يمكننا أن نعين ونخصص شكل الرقيب العربي عبر كيفيته، حيث نجد أن هنالك رقيباً صارماً وآخر هشاً وحيناً آخر كسولاً أو جاهلاً حتى بشروطه الرقابية. هناك نماذج كثيرة لا تعد أو تحصى لأشكال هذا الرقيب. لكن الصورة الأكثر وضوحاً لهذا الرقيب هو قدرته التخيلية التي تقدمها لنا أمثلة من التاريخ الديني والسياسي وأولها حكاية الماعز.
تعتبر حكاية الماعز في العراق واحدة من غرائب هذا الرقيب وقدرته التخيلية. الخبر الصحفي الذي أنتشر عام 2006 يخبرنا، أن هنالك رجل دين في أحدى المدن العراقية صرح بفتوى تقضي بقتل الماعز إذا لم يقم مالكها بتغطية عورتها. لقد أعتمد رجل الدين هذا ـ كما يبدو ـ على منطقه الأرسطي التالي: بما أن العورة حرام ومؤخرة الماعز عورة، فيجب أن تستر أو يقام عليها الحد.
أما الحكاية الثانية فهي حكاية رقابة السلطان عبد الحميد الثاني في العهد العثماني، وهي واحدة من المرويات المثيرة والكثيرة في هذا المجال، حيث جرى مصادرة كتاب الكيمياء من المدارس لأنه يحتوي على الرمز الكيميائي للماء H2O، فقد تصوره الرقيب أنه شفرة ضد السلطان عبد الحميد نفسه. وفسره بالشكل التالي: H يعني السلطان حميد و 2 الثاني وO صفر وبهذا أستنتج أن هذا الرمز يعني: أن السلطان عبد الحميد الثاني يساوي صفر.
هذه العقد الرقابية و التي أفضل تسميتها بعقدة عبد الحميد و عقدة مؤخرة الماعز هي نماذج بسيطة توضح لنا مسيرة سياسية ـ دينية رقابية طويلة، ترتبط بمقولات هي الأشرس على طول الخط وهي: السياسة من جهة والمتمثلة أغلب الأحيان بتصور شخص الرئيس أو الحزب الحاكم للحياة ومن جهة أخرى الدينية والمتمثلة ببعض رجال الدين، و كذلك الجنسية والمتمثلة عموماً برأي الجمهور كحارس للتقاليد والعادات المدعومة عادة سياسياً ودينياً. هذه العقد هي الأكثر حضوراً في العصور الحديثة والأكثر خطراً منذ مطبعة بولاق وحتى ماعز العراق.
لكن الرقابة ليست منتجاً عربياً أو إسلامياً فقط إنما عرفت رحلة الرقابة والمنع والقمع شعوب كثيرة ومنذ القدم. العصور الوسطى في أوروبا تعتبر من أشرس مراحل الرقابة في التاريخ البشري، حيث كانت سيطرة الكنيسة على الحكم تؤسس لرحلة مأسوية للكتاب والفكر والإبداع في رحى المنع والحرق، مرة تحت ذريعة السحر وأخرى تحت ذريعة البدعة. ورغم ذلك ظلت الأرض تدور! ولم يسجل لنا التاريخ نقطة فاصلة وحاسمة يكسبها الرقيب إنما المتهم ونقصد به غاليلو غاليليه ( 1564ـ 1642م).في القرن العشرين تعتبر ألمانيا من أشهر دول العالم في هذا المجال حيث قامت النازية الألمانية الرايخ الثالث ( 1933ـ 1945م) في 10 مايو 1933 بحرق مؤلفات عديدة لكتب حديثة وتراثية من الإبداع الألماني تحت ذريعة معاداتها للروح الألمانية. لكن اليوم أصبح 10 مايو من كل عام، هو أحد أهم أيام الوقوف أجلالاً أمام الكتاب ومبدعيه، حيث نجد في ألمانيا مكتبة عامة للكتب المحروقة ومتحف كذلك، إضافة إلى طبعات متنوعة لهذه القائمة.
في العالم العربي والإسلامي لم تنته الحرائق الرقابية، فمازال الرقيب منذ بدء الطباعة يمارس لعبة القص والشطب على الإبداع تحت ذرائع لا تعد أو تحصى تختلف حسب الدولة ونظامها. في مصر ـ مثلاً ـ الرقيب الأخطر بعد السياسي هو الرقيب الديني والمتمثل بالأزهر، وتاريخه مع المنع و التأويل للنصوص ليس بخاف على أحد، وبالذات منذ حصول الأزهر في بدايات القرن العشرين على موافقة رسمية من الحكومة المصرية quot;كحامي للإسلامquot;. في السعودية الرقيب هو الديني الذي يمتلك زمام السلطة، أي الرقيب السياسي ـ الديني، وهذا جعل له شرطة تسمى شرطة دينية تتابع وتترصد المخالف ومعاقبته. أما في ظل سيطرة نظام البعث الدكتاتوري على مقاليد السلطة في العراق ( 1968 ـ 2003م) فكانت الرقابة هي رقابة سياسية في عمومها ورقابة شرسة بكل ما للكلمة من معنى وتشبه الرقابة النازية في الكثير من فصولها، ولكن بعد 2003 و تحول نظام الحكم إلى ديمقراطي في العراق وصعود القوى الدينية تحت وصايا الاحتلال الأمريكي، ظهرت أشكال رقابية جديدة على المجتمع العراقي وأشدها الديني والطائفي والقبلي. اليمن ومعظم دول الخليج تعيش تحت ظل نظام رقابة سياسية دينية قبلية طائفية، ولا يختلف الأمر في شرق أفريقيا العربي، حيث تشهد ليبيا ومنذ عقود فصلاً مأسوياً مع الرقابة والمنع وتقابلها تونس بقائمة من المحرمات السياسية والجزائر بخلطة غريبة من الخطوط الحمراء، وتتفرد المغرب ببعض التسهيلات التي ترتبط برغبات السلطة الحاكمة ونزواتها، ولذلك يعيش هذا البلد في رقابة مد وجزر. أما لبنان، فهي البلاد الوحيدة التي نجد فيها إمكانية النشر والكتابة بشكل معقول، فهي الأفضل حالاً بين الدول العربية ورغم ذلك هنالك عثرات كثيرة تحددها نوعية الظرف السياسي.
