قرار الرئيس الروسى فلاديمير بوتين بخوض معركة انتخابات البرلمان على رأس قوائم حزب روسيا الموحدة، وضع نهاية لحيرة الأوساط السياسية فى روسيا،والتى استمرت لشهور طويلة حول مستقبل السلطة السياسية. واعتبر أغلبية المحللين الروس أن سيد الكرملين أختار السيناريو الأكثر واقعية لتداول السلطة،والذى يضمن بقاءه فاعلا فى الساحة السياسية ربما بنفس الدرجة التى يتمتع بها اليوم.
وفور أعلان بوتين عن قبوله لعرض حزب روسيا الموحدة بترؤوس قوائم الأنتخابية وامكانية توليه منصب رئيس الحكومة،بدأ المحللون يناقشون الآفاق الجديدة لروسيا،استنادا إلى انها ستتحول من جمهورية رئاسية ndash; وفق احكام الدستور- يتمتع فيها الرئيس بصلاحيات واسعة،إلى جمهورية برلمانية يشكل حزب الأغلبية فيها الحكومة ويختار رئيس هذه الحكومة.وتدور اليوم فى موسكو حوارات متشعبة حول ما أذا كان سيتم تعديل الدستور لترسيخ السلطة البرلمانية ام أنه سيتم الأكتفاء بتعديل المناصب اعتمادا على النفوذ السياسى لفلاديمير بوتين.


ولابد من القول أن بوتين يتمتع بشعبية كبيرة فى مختلف قطاعات الشعب الروسى،ويمتلك نفوذا سياسيا كبيرا، يصعب تجاهله من قبل الرئيس القادم لروسيا.وبالرغم من ذلك فقد حدد بوتين شرطين لتحقيق هذا السيناريو، الشرط الأول يمكن اعتباره محقق ليس لأن حزب روسيا اليوم حصد مقاعد البرلمان فى انتخابات البرلمان السابقة،وانما ايضا لأن بوتين سيتراس قوائمه فى هذه الأنتخابات،ما يعنى أن هذا الحزب سيحصل على ثلثى مقاعد الدوما،وسيكون قادر فى اى لحظة على اجراء اى تعديلات دستورية لتسهيل تنفيذ خططه وبرامجه السياسية.اما الشرط الثانى فيبدو اكثر جدية..لأنه يتطلب تسويات بين مختلف مراكز القوى فى السلطة الروسية، حيث حدد بوتين أنه يمكن أن يتعاون كرئيس حكومة متوقع مع رئيس للبلاد تتوفر فيه صفات محددة اهمها الأستقامة والألتزام بالوعود وترجمتها إلى افعال.


وقد اثارت وجهة نظر بوتين فى عملية تداول السلطة تساؤلات وتداعيات عميقة،كان ابرزها..هل يمكن أن يؤدى عدم تحقق الشرط الثانى إلى ظهور بسيناريو أخر لتداول السلطة فى اللحظات الأخيرة قبل انتخابات الرئاسة؟لأن الدستور يسمح لبوتين أن يخوض معركة أنتخابات البرلمان وهو على راس عمله الحالى،ومحتفظا بمنصبه كرئيس للبلاد إلى حين انتهاء فترته الرئاسية الثانية،شريطة أن لا يستغل منصبه فى الدعاية الأنتخابية لقائمته الأنتخابية،ويفصل بين انتخابات البرلمان وانتخابات الرئاسة 3 شهور!وهى فترة كافية لتقييم كافة الأطراف والأوضاع.


وفيما يخص تداعيات رؤية بوتين لتداول السلطة-التى طرحها فى مؤتمر حزب روسيا الموحدة- فيبدو انها تقود إلى أن يكون الرئيس القادم لروسيا الأتحادية ضعيفا..ليس فقط لأنه يتولى مقاليد السلطة خلفا لرئيس ترك مقعد الرئاسة احتراما للدستور،ورفض تعديله بالرغم من نفوذه السياسى المتنامى،وانما ايضا لأن الرئيس الجديد سيجد شريكا قويا له فى ادارة شؤون البلاد،ويستند إلى اغلبية برلمانية تكاد تكون مطلقة.
ومع ذلك سيتطلب السيناريو الذى طرحه بوتين تعديلات دستورية ليس فقط لتوسيع صلاحيات رئيس الحكومة، وانما ايضا لتقليص صلاحيات رئيس البلاد فى اختيار رئيس الحكومة،وحتى تتحول روسيا إلى جمهورية برلمانية،بأعتبار أن الدستور الحالى يمنح الرئيس حق اختيار رئيس الحكومة على أن يصادق عليه البرلمان، واذا رفض البرلمان ترشيح رئيس البلاد 3 مرات متوالية،يحق للرئيس حل البرلمان وأجراء انتخابات برلمانية عاجلة.


