يخطئ البعض في قراءة الصراع الايراني الامريكي، لجهة حمل جوهر الصراع محمل اختيار ايران (للاسلام/الارهاب) قبالة الديموقراطية التي تقودها الولايات المتحدة الامريكية.
المكدوني الاسكندر الكبير قاد عشرة آلاف فارس قادماً من بلاد الاغريق نحو الشرق، ليسجل انتصاراً كبيراً على ملك الفرس داريوس، قرب مدينة اربيل بكُردستان.


لم يكن النظام الايراني في ذلك الوقت خاضعاً للملالي، بل لم يكن الاسلام قد بُعث بعد. الغرب يحتفل بذلك الانتصار الى يومنا الراهن.
الحملات الغربية على الشرق تمتد طويلاً في التاريخ. ليس للاسلام دخل في خلق هذا الصراع، بل تحول الاسلام نفسه الى جزء من الصراع وامتدادا له بعدما ظهر الى الوجود في وقت، كان الغرب والشرق قد نهشا اضلاع بعضهما البعض.


لكن المفارقة ان الاسلام صاغ علاقة التكوينات البشرية بمرتبة ارقى، واجلّ شأناً مما كان يحدث في العهود السابقة بين الدول والامبراطوريات. ويشهد الغربييون على ان المسلمين كانوا ارحم الفاتحين على مرّ التاريخ. واثناء الحملات الصليبية لقّن صلاح الدين الايوبي اوروبا، درساً تاريخياً عظيماً ليس بالانتصار عليها في ميادين القتال فقط، بل في تعليمها نمطاً جديداً في علائق الانسانية: العدل، التسامح والسلم المدني. كان الصليبييون الغربيين على درجة عظيمة من التوحش والارهاب، حداً لم يتردد اخوتنا المسيحيين الشرقيين في تفضيل العيش تحت حكم صلاح الدين المسلم، ونبذهم للحكم الصليبي الذي لم يبد رحمة حتى تجاه المفترض اخوة الدين.


الهلوسة الاعلامية الغربية في الوقت الحاضر استلبت عقول الجمع البشري، وقلبت الموازين والاوصاف. الشرقييون الذين يعانون ظلم الدكتاتوريات، وسلب الارادة العامة لصالح فئات حاكمة ذليلة امام سطوة الغرب، اصبحوا ضحايا المقدمة في الجريانات المجحفة والمظلمة.


كالعادة ينقسم السواد الأعظم في شرقنا بين ضفتين، في خصوص هجمة امريكية متوقعة ضد ايران. في الاولى يصطف جمع ذي وجوه مصفرة ضاحكة، تستبشر بجلبة الغارة المرجوة على ايران. هذه الفئة مدفوعة بعدة عوامل، منها طائفية ومنها قومية وأخرى تبدو انتقاما او تصفية حسابات غير محسومة الأمد.
وفئة أخرى متباينة الأضلاع والأصوات. منها حزينة يائسة تندب حظ المسلمين، ومنها من يتحدّى قوى الاستكبار العالمي ــ وفق تعبيره ــ وعليه يؤذن بقرع طبول الحرب مهدداً بالويل والثبور.
الوهم الكبير الذي مازال يطل في افق خيال جمع منا، هو الهوس باسقاط نظام مستبد ودكتاتوري بيد خارجية، اُمْنيةً بحلول نظام ديموقراطي وسعيد.


تجربة العراق وافغانستان ليستا ببعيد منا، ومازالتا قيد الجريان والمكوث. ولا حاجة للتعريف فالحال صنو سقرٍ.
في الحقيقة ان الهلوسة الجماعية المنقسمة في بلادنا كلها، في اطياف والوان الطوائف، الاحزاب، القوميات والحكومات تطغى على المدى الذي نشغل فيه حيز وجودنا مستلبةً كينونتين من كينونات الانسان وقوام الحياة وهما: العقلانية الجمعية وفردانية الهدي بالرشد.
لم يحدث في تاريخ البشر ان يكون للحروب دور في صناعة الحياة. والشعوب حين تدور في دوامة القتال والفوضى تسقط على قفى ظهورها متدحرجة نحو البداوة، الارتجال والانكماش الحضاري على اصعدة مهمة وخطيرة مثل:
1-فقدان السلم الداخلي على مستوى الخلائق (سيكولوجية الفرد)، والحياتي على مستوى الاجتماع.
2- الاضطراب الذي تفور من مخارجه عصبيات فئوية ودوائرية استعدائية متناحرة.
3-ومن العصبيات الآنفة الذكر تتهيأ الأرضية والاجواء لظهور الدكتاتور والجلاد والمستبد، وبالتالي تتحول السياسة من فن الادارة العامة الى عمليات مخابراتية وصفقات وأنفاق وكوارث.
4-إذ يغدو نمو الاجتماع مضطرباً في ظل نتائج الحروب والصراعات، تدفع عوامل أخرى بمجتمعاتنا ــ كالفقر والتخلف ــ نحو اهمال الشأن السياسي العام والاستسلام لليأس القنوط، وتتحول الثقافة في هذا المجال الى انعكاس للفضاء العام المضطرب والمتلكئ (راجع ان شئت مقالنا على ايلاف: في كُردستان المثقف السلطوي في خدمة الاستبداد).
ايران اليوم تمثل قوة اقتصادية وبشرية في طور النمو والبناء. قد نختلف مع النظام الايراني هنا وهناك وننقده بشدة في اكثر من واقعة ورزية، لكن ذلك لا يعني صحة اسناد حملة خارجية على ايران والتصفيق لها. ان هذا الأمر كارثة عقلية كبيرة.


