واجه المسيحيون المشرقييون تحديات كبيرة في سعيهم للوصول الى (دولة مدنية حديثة)، تحقق لهم المواطنة الكاملة والمساواة السياسية التامة مع المسلمين، باعتبار (المواطنة والمساواة) تشكلان الركيزتين الأساسيتين للعيش المشترك في أي مجتمع يتصف بالتنوع الديني والقومي والمذهبي. فكما هو معلوم، ارتبط ظهور (حركة التنوير) و نشر الأفكار الديمقراطية والليبرالية وتطوير الفكر القومي العربي في بلاد الشام ومصر، في نهاية القرن التاسع عشر، بالمفكرين والمثقفين المسيحيين، لانفتاحهم المبكر على الثقافة الأوربية. وقد تركت حركة التنوير تأثيرات ايجابية على صعيد نشوء الأحزاب وانطلاق حركات التحرر القومي والوطني والانفصال عن الإمبراطورية العثمانية التي سوغت وشرعنت احتلالها للشعوب العربية، على مدى أربعة قرون، باسم (الخلافة الإسلامية). في مرحلة ما بعد انجاز الاستقلال الوطني، أدركت النخب الثقافية والسياسية المسيحية أهمية الدولة المدنية الحديثة في تجاوز حالة الانغلاق الطائفي والتكسر المجتمعي كمخرج مناسب لوضع المسيحيين المشرقيين (عرباً، أقباط، آشوريين، أرمن، موارنة، وغيرهم)، سكان المنطقة الأصليين، الذين حافظوا على ديانتهم المسيحية بعد أن تحول الكثير منهم الى الإسلام جراء المضايقات الناجمة عن تطبيق الشرع الإسلامي بعد الرسوخ السياسي واللاهوتي للإسلام. لكن مشروع الدولة المدنية الحديثة واجه تحديات كثيرة، ابرزها: موقف (الإسلام التقليدي) الرافض للحداثة والعلمانية. فقد تمسك هذا الإسلام بوضع دساتير وتشريعات للدول الناشئة، تعتمد (الشريعة الإسلامية) كمصدر أساسي للتشريع، وتميز بين المواطنين على أساس الدين والقومية، تفضل المسلم على غير المسلم، خاصة بالنسبة للسلطة (الحاكم يجب أن يكون مسلماً). بموجب هذه الدساتير أنزلت مرتبة المواطنة للمسيحيين و لغير المسلمين عامة وانتقصت من حقوقهم المدنية والديمقراطية وقيدت حرياتهم الدينية. كما أنها كرست مفهوم الأقلية والأغلبية وعمقت التمايزات داخل المجتمع الواحد، وبالتالي عطلت عملية الاندماج المجتمعي وقضت على فرصة الحل الوطني الديمقراطي للأقليات الدينية والقومية. اليوم، وقد مضى أكثر من قرن على انطلاقة حركة التنوير، تجد شعوب المنطقة نفسها بمواجهة مشروع (دولة دينية- إسلامية) ، يطرحها الإسلام السياسي تحت شعار (الإسلام هو الحل)، كبديل عن الدولة القومية المأزومة التي تقودها أنظمة الفساد والاستبداد. لبنان، بحكم تركيبته الطائفية المتكافئة الى حد ما من جهة، والبسيكولوجيا التاريخية للموارنة من جهة ثانية، لم يتقبل هذه الوصفة العربية الإسلامية من الدساتير. لذا تميز نظامه السياسي بالديمقراطية التوافقية بين طوائفه الأساسية، قادته المارونية السياسية بموجب الميثاق الوطني لعام 1943، حتى انفجار الحرب الأهلية 1975و ابرام ميثاق الطائف لعام 1989، الذي أنهى الحرب و قلص من النفوذ السياسي للموارنة, لصالح الطوائف الإسلامية عبر تحجيم صلاحيات رئيس الجمهورية.
