بعيداً عن رومانسية الحدث، ووجدانية الانفعالات، فإن الرمزية لا تخطئ هنا البتة. حارات ذات أسوار عالية وشاهقة ومغلقة الأبواب، ولا مجال، البتة، فيها للنشاط البشري وللفرح والفرفشة والسرور والانشراح. أجواء مكفهرة على الدوام. حارة تخرج من أزمة لتقع في أخرى. وتتجاوز مطباً لترى نفسها على أبواب مطب آخر. نفوس عابسة منقبضة مكفهرة متحفزة ومتوثبة. يمكن أن تحصى آلاف التكشيرات والعبسات وبالكاد تحصل على ابتسامة نادرة في المسلسل حتى الآن. إنها الحارة العربية الأنموذج الأصغر للحارات الأكبر التي تحفل بشتى الصراعات والمتناقضات.


باب الحارة يفتح مجدداً عشرات آلاف الأسئلة البالية على حقبة بائدة من تاريخنا الذكوري التليد بحيث يصبح طلاق امرأة ورفع نقابها مشكلة المشاكل وقمة المصائب والأزمات التاريخية العويصة التي تهدد الأمن القومي برمته لهذه الحارات المتداعية، أصلاً، والغارقة في أتون الجدل والثرثرة والسير الجوفاء. يفتح هذا المسلسل باب النقد الموضوعي لهذه الحقبة التاريخية بكل ما فيها من سوداوية وعلاقات ناقصة وغير موضوعية، أكثر مما يمجدها ويحاول أن يبيضها، ويظهر، ربما عكس ما أراد، الصورة الحقيقية والفعلية للتزمت والانغلاق السائدين في تلك المرحلة المبكرة التي ازدهر فيها تراث quot;الحرملكquot;، بكل ما فيه من عيوب وعبودية واسترقاق، ويظهرها عارية على حقيقتها ومجردة من أية رتوش وأصباغ.


إن هذه النوستالجيا الغريبة لأيام زمان، تظهر بالفعل عجز هذه المجتمعات والحكومات عن التأقلم والتكيف مع قيم العصر والحداثة، ومواكبة العولمة. وما هذا التيه والضياع الحضاري إلا أحد تجليات ذاك الفشل الصارخ. فلا نحن قادرون على الرجوع للوراء وإعادة إنتاج قيم هذا الماضي وتمثلها، هذا إذا سلمنا بإيجابيتها المطلقة وعدم خلوها من الشوائب والسلبيات ومدى قدرتها على الثبات، ونظراً لاستحالة ذلك ولأن التاريخ يمشي للأمام وليس للوراء، وبالرغم من لا مواءمة تلك القيم وانتهاء صلاحيتها الزمنية، ولا نحن قادرون على استنباط قيم وعلاقات جديدة تضعنا على أعتاب العولمة والعصرنة. ومن هنا نجد هذا الضياع والتشتت بين ماض غابر لا يعود ومستقبل ضاغط لا يرحم جعلنا جميعاً خارج كل المعادلات والحسابات الدولية وجعلنا عالات وطفيليات تائهة تعربش على سلالم الحضارات.


إن الخلل البنيوي في تركيبة العقل العربي الذكوري الذي تسيطر عليه قيم البداوة والعادات والتقاليد الموغلة في القدم ومركزية الجنس والنساء في تفكير وسلوك الناس، عبر العرض المتنوع لعلاقات الزواج والحب والخطوبات الفاشلة في المسلسل والحجر على النساء، والذي يُعلـّي، أيضاً، من شأن الذكر ويحط من قدر المرأة ويجعل منها كائناً هامشياً مهيض الجناح، ولا يساوي إلا مجرد رمي يمين الطلاق عليه ليستبدلها الكائن الذكوري بأخرى يمارس عليها ساديته الرجولية، وكأن شيئاً لم يكن، وتتعرض هذه العلاقة السامية لمزاجية الذكر سواء كان زوجاً، أو أخاً أو أباً، متجاهلاً تلك الأحاسيس والمعاني الرقيقة والعظيمة من الحب والود والوفاء والإخلاص التي تكتنزها المرأة في أعماقها، وما يسببه يمين الطلاق من تدمير ونسف لأسس ولمصالح الأسرة وتآلفها وبقائها وتماسك كيانها. كم من الجهلة والساديين يحب أن يمارس تلك الجهالات إن لم تكن تمارس حتى اليوم على أكمل وجه في كافة الحارات العربية العشائرية والقبلية والبدوية المتناثرة هنا وهناك. إحساس كبير بعظمة الدور الرجولي والحنين لممارسته كون الذكور مهمشين وعاجزين ومحرومين من ممارسة أي دور آخر في الحياة، يعطي شرعية مطلقة لسلوكيات تحاول قيم العصر أن تبتلعها وتفقدها تلك الشرعية. الحارات العربية اليوم ليست أفضل بكثير في علاقاتها مما نراه في باب الحارة، شد وجذب ما بين الحداثة والماضي، وربما تذهب نحو مزيد من العلاقات المأزومة والافتراقات الاجتماعية الكبرى، وهذا يعني أننا ما زلنا نراوح في المكان منذ فجر الزمان وهنا مأساوية الحبكة والحدث.


