قرار تقسيم العراق حلقة في سلسلة من التجارب الفاشلة ودول ( ثنائي النظام)

لابد من الاقرار بالخطأ الذي ارتكبته شخصياً باعتقادي ان النظام الديمقراطي هو البديل الحتمي للنظام الديكتاتوري السابق في العراق، كما اعتقد جازماً بأن كل الذين كانوا على هذا الراي قبل سقوط النظام السابق كانوا مثلي على هذا الوهم، ليس هذا فحسب وانما ثبت بالمطلق ان اكبر دولة في العالم اصبحت فريسة الوهم ذاته اعتقاداً منها بامكانية تطبيق النظام الديمقراطي في الدول النامية وبالاحرى المتخلفة في منطقة الشرق الاوسط، واعتقدتْ من جهة ثانية بان الانظمة الديكتاتورية مسؤولة عن انتاج الارهابين. ولا شك ان احداث 11 ايلول رسخت هذه النظرية في اذهان المحافظين الجدد وقدمت خدمة مجانية استخدموها كذريعة لتنفيذ مأربهم في منطقة الشرق الاوسط، على مسار تطبيقات العولمة في هذا الجزء من العالم.


بهذه الذهنية باشرت الادارة الامريكية بقيادة بوش الابن ومجموعة المحافظين الجدد بتطبيق سلسلة من المشاريع التجريبية الفاشلة في منطقة الشرق الاوسط، بدأ من اجتياح افغانستان للقضاء على معقل منظمة القاعدة الارهابية، وقبل التحقق من نتائج حملتها ضد القاعدة هناك قررت فتح جبهة جديدة لمحاربة الارهاب العالمي في العراق بحجج مبررات كاذبة لاحتلاله وتحويله الى ارض قتل لعناصر ارهابية التي دخلت العراق لمقاتلة قواتها المحتله. وفي الواقع تحول العراق الى تصفية الحساب بينها وبين دول الجوار من خلال دعم عناصر القاعدة والتكفيرين والمليشيات المدعمة من قبل ايران والجهات العراقية الموالية لها، مما ادى الى تفاقم الوضع العراقي وتطوره الى حرب اهلية طائفية شيعية سنية، بما اجبرالمحتل الامريكي على تغيير استراتيجيته في المنقطة مرات عدة على صعيدين الامني والسياسي، فاضطرت على تبديل استراتيجيتها الامنية، بزيادة عديد قواتها وتطبيق ما سميت باستراتجية فرض القانون في بغداد، واللجوء الى عشائر الانبار لمحاربة القاعدة.. وسياسياً بدأت تضغط على حكومة المالكي لتعيد النظر في قانون اجتثثاث البعث تحت اسم جديد قانون (العدالة والمسائلة) بما يعني اشراك عناصر حزب البعث في العملية السياسية. أما على صعيد المنطقة فقد طرحت مشروع الشرق الاوسط الكبير، سرعان ما تبين لها تعذر السير قدما فيه، غيرت اسم المشروع من الشرق الاوسط الكبير الى الجديد، وكانت هذه المشاريع تستهدف تغيير الانظمة الشمولية في المنطقة الى الديمقراطية المستوردة، ولم يمر الوقت طويلاً حتى تبين للادارة انها

كانت على وهم مرة اخرى، فالتجأت هذه المرة الى تصنيف دول المنطقة الى المعتدلة واخرى مارقة او متطرفة وبدأت بتزويد دول الاعتدال بالاسلحة مدفوع الثمن، بما يعني انشاء استقطابات متعسكرة في منطقة الشرق الاوسط بدلا من التسويات السلمية التعايشية على اسس ديمقراطية جاءت بها وولدت ميتة.
واخيراً وربما ليس آخرا، أطل علينا مجلس الشيوخ بقرار تقسيم العراق الى ثلاث فيدراليات على اساس طائفي وعرقي ( الاكراد في الشمال والشيعة في الجنوب والسنة في الغرب) هذا القرار مع كونه غير ملزم للادارة الامريكية، ولكنها ولاشك فهو بمثابة مقترح مقدم الى الادارة لانتشالها من المستنقع العراقي مع تامين بقاء قواتها في اماكن محددة من العراق بحجة تقديم المساعدة للعراقيين في تحقيق الفيدرالية الثلاثية التقسيمية. ينطوي القرار المذكور في الواقع على خلفية توفير الوقت ريثما تنبت البذرة الخبيثة التي بذرها القرار الجائر لكي تاتي باكُلها بعد حين.
غير ان العرقيين بكل اطيافهم وتياراتهم واحزابهم وكتلهم السياسية جميعا وقفوا وقفة الرجل الواحد واعلنوا عن رفضهم واستنكارهم للقرار المشبوه والمنافي لكل المبادئ والاعراف الدولية والقانون الدولي الذي يمنح للشعوب حق تقرير مصيره بنفسه، فيما عدا مسؤولي حكومة الاقليم الكردي الذين رحبوا بالقرار.

