في جميع دساتيرنا المكتوبة نحن متساوون أمام القانون في جميع الحقوق والواجبات، دون تمييز ودون فرق بسبب الدين أو القومية أو المذهب أو الجنس أو الأصل أو المعتقد أو الرأي أو حتى المنزلة الاجتماعية أو الاقتصادية، وورد النص مطلقاً، والمطلق كما يقول أهل القانون يجري على إطلاقه .
ومثل هذه النصوص غاية في الشفافية والإنسانية، وتنم عن انسجام ليس فقط مع حقوق الإنسان، إنما حتى مع أسس الديانات المختلفة في العراق ، حيث تؤكد على إن الإنسان مجردا من أي ملحق ديني أو قومي أو مذهبي، كرمه الله وفضله على العديد من المخلوقات تفضيلا.
(( ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبت وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا )) سورة الإسراء الآية 70
والمساواة التي يقولها النص مطلقة ومنسجمة مع قيمة الإنسان، وتتساوى فيها درجة المواطنة لدى المواطن مادام مواطنا عراقيا مهما كان دينه أو مذهبه أو قوميته.
وهذه النصوص الدستورية يفترض القانون والمنطق إن يكون لها علو على بقية النصوص القانونية، والعمل بها ووفقها ملزم للجميع بما فيهم البرلمان والحكومة، بل ويعبر عن صدق المنهج في تأسيس دولة القانون، ويجسد حقيقة المساواة، ولكن المحزن أن هذه المساواة نطبقها في العراق عمليا من خلال الانتقاص الملموس لكل عراقي يعتنق الدين المسيحي، وهو على هذا الأساس تابع، لايحق له تبوء العديد من المراكز المهمة بسبب نصرانيته، فيصبح مجرد اعتناق دين آخر سببا كبيرا في عدم المساواة رغم أنف الدستور.
ودولة مثل دولتنا تحاول أن تجسد منطق الدولة الدينية التي عفا عليها الزمن وتجاوزتها العصور وعافتها الأمم، تمنع أن يكون النصراني في العراق رئيسا للجمهورية أو وزيرا للدفاع أو قاضيا في المحاكم، والممنوعات التي تجسد انتقاص مواطنة العراقي المسيحي لامجال لتعدادها وهي كثيرة، وأكبر من حجم النص الدستوري، وليس للمسيحي العراقي أن يطالب بتطبيق النص الدستوري ومساواته في الحقوق والواجبات، إنما عليه الدفاع عن وجوده وبقاءه في العراق، فلم تزل تلك العقليات التي لاتعرف دستور ولاتفرق بين القانون والتعليمات تسود الشارع العراقي باسم الدين.
أما إذا كان الإنسان مندائيا أو ايزيديا فليكتب الله عليه السلام، ننسج الكلمات الجميلة والمنسابة في خطاباتنا، وإننا نضمن حرية العقيدة والممارسات الدينية للمسيحيين والأيزيديين والمندائيين، غير إننا نسلط عليهم من لايرحمهم ولايفهمهم، وهم في كل الاحوال مواطنين منقوصة قيمتهم الوطنية، ولايمكن إن يتساووا عمليا مع أبناء دولة تعتمد في تشريعها على دين واحد، فتنكر عليهم حقهم الإنساني في الشراكة الوطنية، ومادامت النصوص القانونية جميعها تؤسس من خلال عدم تعارضها مع ثوابت الدين الاسلامي، فهي بالتأكيد تهمل أو تنتقص من قيمة الثوابت المندائية أو الأيزيدية أو المسيحية، أو حتى اليهودية التي شطبها أهل الدستور عمدا من دستور العراق، تعبيرا عن الحرج والرفض الذي يشعر به فريق العمل في كتابة الدستور في اعتبار اليهود العراقيين، من هجر منهم أو من بقي في العراق مواطنين مشطوبين لايستحقون المواطنة وحق المساواة، لغل لم يزل في الصدور أن يتحمل يهود العراق كل ما قامت به الدولة العبرية العدوة والصديقة، وهو تحميل باطل وغير منصف.