سبق وان كتبت عن المفكر الكبير فاضل رسول، الذي اغتيل بيد مخابرات الحرس الثوري الايراني. وتحدثت عن اغتيال علماء كُرد في ايران، فضلاً عن التكوين السياسي الجغرافي الايراني المساهم في تشجيع الحملة الخارجية وخدمتها في مقال على ايلاف بعنوان: ايران استراتيجية الصراع والتوازن في الشرق.
ولكن لنفترض ان الديموقراطية المزعومة هي البديل الأفضل من النظام الحالي في ايران، فهل جلبت دبابات امريكا اي ديموقراطية للعراق؟
ان فرصة ظهور الميليشيات المضادة للبشرية، وتمتين الجو الدكتاتوري وخلق عنصريات متلازمة مع العنف المسلح تصبح اكبر واقرب في حال سقوط نظام الجمهورية الاسلامية وفق مخطط خارجي.
وفي الطرف الآخر فان استعمال القوة من قبل امريكا يستدعي تخصيص اموال هائلة من ميزانية الدولة، كما فعلت ذلك في الحرب على العراق.


امريكا اليوم تمثل قوة حضارية كبيرة. وإذا كان هناك اليوم مسلمون وعرب يفركون الأيادي حباً بوقوع امريكا في مستنقعات الحروب والفتن، وتلاشيها على الساحة العالمية كقوة عظمى علّنا نقوم ونتحرر، فهم واهمون.


إن بروز اي قوة أخرى على الساحة كالصين مثلاً، لن يأت ببديل افضل مما هو موجود اليوم. فامريكا رغم وجود ما يمكن نقده بشدة على اصعدة مختلفة، إلا انها تمثل تراكما حضاريا كبيراً وقابلا للمزيد من التطور. في العام الماضي خصصت امريكا اكثر من 270 مليار دولار من اجل البحث العلمي، وهو بالطبع لخدمة البشرية.


ان تحررنا وتطورنا متعلقان بعوامل داخلية، لا يغنيهما تبدل القوى العالمية من الشرق الى الغرب.
ومن جهة أخرى فان البشرية جمعاء تواجه اليوم مخاطر كبيرة في الحياة. هناك ازدياد متواصل للبغاء والمومسات، ونتائج ذلك الكارثية على كينونة الاجتماع البشري. اعداد المدمنين على المخدرات تتضاعف عالمياً. ازدياد تجارة الاعضاء البشرية كالكلى والأعين على سبيل المثال، وتختص في الأولى باكستان وفي الثانية كولومبيا لا سيما في الأعين الخضر والزرقاء. ارتفاع نسبة الفقر والجوع في اقريقيا وآسيا وجنوب امريكا. في عام 2005 مات اربعة ملايين انسان بسبب الجوع. الأمراض والأوبئة الفتاكة التي تحصد النفوس عالمياً. نقص في الموارد الغذائية وانخفاض كبير في قدرة الأرض على توفير الغذاء. ازدياد عدد سكان الأرض. ارتفاع درجات حرارة كوكبنا والانقلابات المناخية الخطيرة. تراكم فوائض الديون الشرقية لصندوق النقد الدولي بمعدل 100 مليار دولار سنوياً، وهو العامل الكافي لوقف نمو بلداننا. وهناك قضايا أخرى كبيرة وحيوية تجبرنا لا محال، ان نراجع انفسنا كبشر في الحياة التي نشترك فيها.
ان الحروب تدفع بهذه الكوارث الى التوسع والازدياد، في الوقت الذي لا تضيف حسنة في حياتنا نحن البشر. يجب ان يتعاون الجميع لمواجهة المخاطر الكبرى التي تهدد الانسانية. اننا وكذلك البيئة لا نتحمل المزيد من الحروب.


ان الأدوار المنوطة بالمسلمين كحاملي رسالة الاسلام/السلام يجب ان تدفعهم اليوم اكثر نحو العمل من اجل نبذ العنف، وترك الصراعات المسلحة وفضاءاتها.


وفي ما يخص امريكا يجب ان نقارعها حضاريا وسلمياً، وان لا ندع الفرصة تفوتنا في الاستفادة منها. وعليه فان الوقوف بوجهها ضد الادامة بالحروب مطلب شعبي لنا وللامريكيين ايضاً. ان الحروب تعني المزيد من التخلف والفوضى والفقر، وبالتالي وقوع الاسلحة بيد العصابات والميليشيات المستهترة بالحياة.
ايران هي لنا جميعاً رغم اننا نرفض العنصرية المتجوهرة في كينونة النظام على المستويين القومي والديني/الطائفي. لكن علينا ان نكون حذرين في تحويل الأوهام الى آمال نعيشها. فلا ضعف امريكا ينفعنا كمسلمين وشرقيين، ولا سقوطها سيأتي ببديل افضل. ولا يمنح انهيار الغرب المسلمين دوراً كبيراً يبتغونه. وسقوط ايران لا يزيدنا الا تعاسة وتخلفاً، ولا يعالج ذلك الصراع المذهبي البتة. ان انتصارنا يبدأ من مفردتين بسيطتين: السلام والمحافظة على الحياة وتطويرها للجميع دون فوارق.

علي سيريني

[email protected]