مع بدء الحملة العسكرية الأمريكية الغربية على أفغانستان والعراق في أعقاب أحداث ايلول 2001، تحت شعار (الحرب على الإرهاب)، دخلت منطقة الشرق الأوسط عامة ومسالة الأقليات المسيحية خاصة، مرحلة جديدة تبدو أكثر سوءاً وتوتراً مما كانت عليه في الماضي، نتيجة المضاعفات، الأمنية والسياسية والاجتماعية، الخطيرة لهذه الحملة التي أججت العداء الآيديولوجي والعقائدي والتاريخي الكامن في الشرق العربي الإسلامي لأمريكا والغرب. هذا العداء بدأ يأخذ منحاً خطيراً مع تفجره على شكل صراع طويل، على من يحكم المنطقة، وربما لا حقاً على من يحكم العالم، بين الولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها الأوربيين من جهة، والتنظيمات الإسلامية المتشددة مثل (القاعدة)، زاعمة أنها تدافع عن الإسلام والمسلمين، من جهة ثانية. ويبدو أن مسيحيي الشرق سيدفعون الكثير، أو هم بدءوا يدفعون، ثمن هذا الصراع المفتوح، لا لذنب ارتكبوه وإنما فقط لأنهم مسيحيون. فعلى خلفية الرسومات الدنمركية ومحاضرة البابا بنديكتيوس السادس عشر كثرت في الآونة الأخيرة عمليات الهجوم والاعتداءات الإرهابية على حياة وممتلكات مسيحيين بينهم رجال دين، راهبة في الصومال وكاهن في تركيا وعدة قساوسة في العراق, كما أحرقت كنائس وأديرة في أكثر من عاصمة ومدينة عربية واسلامية قامت بها مجموعات إسلامية متطرفة.
حتى قضية الصحفي التركي، الأرمني الأصل، (هرانت دينك) الذي اغتيل في تركيا، هذا البلد العلماني في دستوره والمسلم في تقاليده وثقافته، على يد فتى تركي مسلم، في التاسع عشر من كانون الثاني 2007، وإن تبدو مختلفة في ظروفها بعض الشيء، لكن لا يمكن عزلها عن الإرهاب الممارس على المسيحيين المشرقيين من قبل التنظيمات الإسلامية المتطرفة، خاصة هناك معلومات تفيد بأن القاتل ينتمي الى إحدى المجموعات الإسلامية لها علاقة بقتل الكاهن (أندريا سانتورو) في الخامس من شباط 2006 في مدينة ترابزون التركية. وليس من المبالغة القول: أن هذه الجريمة، بأبعادها وأهدافها، الدينية والقومية والسياسية، تختزل، ليس محنة الأقلية المسيحية الصغيرة المتبقية في تركيا، فحسب، وإنما محنة الأقليات المسيحية في الشرق العربي الإسلامي عامة. فبالرغم من حبه الشديد لوطنه تركيا، ودعواته المستمرة للأتراك والأرمن الى المصالحة وتجاوز العداوة التاريخية بينهما، أدين (دينك) بتهمة تحقير الهوية التركية بموجب المادة 301 من قانون العقوبات التركي. وقد ذكر دينيك نفسه- في آخر مقال له (سأحارب رغم التهديدات)، نشرته جريدة النهار اللبنانية- أنه تعرض الى التهديد، وأن عدة صحف تركية شنت عليه حملة تتهمه بمعاداة الأتراك، وفي ذات المقال، أثار شكوكاً في نزاهة القضاء التركي، بعد أن أغلقت ملفات عديدة لكتاب أتراك مسلمين متهمين بذات القضية والمادة. والمثير في قضية دينك: ظهور القاتل، على شريط فيديو، وهو ملفوف بالعلم التركي وعٌمل كبطل قومي من قبل ضباط وجنود الشرطة التركية وهم يأخذون