتو من كهوف لم يكن علماء الانثروبولوجيا عرفوها من قبل.


ولعل من يتابع الوضع المأساوي الذي يعيشه هؤلاء الالاف من العراقيين الذين يتوجهون كل عام مشيا على الاقدام قاطعين مسافات طويلة من مدنهم و قراهم باتجاه العتبات المقدسة في كربلاء ضاربين رؤوسهم بالرماح( القامات) وضهورهم وصدورهم بالسلاسل الحديدية، ليشعر بالاسى و الحزن الحقيقي لحالة الاستلاب التي يعيشونها ورضوخهم الطوعي لتعذيب نفسي و جسدي بالتأكيد لا يسر الاولياء الذين يمكن تخليد ذكراهم بافعال ترتقي بالمجتمع،لان حياتهم الراهنة هي التي تستلزم البكاء و الحزن، وبالاحرى العمل للخروج من هذه الحالة لبناء مستقبل افضل لانفسهم و اطفالهم بدلا من التقوقع في التاريخ ودهاليز الماضي السحيق.


الا ان النخبة السياسية الحاكمة و بالتحديد احزاب الاسلام السياسي الشيعي وبعض المرجعيات المتحالفة معهم، و المليشيات المستحدثة، تمعن في تكريس مثل هذه الظواهر و المظاهر التي لا تتناسب مع تطور ليس فقط الحضارة و الثقافة العالمية، و انما الاسلامية ايضا، ولكن المؤكد هو ان امعان واصرار هذه الاحزاب و المرجعيات الدينية في تكريسها ذلك هو لهدفها المحوري الرامي الى احكام سيطرتها على الناس وتغييبهم باستخدام الدين و الدوغما الدينية لتحقيق مكاسب و مصالح سياسية واغراض تؤدي في النهاية الى الى تقوية نفوذهم داخل المجتمع والاستمرار في تجهيله واغراقه في لجة الغيبيات وشظايا الخرافة.


ولعل في الاحداث التي يشهدها العراق منذ سقوط الطاغية المشنوق، دليلا واضحا على التراجع الفكري المريع في المجتمع الذي بدات مظاهره في السنوات الاخيرة من حكم البعث الفاشي،و راحت تستكمله بشغف ساطع القوى الاسلامية بتياراتها المختلفة، دون فرق بالطبع في كونها سنية ام شيعية، فهي متحدة في عبادتها للخرافة و التخلف.


والغالب الان في المشهد العراقي، بعد التغيير الديمقراطي الذي وضع السلطة في طبق احزاب تدعي في الظاهر الديمقراطية، ولكن ممارساتها في الواقع العملي لا تبتعد كثيرا عما كان يميز النظام الذي ارادت اسقاطه من ارهاب فكري وفعل اجرامي، الى درجة ان المجتمع اصبح حاضنة لظاهرة جديدة يمكن تسميتها بثقافة الحسينيات والجوامع التي تختلف في شكل و اسلوب اظهار الهوية الذاتية لدى كل من الرموز السياسية من الطائفتين الشيعية و السنية، وليس ادل على ذلك من جلسات البرلمان العراقي التى تفتتح وتغلق بالبسملة و الصلاة على آل البيت، وما يقدمه التلفزيون الوطني ( العراقية) الذي يديره شيعي اصولي من آل الصدر من برنامج تكرس عالم الخرافة و الاسطورة الدينية وحفلات اللطم و الروزاخونيات والقراءات الحسينية.


والمشكلة هي ان العديد من قيادات النخبة في احزاب الاسلام السياسي الشيعي، على سبيل المثال يرون في بروز هذه الثقافة الظاهرة كتطبيقات اجتماعية وسياسية في الاوقات الحرجةحالة ايجابية وفق ما ذكره القيادي في المجلس الاسلامي الاعلى سعد قنديل.


المعلومات عير الرسمية تشير الى ان هناك في العراق 3 آلاف مسجد تتبع( هيئة علماء المسلمين) السنية، مقابل المئات من الحسينيات التي تعود للمرجعية الشيعية، وهي بمجموعها و بشكل منفرد تختلف في طريقة تعاطيها و تعاملها مع القضايا العامة و بشكل خاص السياسية المتعلقة بالقوات الاجنبية و الموقف من المشروع الديمقراطي ومستقبل الدولة العراقية و مصيرها.


ففي الوقت الذي الذي يرى فيه قنديل ( فروقا فقط بين القيادة الدينية المتصدية لشؤون الفقه وتلك التي تعنى بالشأن العام السياسي و الاجتماعي) قال امام وخطيب جتمع ام القرى في بغداد الشيخ احمد عبد الغفور السامرائي ( اعمل لان تكون خطبتي لصلاة الجمعة دائما على علاقة باحداث الاسبوع، اذ اتناول حدثا او اكثر) موضحا( لابد للخطيب ان لايعيش في واد وما يجري في الساحة في واد آخر، لاسيما تلك الاحداث التي تخص العراقيين) والسؤال هو هل ان العراقيين هم بحاجة فعلا لتحليلات الشيخ السياسية و تفسيراته الدينية لهذه الاحداث في عصر الفضائيات وتكنولوجيا الاتصالات، ام ان الحقيقة، تكمن في رغبته في الاستحواذ على وعيهم و تفكيرهم مستخدما الدين لتحقيق اهداف الهيئة او الحهة التي ينتمي اليها وبالشكل الذي يحول مستمعيه الى ادوات تنفذ مشروعا هو في جوهره ليس في صالحهمو تدمييريا للمجتمع؟.


