كتبت فتاة مصرية في صفحتها على الانترنت سؤالا افتراضيا إلى مفتي جمهورية مصر العربية الدكتور علي جمعة، وسألت : هل الضحايا الغارقين على سواحل ايطاليا أثناء هجرتهم غير المشروعة شهداء؟ وافترضت الفتاة النابهة ثلاث إجابات مع ردود أفعال المتباينة، الأولى في حالة إجابة السيد المفتي بنعم، وقتها.. سيكون رد الفعل هو استنكار إجابته المشجعة على الهجرة غير المشروعة، وفي حالة الإجابة بلا، سيتم تفسير الإجابة على أنها إجحافا لأدنى حقوق هؤلاء الشباب في لقب شهيد الذي أتاحه الإسلام لضحايا الغرق.. أما الإجابة الثالثة فمن الصعب أن يقولها أي مفتي، وهي عبارة: لا أعلم..!


قد يبدو المفتي المصري في الموقف السابق مثل جحا في موقفه الشهير مع حماره وابنه ومحاولته إرضاء الناس، إلا أن اختيار المفتي في الأسبوع الماضي كان واضحا حين أجاب على نفس السؤال السابق في إحدى الندوات بان الشباب الغارق في مياه البحر المتوسط أثناء محاولة الهجرة غير المشروعة إلى سواحل إيطاليا هم quot;طماعونquot;، وليسوا quot;بشهداءquot;.. ليفتح الباب أمام العديد من الكتابات الغاضبة التي اتهمته بموالاة الحكومة والبعد عن معاناة الجماهير.


ويضعنا هذا التصريح من المفتي أمام تساؤل عن الغرض من الإدلاء بمثل هذا الرأي، حين ابتعد فضيلته عن تقويم الخطأ الذي ارتكبه المهاجرون غير الشرعيون، لينتقل إلى تقييم هؤلاء الشباب الغرقى وإرسال عبارات التوبيخ إليهم في قبورهم، فهل كان السبب الرئيس وراء مثل هذا التصريح هو الميول الحكومية للمفتي كما اتهمته بعض الأقلام؟ أم أن الأمر تخطى هذا الحاجز إلى مرحلة أصبح فيها إصدار الفتاوى مرحلة أخيرة في التعامل مع القضايا التي أخفقت الحكومة في علاجها؟؟


لم تكن قسوة عبارات المفتي هي السبب الوحيد في استمرار حدة التعليقات التي وجهت إليه مؤخرا عبر العديد من المنابر الصحافية، بل كان وراءها سبب آخر، هو فتوى أذاعتها دار الإفتاء المصرية منذ أيام في بيان رسمي تعفي سائقي السيارات من اللوم في حالة تسببهم في قتل من يقفون أمامهم عمدا، وهي الفتوى التي ربطها حقوقيون مصريون بحادث قتل امرأة مصرية صدمتها سيارة تابعة لجهاز الشرطة حين كانت المرأة تلح على إطلاق سراح زوجة أخيها المحتجزة في السيارة.
وفي الحالتين السابقتين وجهت العديد من الأقلام اتهامات إلى دار الإفتاء المصرية بأنها تتخذ الموقف الحكومي في إصدار الفتاوى، وذلك رغم النفي المستمر من جانب شيوخ الأزهر لهذه التهمة، فقد رفض السيد المفتى تلك التهم الموجهة إليه في مؤتمر صحافي عقد مؤخرا في القاهرة، وكانت نفس تلك الاتهامات سببا في غضب شيخ الأزهر الدكتور محمد سيد طنطاوي حين أعلن في منذ أسابيع أنه يتحدى الظالم ويقول له في وجهه quot;أنت ظالم ولو كان رئيس الجمهوريةquot;، وذلك في محاولة لتحسين موقفه بعد أن وصف الإشاعات التي تعرضت لصحة رئيس الجمهورية في بعض الصحف المصرية بأنها قذف يستحق عقوبة الجلد.. لكن كل هذا النفي لا يمنع دلائل أخرى تبرهن على وجود علاقة واضحة بين إخفاق الأجهزة الحكومية في مواجهه قضايا أرهقت الجماهير، وبين إصدار فتاوى تخص هذه القضايا.. وكأن الفتوى هي الخطوة الأخيرة لمعالجة تلك القضايا الشائكة.
من ضمن القضايا الشائكة التي أعيت الحكومة المصرية خلال السنوات الماضية، هي قضية استخدام شريحة من المواطنين للخبز المدعوم كعلف حيواني لرخص سعره حيث لا يتجاوز سعر الرغيف 5 قروش، في الوقت الذي ارتفعت فيه أسعار الدقيق المستخدم في صنعه، وبعد أن ضجت الأجهزة الحكومية من التعامل مع هذه المشكلة كانت آخر الخطوات هي ما أعلنه السيد علي مصيلحي وزير التضامن الاجتماعي عن طلب مقدم إلى الدكتور علي جمعة مفتي الديار المصرية لإصدار فتوي تحرم استخدام الخبز المدعوم كعلف حيواني.