وإذا كان الله قد كرم بني آدم دون إي إشارة الى أن هذا العراقي مسيحي أو مندائي، مسلم أو ايزيدي، فعلى أي أساس يكون التكريم في النص الدستوري، وعلى أي أساس يتم العمل في النصوص الدستورية بمنع المندائيين والأيزيديين والمسيحيين من المساواة في الحقوق، مع إن العديد ممن يرى أنهم في الحقيقة متساوين في الواجبات فقط.
منذ تأسيس الدولة العراقية وتشريع دستورها في العام 1925 تم تثبيت نص دستوري يقول في المادة السادسة، انه لافرق بين العراقيين في الحقوق إمام القانون، وأن اختلفوا في القومية والدين واللغة، ومنذ تأسيس تلك الدولة لم نكن نشعر مطلقا بتلك المساواة الصادقة والصريحة في تلك الحقوق لأبناء تلك الديانات، مع إن الدستور نص منح تلك الديانات مجالس روحانية للطوائف، ولوائح قانونية تحكم قضاياهم الشخصية، الا إن المساواة جعلت المشرع عاد ليلغي كل الحقوق ويختزلها في تعبير سواسية أمام القانون.
لايولى النصراني ولا المندائي ولا الأيزيدي ولاية يتمكن فيها من رقاب المسلمين.
( وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبيلا )(النساء:141)
فلا ولاية لقاضي من أبناء تلك الديانات على المسلمين، وبهذا لاتتحقق المساواة فيمنع إن يتولى أي منهم القضاء بكل أشكاله، حتى وأن كان في قضايا الأحوال الشخصية الخاصة بتلك الديانات، حيث يولى المسلم عليهم لتطبيق تلك اللوائح القانونية، ولايمكن لهم أن يصيروا ضباطا وقيادات في الجيش والأركان العامة أومسؤولين في الأجهزة الأمنية، كما لايمكن لأي منهم إن يتولى رئاسة الوزارة ، مع إن النصوص لم تشر الى منع أو ممانعة حيث اشترطت النصوص الدستورية مسألة اختيار رئيس الجمهورية من انه عراقيا بالولادة ومن أبوين عراقيين، وكامل الأهلية وأتم الأربعين من عمره، وذو سمعه حسنة وخبرة سياسية ومشهود له بالنزاهة والاستقامة والعدالة والإخلاص للوطن،وأخيرا غير محكوم بجريمة مخلة بالشرف ، ولكن هل يقبل البرلمان إن يختار أيزيديا أو مندائيا رئيسا للجمهورية ؟ هل يمكن إن ينتخب البرلمان رئيسا لمجلس النواب من المسيحيين العراقيين ؟ الواقع يعاكس النص الدستوري ويمنع تطبيقه .
وبات من الواضح أن تتم التفرقة بين المواطنين العراقيين من خلال اعتناقهم تلك الديانات غير الإسلامية، بصرف النظر عن أعدادهم ووجودهم وتضحياتهم وحضورهم الوطني، وبصرف النظر عن حقوقهم الشرعية والتاريخية، فالواقع يقول أنهم مواطنين لاترتقي مواطنتهم الى أخوتهم من أبناء الإسلام، وهم بهذا الأمر أقل درجة، فلا يمكن قطعا إن يكون رئيس الجمهورية مندائيا أو أيزيديا أو مسيحيا، وأن فكرنا باليهودية فلربما سنواجه باتهامات العمالة للموساد وموالاة أسرائيل الدولة اللقيطة والصديقة.
