لا زلنا في المبحث الرابع.. أعني الإستعاذة وقد تكلمنا عن الشيطان لغةً أما الرجيم: فهو فعيل بمعنى المفعول كالحميد بمعنى المحمود فالرجيم يعني المرجوم.. فإن قيل: لماذا خلق الله الشيطان بهذه الصورة التي يستطيع من خلالها إغواء الآخرين؟ أقول: الله تعالى لم يخلقه شرير بل هو خلق سوي كالملائكة إلا إنه من جنس الجن وإختياره لهذا الطريق كان بإختياره لأن الجن مختار كالإنس ولذلك قال تعالى: ( وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس كان من الجن ففسق عن أمر ربه ) الكهف 50... والنكتة في ذكر الجن هنا أي فسق عن أمر ربه ليس لأنه مخلوق من سنخ الجن وإنما لأنهم يملكون الإختيار.. ولذلك إختار عدم السجود لآدم.. فإن قيل: ما الحكمة من إعطائه هذه الإمكانية التي يضل بها البشر؟ أقول هنا يكمن سر الوجود في الأرض لأن الحياة لا تستقيم دون وجود غريم يعارضك في إتجاهك أي إنه لو شرع الله الدين وبعث الرسل وأنزل الكتب ولا توجد هناك فتنة يفتتن بها البشر يفقد الإتجاه الصحيح مساره ولا يبقى له حافز يدفعه إلى أمام.. وأنت خبير بأن الإنسان الذي لا يجد منافس فإن عمله يتلاشى دون مزية تذكر وهذا يجرنا إلى الإختلافات الموجودة بين الناس فلولا تلك الإختلافات لما إستقامت الحياة على ما هي عليه بل جعلها الله من علل الخلق لذلك قال ( ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين 0 إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم ) هود 118 - 119.... وكذلك فإن هذه الإختلافات جعلها الله تعالى الركيزة الأساسية لإثبات الدين فحين تصل إختلافات البشر إلى الحروب واختلاف الآراء والإتجاهات والتدافع الذي يحصل هنا وهناك فهذا يصل بنا إلى اللجوء ناحية الإله الحق الذي يجب أن يعبد ولذلك يشير القرآن الكريم إلى إنه لولا هذا التدافع لهدمت بيوت العبادة ولم يبقى ذكر له تعالى كما قال ( ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيراً ولينصرن الله من ينصره ) الحج 40........... المبحث الخامس: البسملة: وهي قوله ( بسم الله الرحمن الرحيم ) الحمد 1...... مما خص به تعالى أنبيائه وفضل بعضهم على بعض كما قال ( ولقد فضلنا بعض النبيين على بعض وآتينا داود زبورا ) الإسراء 55.. هذا المفهوم له مصاديق كثيرة نجد أحدها في البسملة فإن ( بسم الله ) فقط كانت من نصيب نوح ( ع ) حيث قال تعالى ( وقال اركبوا فيها بسم الله مجريها ومرساها ) هود 41.... أي اركبوا فيها مسمين الله أو قائلين بسم الله وقت إجرائها أو وقت إرسائها ( 1 ).. وأعطيت البسملة كاملة للنبي سليمان ( ع ) حيث قال تعالى على لسان ملكة سبأ ( إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم ) النمل 30.... وأعطي القرآن بما فيه البسملة للنبي محمد (ص ) وهذا يدل على أفضليته لأنه جمع له في القرآن ما أعطى الأنبياء من قبله وزيادة وهذه الزيادة نجدها مجسدة في القرآن الكريم باعتباره أشرف الكتب السماوية ومهيمن عليها لأن تلك الكتب لم تكن معجزات بل هي منهجاً فقط بإستثناء الزبور لأن داود ( ع ) حكم بالتوراة أيضاً الذي هو كتاب موسى ( ع ) ولكن القرآن الكريم جمع بين المنهاج والإعجاز........ والباء في بسم الله.. تعلقت بمحذوف تقديره باسم الله أقرأ أو أتلو نظير قوله عز وجل ( في تسع آيات إلى فرعون وقومه ) النمل 12... أي إذهب في تسع آيات وكذلك قول العرب للمعرس بالرفاء والبنين وقول الإعرابي باليمن والبركة ( 2 )....... والإسم: لفظ يطلق على مسمى واختلفوا في إشتقاقه على وجهين: أحدهما: إنه مشتق من السمة وهي العلامة لما في الإسم من تمييز المسمى وهذا قول الفراء والثاني إنه مشتق من السمو وهي الرفعة لأن الإسم يسمو بالمسمى فيرفعه من غيره وهذا قول الخليل والزجاج وهو الأقرب وذهب أبو عبيدة وطائفة إلى إن ( إسم ) صلة زائدة وإنما هو ( الله الرحمن الرحيم ) واستشهدوا