اختار الرئيس التركي الجديد عبدالله غول اربعة مدن كردية كمحطات في اول جولة داخلية يقوم بها منذ انتخابه رئيساً للبلاد (28/8/2007) خلفاً للرئيس السابق القاضي احمد نجدت سيزر.

غول زار في جولته التي دامت اربعة ايام كل من ولايات quot;وانquot; وquot;سيرتquot; وquot;شرناخquot; وأخيراً quot;ديار بكرquot; التي تعتبر معقل حزب المجتمع الديمقراطي المتهم بكونه الجناح السياسي لحزب العمال الكردستاني.

الرئيس التركي قسم وقته quot;بالتساويquot; بين لقاء قادة الجيش التركي الميدانيين في تلك المناطق( والذين يخوضون الحرب ضد مقاتلي حزب العمال الكردستاني) ولقاء انصار ومؤيدي حزب العدالة والتنمية، الحزب الذي كان غول الى جانب صديقه رئيس الوزراء رجب طيب اردوغان، احد مؤسسيه.

وفي ترجمة معاني هذا quot;التقسيمquot; يتبين بان غول، وهو الإسلامي المتمسك بفروض الدين، وبعد تصدره سدة الرئاسة في بلد علماني متشدد، يحاول ان يستميل المؤسسة العسكرية ويطمأنها بشأن الموضوعين الأكثر حساسية بالنسبة لها: الحفاظ على الطابع العلماني للدولة( او حمايتها من الرجعية، حسب تعبير الجيش!) وعدم التراخي في قضية محاربة حزب العمال الكردستاني( محاربة الإتجاه {الإنفصالي}، حسب الجيش ايضاً). وهناك غرض انتخابي بحت في زيارة غول هذه، وهو السعي لمقابلة الجمهور الكردي في عقر داره وطمأنته بان الرئاسة quot;ستولي السكان الأكراد في جنوب شرق البلاد اهمية مناسبةquot;، وبشكل خاص فيما يتعلق بتنمية مناطقهم وتوفير فرص العمل ومزيد من الخدمات لهم. وما تخصيص مناطقهم بquot;الزيارة الأولىquot; إلا دليل ملموس على ذلك.

غول لم يأت في كلماته التي القاها على ذكر quot;القضية الكرديةquot; ولم يقدم وعوداً بحلها مثلما فعل اردوغان خلال زيارة له لمدينة دياربكر منتصف آب 2005، بل ركز على اطلاق وعود تتمحور حول تحسين مستوى المعيشة وخلق فرص تنمية وعمل في المناطق التي تعد الأكثر تخلفاً وفقراً في تركيا، مكرراً بين الحين والآخر بانه quot;رئيس الجميع في تركياquot;. كذلك بدا الرئيس التركي( الذي هو ايضاً، للتذكير، رئيس ما تسمى بلجنة مكافحة الإرهاب) اكثر تصلباً حين حديثه عن حزب العمال الكردستاني وquot;العمليات الإرهابية التي يقوم بها في المنطقةquot;. غول قال بان الدولة quot;لن تتساهل مع الإنفصاليين او كل من يثبت تقديمه الدعم لهمquot;. بكلمة اخرى، لم تخرج مواقف غول عن سياسات حزبه السابقة المعروفة تجاه القضية الكردية.

والحال، ان سياسة حزب العدالة والتنمية في مناطق كردستان الشمالية تبتعد عن الخوض في quot;الجانب السياسيquot;، بل تقوم على التركيز على مسائل التنمية الإقتصادية وتحسين الخدمات ومنح القروض للناس. حيث نجح الحزب في هذا المجال كثيراً، فالبلديات التي يسيطر عليها في ولايات اقليم كردستان بدت اكثر تنظيماً وتقديماً للخدمات. والأهالي بدوا اكثر ارتياحاً مع اسلوب الحزب الحاكم في ادارة البلديات وتسيير الإدارات المحلية. لذلك حصد العدالة والتنمية اكثر من نصف الأصوات في كردستان وتفوق على حزب المجتمع الديمقراطي الكردي في مناطق كانت سابقاً تعد من معاقل هذا الأخير.