وعلى ضوء تلك الرؤى تتجسد الممارسات اللاأنسانية تجاه أبناء العراق من أهل الديانات عير الإسلامية ، وعلى ضوء تلك المنزلة الحقيقية التي لن نتجاوزها تحت ظل شعارات لفظية، وعبارات لاتغني ولاتسمن من جوع، تضع أهل تلك الديانات في ميزان المحاصصة الطائفية ليتم استصغارهم وتحجيمهم، وهي الحقيقة التي تسود العقل الحاكم في الشارع العراقي، ومع إننا لانزعم إننا في طريقنا الى الدولة الدينية، الا إننا وعبر الزمن الحديث منذ تأسيس الدولة العراقية، نؤكد على المساواة اللفظية دون العملية، وقبل ذاك كانت الدولة العثمانية ( المسلمة ) تؤكد ذلك حين كانت جميع تلك الديانات تحت سلطة ورحمة السلطان أمير المؤمنين والخليفة، وبالرغم من إن الحياة تؤكد إن فصل الحكم والسياسة عن الدين بات ضروريا، لم نزل نتمسك عمليا بحالة الخلط والخبط، ونتهم كل من يريد توقير الدين وأبعاده عن شوائب وسلبيات العمل السياسي بالإلحاد والزندقة والعمالة.
(( مر النبي محمد ( ص ) ذات يوم على بعض ملاك بساتين النخيل فوجدهم يؤبرونها [يلقحونها] فقال لهم لو تركتموها لكان أصلح. امتثلوا لنصيحته، لكن نخيلهم فسدت، فجاؤوه محتجين. فكان رده عليهم :quot; ويحكم إنما أنا نبيكم في أمور دينكم، أما أمور دنياكم فأنا وإياكم فيها سواء. ))
وإذا كان مفهوم الوظيفة العامة يلتقي مع مفهوم الولاية العامة في إطار أنّ كلاّ منهما ينطبق على سلطة الحكم، والتدبير، أي الاستحقاق الشرعي للتصرف، وفق ضوابط وحدود تهدف إلى تحقيق مصالح عامة على النحو الذي يكيفه النظام، في ضوء فلسفته وأهدافه، فأن هذا المفهوم يتحدد في إطار الدولة الدينية، ويتعارض مع مبدأ تكافؤ الفرص المكفول دستوريا للعراقيين، دون أي اعتبار للدين أو المذهب أو القومية، وبالتالي فأن الحق المكفول لكل عراقي من أبناء المسيحيين والمندائيين والأيزيديين واليهود لايمكن العمل به أو التعامل من خلاله خلافا ليس للنص الدستوري أنما للواقع العملي الذي يفرضه منطق الحكم والسلطة.
وأذ تشتد العمليات الإجرامية التي تستهدف أبناء المسيحيين والمندائيين والأيزيديين من أبناء العراق، ويتبرقع القتلة وتلك المجموعات بشعارات الدين حيث تنتمي زورا الى الإسلام، لغرض دفعهم لمغادرة العراق أو ترك دياناتهم، دون إن تجد تلك الأيادي الآثمة ردعا متناسبا مع حجم جريمتها، وكما لاتلقى سوى الاستنكار الخجول من رجال الدين،لتستمر صفحة تلك العمليات الإجرامية مع كل الغبن والتهميش الذي يلقيه المواطن العراقي غير المسلم.
علما بأن قتل غير المسلم يعد في الشريعة الإسلامية معصية وكبيرة من كبائر الذنوب، فقد روى البخاري عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال : قال النبي محمد صلى الله عليه وسلم : (( من قتل معاهدا لم ير رائحة الجنة ))، فعلى أي سند وأساس يقوم هؤلاء بتأسيس جرائمهم باسم الدين والطائفة والمذهب ؟
إنّ الإسلام من حيث المبدأ ينهى عن قتل النفس، قال تعالى (مَن قَتلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفسٍ أَوْ فَسادٍ فِي الأَرْضِ فَكأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً) (سورة المائدة/ 32) وقال تعالى: (وَلاَ تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ) (سورة الأنعام/ 151) والنفس هنا تشمل المسلم وغير المسلم.