وفي قضية أخرى لم تكن أقل أهمية - إن لم تكن أكثر تعقيدا - جاء دور دار الإفتاء لتقوم بدورها في إصدار فتوى تخاطب ضمير الجماهير وتلقى باللائمة على إحدى فئات المجتمع، وذلك في قضية السحابة السوداء التي تغطي سماء القاهرة بصورة ملحوظة منذ سنوات عديدة دون حل حقيقي أو مواجهة أسبابها، وكان من ضمن تلك الأسباب المعلنة، حرق المخلفات الزراعية على أطراف العاصمة، ضمن مجموعة من الأسباب الأخرى الأكثر أهمية كزيادة حجم العادم الناتج عن المصانع والسيارات.. إلا أن الفتوى انحصرت على فئة واحدة هي فئة المزارعين واتهمت من يرتكب هذه الفعل بأنه يمارس الإفساد في الأرض.

ومن الواضح أن هذا الاتجاه آخذ في النمو وفي التصاعد، فكافة الفتاوى والآراء الدينية السابقة جاءت في فترة قد لا تتجاوز الشهرين ! بل وامتدت إلى أروقة المجلس النيابي حيث يصاغ مشروع قانون جديد لمنع زواج المصريين من الإسرائيليات، وكان من ضمن المبررات التي استند إليها القائمون على مشروع القانون فتوى استصدروها من شيوخ أزهريين ذو مناصب حكومية تحمل هذا المضمون.. وتعد ظاهرة زواج الشباب المصري من الإسرائيليات مشكلة حساسة أمام الحكومة المصرية نظرا لحساسية العلاقة بين مصر وإسرائيل، كما أن مشروع هذا القانون جاء بعد تفاقم الظاهرة، حيث تقدر أعداد المصريين المتواجدين في إسرائيل بثمانية وعشرين ألف مصري، يعمل منهم ثلاثة آلاف شخص في وظائف تخدم الجيش الإسرائيلي.

إن هناك علاقة لا يمكن إغفالها بين بعض الفتاوى الصادرة عن شيوخ حكوميين وبعض المشاكل المعلقة التي تواجهها الحكومات المصرية، فمشاكل الهجرة غير المشروعة أو الزواج من إسرائيليات أو السحابة السوداء أو إهدار الخبز المدعوم حكوميا.. كل تلك القضايا توالت عليها الحكومات المصرية دون الوصول إلى حل نهائي لأي منها، وكما هو واضح أن هناك اتجاه تجريبي جديد في الاستعانة بالفتاوى في إلقاء اللوم على شريحة من المواطنين وإنذارهم بالوعيد الإلهي بهدف تغطية العجز الحكومي عن حل تلك المشاكل المستعصية، ومن المستبعد أن يسهم هذا الاتجاه المتنامي في الارتقاء بالنزعة الأخلاقية لدى المواطنين، لأنه في حقيقة الأمر هو نفسه يفتقد إلى تلك النزعة الأخلاقية و الحس الإصلاحي، فقد كان الأولى به مواجهة الإخفاق الحكومي جنبا إلى جنب مع مواجهة فساد الجماهير.


عبدالرحمن مصطفى
القاهرة - مصر