بقول لبيد.. إلى الحول ثم إسم السلام عليكما......... ومن يبك حولاً كاملاً فقد إعتذر... واختلف من قال بهذا في معنى زيادته على قولين أحدهما: لإجلال ذكره وتعظيمه ليقع الفرق به بين ذكره وذكر غيره من المخلوقين وهذا قول قطرب والثاني ليخرج به من حكم القسم إلى قصد التبرك وهذا قول الأخفش ( 3 )....... أما لفظ الجلالة ( الله ) قال الخليل وجماعة هو إسم علم خاص لله عز وجل لا إشتقاق له كأسماء الأعلام للعباد مثل زيد وعمرو وقال جماعة هو مشتق ثم اختلفوا في إشتقاقه فقيل من أله إلاهه أي عبد عباده وقرأ إبن عباس ( ويذرك وآلهتك ) الأعراف 127... أي عبادتك معناه إنه مستحق للعبادة دون غيره ( 4 )............. الرحمن الرحيم: وقد كثرت أقوال المفسرين في العلاقة بين هاتين الصفتين فبعضهم يرى أن ( الرحمن ) هو المنعم على جميع الخلق وأن ( الرحيم ) هو المنعم على المؤمنين خاصة ويرى آخرون أن ( الرحمن ) هو المنعم بجلائل النعم وأن ( الرحيم ) هو المنعم بدقائقها ويرى فريق ثالث إن الوصفين بمعنى واحد وإن الثاني منهما تأكيد للأول..... والذي يراه المحققون من العلماء إن الصفتين ليستا بمعنى واحد بل روعي في كل منهما معنى لم يراع في الآخر ( فالرحمن ) بمعنى عظيم الرحمة لأن ( فعلان ) صيغة مبالغة في كثرة الشيء وعظمته ويلزم منه الدوام كغضبان وسكران والرحيم بمعنى دائم الرحمة لأن صيغة ( فعيل ) تستعمل في الصفاة الدائمة ككريم وظريف فكأنه قيل: العظيم الرحمة الدائمة أو أن ( الرحمن ) صفة ذاتية هي مبدأ الرحمة والإحسان وتعديهما إلى المنعم عليه.. ولعل مما يؤيد ذلك إن لفظ ( الرحمن ) لم يذكر في القرآن إلا مجرى عليه الصفاة كما الشأن في أسماء الذات.. قال تعالى ( الرحمن 0 علم القرآن ) الرحمن 1-2... ( الرحمن على العرش إستوى ) طه 5.. ( قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن ) الإسراء 110... وهكذا... أما لفظ ( الرحيم ) فقد كثر استعماله وصفاً فعلياً وجاء في الغالب بإسلوب التعدية والتعلق بالمنعم عليه قال تعالى: ( وكان بالمؤمنين رحيما ) الأحزاب 43... قال بعض العلماء: وهذا الرأي في نظرنا هو أقوى الآراء فإن تخصيص أحد الوصفين بدقائق النعم أو ببعض المنعم عليهم لا دليل عليه كما إنه ليس مستساغاً أن يقال في القرآن إن كلمة ذكرت بعد أخرى لمجرد تأكيد المعنى المستفاد منها..................................................... المصادر المساعدة في البحث..... ( 1 ) مدارك التنزيل وحقائق التأويل / النسفي.... ( 2 ) الكشاف / الزمخشري..... ( 3 ) النكت والعيون / الماوردي.... ( 4 ) معالم التنزيل / البغوي.... ( 5 ) الوسيط / طنطاوي.... كان هذا المقال الأخير في هذا الشهر الكريم وأسعد الله أيامكم..


ملاحظة: أتقدم بالشكر الجزيل إلى كادر إيلاف لا سيما الأستاذ عبد الرحمن الماجدي والأستاذ عبد
القادر الجنابي.. وجميع الإخوة والأخوات في إيلاف على إتاحتهم لي هذه الفرصة التي حرمت منها طويلاً.. وأكرر إنني لست رجل دين لكن تفسير القرآن هواية أمارسها منذ طفولتي وأنا الآن لي ثلاث وأربعون سنة والذين عاشوا في رفحاء من العراقيين يعرفون جيداً إنني كنت أفسر القرآن على المنبر هناك لسنين كثيرة قبل خروجي لأميركا ولكني هنا في أميركا منعت من إلقاء محاضرات التفسير من قبل ما يسمى برجال الدين العراقيين في ولايتي كالفورنيا وأريزونا.. لا لسبب إلا إنهم يعادون من يحمل علوم القرآن وطلب أحدهم مني أن أحضر شهادة وأوراق من الحوزة الدينية في العراق والمثير للضحك إنهم في الحوزة لا يدرسون التفسير أو علوم القرآن.. لذلك أشكر جميع الإخوة والأخوات في إيلاف لأن هذه المرة الأولى التي أنتقل فيها من الخطابة إلى الكتابة وكنتم أنتم السباقون في هذا الفضل لذلك أحب أن أسبق الجميع وأقول لكم.. أيامكم سعيدة وكل عام وأنتم بألف خير....

عبد الله بدر إسكندر المالكي.