ومن جهة ثانية قدم قرار مجلس الشيوخ الذي صوت عليه ثلثي اعضاء المجلس من الجناحين الديمقراطي والجمهوري، دليلا واضحا اخرا على تخبط السياسية الامريكية وفشلها في كل المشاريع والاستراتيجيات التي حاولت تطبيقها في المنطقة بدءاً من العراق. فلم يبق امامها سوى الهروب الى الامام بهذا القرار لنشر فوضى ( فيدرالية- تقسيمية) في المنطقة باسرها، بديلاً عن الفوضى البناءة التي نشرتها في العراق.
أن اخفاق اكبر دولة في العالم التي تعتمد على الاف من المراكز ومعاهد البحوث للدراسات الستراتيجية، ليست لها سوى دليل واحد فحسب، وهو انها اعتقدت خطأً او ( تعمدت تحقيقاً لأهدافها ومصالها في المنطقة) بامكانية تطبيق الديمقراطية على دول تعاني شعوبها من الاهمال والتخلف ولم تألف الديمقراطية ولم تمارس ابسط اشكالها منذ عقود طويلة، والحظأ الاكبر والاخطر محاولة فرض النظام الديمقرطي على الدول التي يتألف سكانها من الطوائف والقوميات المختلفة لها امتدادها عبر الحدود، مما قد يفتح الباب على مصراعيها للتدخلات الخارجية وتعرضها الى مخاطر التجزأة والتقسيم، يسبقها حروب اهلية كما نشهدها الان في العراق.

بناءاً على ما سلف يمكن ان يستنتج البعض ان الانظمة الشمولية المعتدلة في الدول النامية والمتخلفة، ولاسيما تلك التي يتألف سكانها من الطوائف والقوميات والاعراق هي الاضمن لاستقرار البلاد والحفاظ على وحدتها، من النظام الديمقراطي المستورد الذي لا يتلائم مع خصوصيتها الاجتماعية والثقافية والبيئية، مع ذلك ان النظام الديمقراطي بتقديري هو الأمل المنشود للشعوب يضمن لها الحقوق والحريات الاساسية، ولكن يشترط ان تهيئ لها ارضية ثقافية ديمقراطية تطبخ على نار هادئة بدءأ من التربية البيتية والمراحل الدراسية المختلفة وفي كل المجالات الاجتماعية والتربوية.

لقد أعاد الى ذاكرتي من خلال تاملي في المشهد العراقي وتطور احداثه الكارثية خلال السنوات الاربعة المنصرمة، حيث يجري التشبث بتطبيق النظام الديمقراطي بديلا عن النظام السابق، ما قرأت في كتاب باللغة التركية تحت عنوان (درين دولت) اي (الدولة الراسخة او العميقة) يتحدث فيه مؤلفه عن ظاهرة دولة (ثنائية النظام) في الدولة (اليونيتارية) الوحدوية، التي لها هاجس التعرض الى التجزأة إذا ما اخذت بالنظام الديمقراطي الذي يقتضي اطلاق الحريات واحترام الحقوق.
تجمع مثل هذه الدولة وفق هذه النظرية بين النظام في طور التحول الى النظام الديمقراطي والنظام الاستبدادي يمارس القمع المستتر لتصفية العناصر يشك بوجود ارتباطات تشكل تهديدا لوحدة البلاد، او طروحات تضر بالوحدة الوطنية باستغلال استحقاقات النظام الديمقراطي ودولة القانون.
وبحسب اصحاب هذه النظرية، ان البلدان التي تأسست على مفاهيم الدولة اليونيتارية (الوحدوية) التي يتألف شعبها من الطوائف والاعراق والاثنيات، لها امتداداتها في الدول المجاورة كالعراق واتركيا وايران وسوريا وغيرها، مما قد يفسح المجال للدوائر الاجنبية للتدخل في الشؤون الداخلية من بوابة دعم حق (تقرير المصير) فيما يكون الغرض منه فرض اجندتها الخاصة على مثل هذه الدول، لاجبارها على الخضوع لمطامعها ومصالحها.. لذلك وبحسب هذه النظرية ايضاً، ان النظام الثنائي يكون مطلباً ضرورياً على مسار تحولات تاريخية تقتضيها مرحلة انتقال الى النظام الديمقرطي بصورة تدريجية توفيراً للوقت الازم لتعميم الثقافة الديمقراطية مع تعزيز الروح الوطنية بحيث يقدم حصانة من الانجرار وراء المشاريع التقسيمية التي تُحرض عليها الخصوم من وراء الحدود.

وفق منطوق هذه النظرية التي تبدو غربية ينفي وجودها بعض السياسيين والمفكرين الذين استمعت اليهم في مقابلات تلفزيونية، فيما يدافع البعض الاخر عن ضرورتها التاريخية، في دول سائرة على تطبيق الديمقراطية في وسط غير ناضج، ويعتبرونها نظام وسط بين الديمقراطية المقنعة والديكتاتوية المستترة، يتطلبها مستوجبات الحفاظ على الوحدة البلاد التي تأسست على مبادئ الدولة الوحدوية.

عزيز قادر الصمانجي