الآن حزب العدالة والتنمية يستهدف السيطرة على اغلب البلديات وعلى رأسها بلدية دياربكر( كبرى المدن الكردية ومركز انصار حزب العمال الكردستاني) في الإنتخابات البلدية القادمة في 2009. ولم يخف اردوغان رغبة حزبه في السيطرة على دياربكر، وهو الأمر الذي ادى لصدور رد عنيف من عثمان بايدمير رئيس بلدية المدينة واحد قادة حزب المجتمع الديمقراطي، والذي قال بان quot;الكرد مستعدون لخوض مواجهة عنيفة من اجل الإحتفاظ بادارة المدينةquot;.

ثمة طرق كثيرة يلجأ اليها حزب العدالة والتنمية في سعيه لإضعاف خصمه حزب المجتمع الكردي، وكسب قلوب الكرد. ومن تلك الطرق وضع العراقيل امام عمل البلديات الواقعة تحت سيطرة الحزب الكردي. التضييق المستمر على رؤساء البلديات وإقامة الدعاوي بحقهم امام المحاكم التركية بتهمة دعم حزب العمال الكردستاني. هناك تصّيد واضح لهؤلاء، فمثلاً ذكر quot;القضية الكرديةquot; والتلفظ بكلمة quot;السيدquot; عند ذكر اسم الزعيم الكردي عبدالله اوجلان (المحتجز في سجن جزيرة ايمرالي النائية وسط بحر مرمرة منذ عام 1999) فضلاً عن التحدث باللغة الكردية في المناسبات العامة: كل ذلك يؤدي الى المحاكمة ومن ثم السجن. هذا غير أصوات افراد عشائر quot;حماة القرىquot; المتعاونة مع الدولة في حربها ضد المقاتلين الكرد، والتي تصب اغلبها في مصلحة العدالة والتنمية، كونه حزب الدولة الحاكم.

حزب العدالة والتنمية يلجأ كذلك الى اتباع اساليب قطع المساعدات المالية والمكافأت وتأخير دفع رواتب الموظفين والعاملين في البلديات الكردية وذلك للتأثير في شعبية الحزب الكردي وخلق حالة من التذمر وسط جمهوره. هذا غير البنوك المحلية التي اقامها العدالة والتنمية اما بشكل مباشر أو عن طريق quot;الجمعيات الدينية النقشبنديةquot; في المناطق الكردية، والتي تمنح قروضاً ميسرة لآلاف العائلات الفقيرة، مايعني ربط هؤلاء بمنظومة البنك والحزب مالياً والسيطرة على قرارهم بالتالي.

حزب العمال الكردستاني انتقد بشدة سياسة العدالة والتنمية في كردستان. الحزب وعلى لسان جميل باييك، احد قادته التاريخيين، قال بان quot;العدالة والتنمية يحاول ضرب الكرد بالتعاون مع الجيش لتمرير اجندته واستكمال سيطرته على الدولةquot;. باييك اشار كذلك الى quot;حالة العزلة المشددة التي تفرضها السلطات على اوجلان، وارتفاع وتيرة العمليات العسكرية ضد مقاتلي الحزبquot;، وقال بان quot;تركيا حشدت اكثر من ربع مليون جندي لضرب قوات العمال الكردستاني. وان اكبر العمليات العسكرية ضد المقاتلين الكرد شنت في عهد حزب العدالة والتنمية، وبتحريض واضح منهquot;.

المسؤول الكردي الكبير اشار كذلك الى quot;سياسة ضرب كوادر حزب المجتمع الديمقراطي وفتح الدعاوي بحقهم، وكذلك تجويع المواطنين الكرد ومن ثم شراء اصواتهم عن طريق منح القروض وانشاء الجمعيات الخيرية الإسلاميةquot;. وحذر من quot;رد فعل كردي عنيف على سياسة الإبادة البيضاء هذه التي تستهدف وجود وحقوق الشعب الكردي في البلادquot;.