والجانب الأخر فى تداعيات قرار بوتين يكمن فى انحيازهndash; وليس انضمامه- لحزب روسيا الموحدة،ما سيؤدى إلى تنامى نفوذ هذا الحزب السياسى بشكل متسارع ليصبح الحزب الأقوى والأكبر،بل ويقضى على مشروع تداول السلطة وفق نظام الحزبين الكبيرين على غرار النظام الأمريكى.ولا يستبعد العديد من المحللين الروس أن تقتصر عضوية البرلمان على حزب روسيا الموحدة بأغلبية تزيد عن ثلثى مقاعد الدوما،والحزب الشيوعى الذى يمكن أن تشكل كتلته فى البرلمان القادم حوالى 20% من النواب.واذا كانت التوقعات تشير إلى حزب روسيا الموحدة يمكن أن يحصل على 50-57% من مقاعد الدوما قبل قرار بوتين، فأن هذه النسبة وصلت لأكثر من70% بعد اعلان بوتين موافقته على ترؤوس قوائم الحزب،ما يعنى انه اضاف اكثر من15% من النواب لكتله حزب روسيا الموحدة البرلمانية.واصبح حزب روسيا العادلة برئاسة ميرونوف رئيس مجلس الأتحاد الروسى (والذى كان يطمح لأن يكون الحزب الثانى فى البلاد ضمن نظام الحزبين الكبيرين لتداول السلطة)مهدد بعدم دخول البرلمان وتجاوز حاجز ال 7%،اما حزب جيرنوفسكى فيعتقد أغلبية المراقبين انه فى طريقه إلى الأندثار سياسيا،وانه لن يتمكن من تجاوز حاجز ال 7%،والدخول للبرلمان القادم.


العديد من المراقبين يرى أن خطة بوتين هى السبيل لبلورة التركيبة السياسية القادرة على النهوض بالبلاد،بأعتبار انه تضع على راس السلطة فريق عمل يعتمد مبدأ القيادة الجماعية،وترى أن هذا الأسلوب هو النهج الديمقراطى الذى يستند للخصوصية الروسية.


فيما يرى فريق اخر أن هذا الوضع هو تكريس لسيادة قوة سياسية وحيدة وتهميش للقوى الأخرى،ما سيؤدى للقضاء على الأصلاحات الديمقراطية المطلوبة،والتى يمكن أن تحقق الرقابة على اداء الحكومة.
وبصرف النظر عن تباين الأراء والتحليلات إلا ان التطور الحاصل فى الساحة السياسية الروسية يحمل ملامح نظام الحزب الواحد،والذى يختلف عن الحزب الواحد فى العهد السوفيتى بعدم استناده لأى مرجعية فكرية واضحة المعالم،يمكن أن تكون المرشد والحكم بين اطراف المجتمع.


ان مسيرة روسيا خلال سنوات المرحلة الأنتقالية مرت بذروات عظمى وصغرى،ولكنها حتى الأن لم تتوصل لمعادلة واضحة المعالم.واذا كانت فترة رئاسة بوتين قد نجحت فى تحقيق درجة ما من الأستقرار،فأن الفضل يعود لتركيز الكرملين على المصالح القومية لروسيا،خلافا لنظام يلتسين الذى كان يركض نحو اسلوب الحياة الغربى،غير مهتم بمصالح روسيا ومصير شعبها.إلا ان فترة بوتين لم تسفر عن ظهور مؤسسات سياسية ومدنية وأقتصادية قادرة على بلورة ملامح السياسة الروسية.

مازن عباس

موسكو