وفي المقابل يتناول قنديل اسلوب بعض علماء الشيعة موضحا ( ان الراحل محمد باقر الحكيم كان اتفق مع مرجعية النجف وهو بقوله، على درجة فقهية تسمح له بالتقليد من اتباعه و مريديه، بان يتصدى للشا ن العراقي العام بعد انهيار النظام الصدامي، وبعد مقتله في حادث التفجير الارهابي، تم الاتفاق بين المراجع الكبار في النجف على ان يتصدى السيستاني للشان العام اضافة الى وضعه كمرجع اعلى للفقه الشيعي في الحوزة النجفية)..وهذا ايضا يدفع للسؤال نفسه هل من فائدة للمجمتع في القرن الواحد و العشرين ان يتدخل رجال الدين في شؤون الادارة و الدولة و الاقتصاد والمال التي لا يفهموها؟.


قال المفكر العراقي حسن العلوي انه بعد تولي المالكي رئاسة ما يسمى حكومة الوحدة الوطنية، اختفى مباشرة من مسجد السيدة زينب في دمشق اكثر من 100 من رجال الدين الشيعة العراقيين، تبين فيا بعد انهم تعينوا بقرار من المالكي نفسه مستشارين له للشؤون المالية و السياسية و الاقتصادية و الاجتماعية وغيرها من مجلات ادارة الدولة، فهل ظل من مبرر ا للتساؤل عن اسباب تواصل انهيار الدولة العراقية وخدماتها اذن؟!.


الا ان السامرائي يذهب الى الابعد في فهمه لدور رجل الدين قائلا ان الخطيب والامام في المسجد، يتأثر بما يحصل خلال الاسبوع، فاذا كان هناك عدد كبير من القتلى، اجد ضروريا التحدث عن قيمة الانسان و النهي عن سفك الدماء و استشهد بالايات القرانية و الاحاديث النبوية، داعيا الى وحدة كلمة و موقف العراقيين ونبذ الفرقة) ولكن الشيخ الجليل يتناسى انه بعد كل خطبة، يشيد بما يسميه( المقاومة الوطنية) داعيا المصلين الى دعمها وهي التي تقتل المدنيين وتقطع رؤوس الابرياء من النساء و الرجال وتختطف الاطفال و تستخدمهم في عملياتها الارهابية، و تخرب محطات الكهرباء و تسمم مياه الشرب بل وحتى تنسف و تحرق بيوت الله والمراكز الدينية.!


بالطبع ان وجهة النظر الاكاديمية عن وظيفة المساجد و الحسينيات، تختلف عن التصورات الدينية عنها، اذ يرى استاذ النظم السياسية في جامعة بغداد محمد القيسي( ان وظيفة الجامع اختلفت بعد الاطاحة بالنظام السابق،وان العراقي بفطرته رجع اما الى عشيرته ليتحصن بهااو الى منظومته الدينية، و في الحالتين ثمة تأثير في وعيه بشخصية القائد القائد العشائري و الديني) مضيفا ان المسجد و الحسينية لهما تاثير اكبر في المستوى المعيشي للعراقيين، لان الامر في كليهما يقدس وظيفة العبادة ولكنه انتقل الى وظيفة سياسية مستجدة على واقعهم اليومي بنشرمنهج هذا الحزب، اوذاك الاتجاه السياسي و الدخول تحت عباءة اي منهما يعني ذلك ارتقاء السلم الذي من خلاله يستطيع الحصول على الوظائف العامة كبديل واقعي لوظيفة الحزب في العهد السابق.


بعد طرد الديكتاتور صدام حسين من الكويت واخضاع نظامه للعقوبات الدولية ابتدع ما سماه( الحملة الايمانية) محاولا من خلال هذة السياسة( تنمية الشعور الطائفي باحاطته بغداد بسلسلة من الاحياء الجديدة، مهجرا اليها طائفيين متزمتين انتجتهم الحرب مع ايران ونشرهم في مناطق محددة، بطريقة اراد من خلالها استخدام المذهب الديني كمعادل موضوعي للانتكاسة السياسية و العسكرية التي لجقت به و بنظامه، بغية زج و القاء المجتمع المذهول بمصائبه في اعماق الدين لاشغاله عن مشاكله اليومية، ولكسب الشارع الاسلامي في الداخل و المحيط العربي و الاقليمي في اوسع و اكبر حملة تضليلية.).

ان ما يفعله الاسلام السياسي في العراق الان، لا يخرج عن هذه المعادلة مستعينا بالميليشيات التي تنتمي للاحزاب المشتركة في الحكم و الممثل بعضها في البرلمان، كحاضنة للفساد و القتل اليومي وعمليات النهب المنظم للمال العام و الثروة النفطية مستفيدا من انهيار الكيان المؤسساتي للدولة.
ان العودة للدين ليست حالة جديدة،بل ظاهرة شهدها التأريخ وشعوب كثيرة تعرضت بسببهالانتكاسات وهزائم و مآس، كونها تمثل شكلا تقليديا مسموحا به في المجتمعات.


يروي المثقفون العراقيون حادثة تبكي و تضحك في الوقت نفسه، تعكس المدى الذي وصلت
اليه ازمة المجتمع الفكرية والثقافية وضحالة الطبقة السياسية الحاكمة من الناحية الفكرية و الانسانية،حيث اصطدم وزير الثقافة الاصولي في حكومة المالكي وهو المتهم بقتل ابناء النائب مثال الالوسي، مع نائبه الشيعي الاصولي الذي يريد جعل الوزارة وتحويلها الى حسينية، على خلاف رغبة الوزير الذي يريدها تكية سنية...!

د.محمد خلف