صوراً تذكارية معه. ونقل عن والدة القاتل قولها: ((ولدي قام بواجبه، وهو بطل يشبه علي آجا، الذي حاول قتل البابا يوحنا بولس الثاني في عام 1981. وهذا القتل هو هدية من ابني للشعب والأمّة التركية)). بلا ريب، هذا المشهد الاستفزازي وكلام والدة المجرم القاتل يدعمان وجهة النظر القائلة: أن مسألة الأقليات المسيحية في المجتمعات العربية والإسلامية هي قضية ثقافية، ارتبطت بمبدأ اللامساواة الدينية التي جاء بها الإسلام، قبل أن تكون قضية سياسية. بمعنى آخر إنها تتصل بالموروث الثقافي والاجتماعي التاريخي المتخلف للشعوب الإسلامية أكثر مما هي مرتبطة بطبيعة الحكم والأنظمة السياسية القائمة. لكن هذه الحقيقة قطعاً لا تعفى الأنظمة والحكومات العربية والإسلامية من مسؤوليتها عن سوء أوضاع مواطنيها المسيحيين وعما يلحق بهم من مظالم وتعديات. إذ هناك أكثر من معطى ومؤشر على أن هذه الحكومات ليست محايدة تماماً في سياساتها الداخلية وفي التعاطي مع مشكلات وقضايا شعوبها، وإنما هي تمارس في حكمها نهجاً طائفياً وقهراً قومياً، بأساليب وأشكال مختلفة. وإلا ما تفسير أن يقوم نظام عربي ما باستنفار كل أجهزته وقواته الأمنية ويشن حملة عسكرية عنيفة على المجموعات الإسلامية المتشددة عندما تعتدي على أحد أجهزته أو رموزه، في حين نجد ذات النظام يتحرك ببطء السلحفاة وبخطوات خجولة عندما تحصل مجزرة بحق مواطنين مسيحيين أبرياء في منازلهم أو في كنائسهم وهم يصلون. وتقوم وسائل إعلام النظام بتضليل الرأي العام المحلي والعالمي بحجج واهية، كالقول عن الإرهابيين: أنهم مختلون عقلياً أو لهم ثارات وخلافات قديمة مع الضحايا. هذا النهج الطائفي المتناقض مع أبسط وظائف الدولة ودورها في حماية أمن مواطنيها، هو المسؤول عن تلبد سماء المنطقة بغيوم الحروب الأهلية والعودة بها الى الزمن الرديء والانحدار الحاصل في القيم والأخلاق الوطنية، وزرع القلق واليأس في نفوس الاقليات المسيحية ودفعها للانكماش والانغلاق على الذات. فعوضاً من أن تقوم حكومات المنطقة بتحصين الأقليات وطنياً، من خلال مساواتها مع الأغلبية وتعزيز هويتها كجزء أساسي من الهوية الوطنية، نجدها تثير الشكوك حولها وبولائها الوطني لتبرر قمعها وتهميشها لها. وبالتالي فهي (الحكومات) تقدم الذريعة والعذر للدول الكبرى الطامعة بالتدخل في شؤون دول المنطقة لفرض هيمنتها عليها، وربما لتنفيذ المشاريع والخطط المعدة لها، خاصة في ظل التوجهات الجديدة للسياسة الدولية بعد أحداث ايلول 2001 والحرب على الإرهاب، التي تقوم على التدخل المباشر في المناطق الساخنة والمتوترة من العالم، مثلما حصل في (صربيا، العراق، أفغانستان، السودان، لبنان) وأماكن أخرى. بقي أن نقول في سياق هذه القضية:أن الأقليات الخائفة تستهويها نداءات الخارج، في حين الاقليات المطمئنة والمحصنة وطنياً تكون أكثر التصاقاً بالغالبية ولا تتجاوب مع التدخلات الخارجية.

كاتب سوري آشوري
مهتم بحقوق الأقليات

shosin@scs-net.org