وزاد الطين بلة عدم ادخال حزب العدالة والتنمية لأي عبارة تشير الى الشعب الكردي او قضيته صراحة في مسودة الدستور الجديد التي يعدها الآن. وهو الأمر الذي قال حزب العمال الكردستاني بانه quot;يدل على اصرار هذا الحزب على انكار حقوق الكرد في البلاد والمضي قدماً في قمعهمquot;.

يبدو ان حزب العدالة والتنمية وبعد سيطرته على المناصب الرئاسية الثلاثة الكبرى في البلاد: الدولة والوزراء ومجلس النواب، يركز فقط على قضية عضوية تركيا في الأتحاد الأوروبي. لذلك جاء تعيين علي باباجان المسؤول عن الملف الأوروبي وزيراً للخارجية كاحدى دلالات هذه السياسة الجديدة. والأرجح ان هذا التصميم سيأتي على حساب القضية الكردية وفرص حلها. فالعدالة والتنمية يهدف الى انتزاع الكرد من حزب العمال الكردستاني وإظهار نفسه بانه غير معاد لهم ويريد حل quot;مشاكلهمquot; ضمن مبدأ quot;الإخوة الإسلاميةquot;، وكل ذلك من اجل الإستحواذ على اصواتهم مستغلا الشعور الديني لديهم وكرههم للمؤسسة العسكرية غير المتحمسة لأردوغان وفريقه في أول الأمر.

كما أدى موقف اردوغان الرافض لخطط الجيش شن عملية عسكرية تطال اقليم كردستان الجنوبية (كردستان العراق) إلى تزايد شعبية حزبه وسط مئات الآلاف من الكرد الكارهين للجيش التركي وسياساته. لكن العدالة والتنمية يمضي، على الطرف الآخر، في اتباع سياسة ممنهجة وثابتة الملامح مستعملاً الأموال والقروض وتقديم الخدمات وتأمين فرص العمل للفقراء، مع تكثيف الفعل ميدانياً، ضد حزب المجتمع الديمقراطي الكردي. وهو كذلك منح الجيش الضوء الأخضر لتكثيف عملياته العسكرية في كردستان واطلاق يده في قتل وقمع الوطنيين الكرد واحراق الغابات والأحراش، فضلاً عن تقوية وحدات الحرب الخاصة( JITM) وإرسال العشرات من الجواسيس الى مناطق قنديل بغية اغتيال قادة حزب العمال الكردستاني. حيث اعترف هؤلاء بانهم درٌبوا واخضعوا لإبتزاز واغرائات كبيرة من مسؤولي الحكومة والجيش بغية الإنخراط في صفوف الإستخبارات ومحالة اغتيال المسؤولين الكبار في حزب العمال الكردستاني. وكان غول نفسه وبإعتباره رئيساً (للجنة مكافحة الإرهاب) مشرفاً على هذه العملية القذرة، وقد المح إلىquot;الأساليب الجديدة لضرب حزب العمال الكردستانيquot; قبل مدة، في إجتماع لمجلس الأمن القومي التركي.

خلاصة القول ان اردوغان وجماعته ليست لديهم اية نية في حل القضية الكردية لا عن طريق الحوار مع حزب العمال الكردستاني ولاعن طريق الحوار مع النواب الكرد في البرلمان التركي. هؤلاء يريدون ان تكونquot; مولعةquot; دائماً بين الجيش والكرد لكي يتسنى لهم تمرير اجندتهم وتوطيد حكمهم في البلاد. وطبعاً هذه السياسة التصعيدية الخطرة لحزب العدالة والتنمية ستؤدي، فيما لو استمرت، الى خلق موقف كردي مناهض، وبالتالي الى تصعيد اكيد في المواجهات بين الحركة الكردية المسلحة ـ التي لن تسمح بخروج المناطق الكردية من تحت سيطرتها، والتي تعيد الآن ترتيب صفوفها بشكل اقوى واكثر تنظيماً ـ وجيش quot;الدولة التركية الجديدةquot; بقيادة حزب العدالة والتنمية..

طارق حمو
[email protected]