إن سيادة الاستبداد الذكوري الأبوي الهيراركي في الحارات يفسح في المجال، وعلى صعد أوسع، للاستبداد السياسي والثقافي والاجتماعي والاقتصادي، ويجعله شرعياً ومبرراً وغير قابل للنقاش، لا بل قد يجد له بعض الغفران والقدسية في نفوس الناس حين يمارس على مستوى الدول والقادة والزعامات وينسل من مسامات نفس الثقافات التي تتشبع بها هذه quot;الحاراتquot;.


القيم والتقاليد quot;الدمشقيةquot; العريقة، التي يحاول هذا المسلسل أن يقول أنها كانت موجودة وناصعة البياض، وإلى آخر هذه السلسلة المملة من الخطاب الممجوج والجاف، لم تفلح لا سابقاً، ولا لاحقاً في أن تطعم الناس عسلاً ولوزاً، أو أن تجعلهم يعيشون بثبات ونبات، ولم تضعهم على عتبات التحديات العولمية والحضارية الكبرى. ومن يوم يومه، يظهر إنسان هذه quot; الحاراتquot;، كواحد من أبأس شعوب الأرض حالاً، وأشدها فقراً واضطهاداً برغم تمثله، وتمسكه بالعراقة وبالقيم والعادات العربية والثوابت...إلخ. فهل هذا يعني أي شيء لأولئك المتشبثين بهذه الهوية والقيم التي لم تجلب سوى الفقر والجهل والضعف والعار. إن نمط العلاقات السائد في هذا المسلسل يظهر تفكك المجتمع أكثر من وحدته، وهشاشة البنيان الاجتماعي، وسيطرة فوبيا الحجاب وإخفاء معالم المرأة على الجميع بلا استثناء برغم محاولته إحياء الأمل في نغس المشاهد عن ذاك الزمان عبر بعض الطقوس والسلوكيات بتبادل وجبات الطعام في شهر الصيام فهذا حل مؤقت، وطارئ ولا يمكن التعويل عليه في تقديم حلول جذرية لمشاكل اجتماعية واقتصادية مزمنة.


مازلنا في قلب الحارات، وزمن الحارات وعالمها لم يتغير كثيراً برغم كل ما طرأ على مسيرة الحياة البشرية من تبدلات جوهرية، ونحن فقط العصيون على التغيير والارتقاء وهذه هي إحدى أوجه فلسفة الثوابت. وباب الحارة هو في الحقيقة أحد أبواب الاحتيال الدائمة التي تحاول أن تكرسها نظم الحكم في نظرتها الرومانسية العاطفية للماضي التليد بما يخدم إيديولوجياتها القوموية السلفية والأصولية. وكأنه يقول لنا بأنها ستسعى للعودة إلى ذاك الزمان، وبأن ما نعيشه اليوم من أزمات وانسدادات ما هو في الحقيقة إلا بسبب التخلي عن تراث الحارة الذي يجب الرجوع إليه لأنها ببساطة عاجزة أن تتقدم قيد أنملة مع شعوبها إلى الأمام في ظل طوفان الجهل والتسطيح والخرافات. وأن لنا ماض يشعرنا بالتفرد والعظمة وما لذلك من أثر في تخدير وتنويم الدهماء وتسويف كامل الاستحقاقات. غير أنه ومن وجهة أخرى هو باب عريض للدخول إلى قلب هذه المجتمعات الرثة المغلقة وفضح كل ما فيها من quot;بلاو زرقاءquot;. ليعري ما فيها من قيم وسلوكيات صدامية لم ترتق يوماً إلى مستوى تخفيف الاحتقان وتلبية تطلعات الناس والسمو بالإنسان. والذي دفع جراءه أبناء هذه الحارات الغالي والنفيس. وهذا ربما ما لم يكن يحاول أن يقله هذا المسلسل السوري الهام، الذي يمكن، وفي نفس السياق، إسقاطه وبغلو مفرط، أيضاً، على حارات عربية، أخرى، تبدو، في الحقيقة، أكثر تحجراً وسوداوية وتزمتاً وانغلاق وموصدة الأبواب.

نضال نعيسة
[email protected]