هذا التنوع والاختلاف في الشكل الرقابي وظروفه المرتبط أصلاً بنوعية نظام الحكم في البلاد العربية، يجعلنا نحاول أن نحدد بشكل عام هذه الأشكال الرقابية، فهي ورغم إنها رقابة ولكنها تتحرك ـ كما نتصورـ بطريقة مختلفة من بلد لآخر. هذه الرقابات يمكن تصنيفها بالشكل الآتي:
الرقيب السياسي: هذا الرقيب يحرس الخطوط الرئيسية من مقولات وقيم ومفاهيم التي تحددها السلطة الحاكمة، حيث يمكن أن تكون الخطوط حمراء إيديولوجية بحتة كما لدى حزب البعث في العراق وسوريا أو دينيةـ سياسية كما في السعودية، وقد تكون خلطة رقابية غرائبية كما في ليبيا تحت حكم معمر القذافي. هذا الرقيب يضع العراقيل أمام أي منتج يخالف أيديولوجيا أو فكر السلطة الحاكمة، بحيث يتم منع وشطب كل ما لا يوافق الرؤية الأساسية للقوى الحاكمة. هذه الرقابة هي من الغرائبية بحيث تثير أحياناً السخرية لقدرتها على التلفيق السياسي والإنساني. على سبيل المثال يسيطر حزب البعث القمعي في سوريا منذ عام 1963 على مقاليد الحكم ويحدد شروطه على شكل العمل الإبداعي ومضمون المنتج بحيث لا تخالف إيديولوجيا الحزب، ولهذا لا يجد المرء اليوم سوى ثلاث صحف رئيسية في البلاد هي تابعة للحزب والسلطة وأخرى محلية في المدن والضواحي وأيضاً تدور في رحى الحزب. لكن في ليبيا حيث تسيطر أفكار الدكتاتور معمر القذافي وكتابه quot; الكتاب الأخضرquot; منذ 1969 عاماً على البلادِ، فلا يمكن تجاوز المقولات الأساسية للكتاب الأخضر، وأهمهما عدم الانتماء إلى أي حزب أو الكتابة عن أي حزب على الأرض بطريقة ايجابية، وذلك لأن أحدى أهم مقولات هذا الكتاب تقولquot; من تحزب خانَquot;. وعليه، فأن أي كتاب يمجد حزب البعث يعتبر في ليبيا من المحرمات ويتعرض للمصادرة وكاتبه للاعتقال بتهمة الخيانة.
الرقيب الديني: رقابة تعتمد بالدرجة الأولى على قوتها المأخوذة من الجماهير المتدينة في العالم العربي بما أن الدين الأساسي في أغلب الدول العربية هو الإسلام. لهذا كانت الرقابة الدينية دوماً موجهه ضد الأفكار المخالفة لهذا الدين أو التي يتصور بعض رجال هذا الدين عدم توافقها مع النصوص الدينية. هذه الرقابة تختلف كذلك من دولة إلى أخرى. بعض القوى الدينية وجدت مكاناً لها لممارسة سلطتها على النص الإبداعي عبر الاعتراف الحكومي بمؤسساتها كما في مصر واعتراف الدولة quot; بالأزهر وقوتهquot;، بحيث تشكل اليوم مشاكل الرقابة الدينية واحدة من أخطر القضايا المصرية الحديثة والتي تلعب ليس على وضع شروط رقابية على الكتب فقط إنما كذلك على الغناء والرقص والتصوير والنحت والعلوم كذلك.
في السعودية يشكل الدين وهو المذهب الوهابي، أصل الدولة ورمز سلطتها رسمياً منذ 1932، أي منذ إعلان السعودية كدولة باسمها quot; الدولة العربية السعوديةquot;، على الرغم من أن المذهب الوهابي كان له الدور الأهم في شكل هذه المنطقة السياسي منذ القرن الثامن عشر. هنا تمتزج الرقابة الدينية السياسية بشكل واضح. أن تاريخ هذا الرقيب يشابه كثيراً التاريخ المسيحي المأسوي مع الإبداع في القرون الوسطى، حيث تتعدى هذه الرقابة وجودها الجغرافي كدولة وتلعب على مقارعة الآخر في بقاع أخرى والتاريخ يسجل لنا غزوات وهابية كثيرة على دول الجوار وتحطيم نماذجها المقدسة التي لا توافق هذا المذهب إضافة لرقابتها الصارمة على الإبداع في السعودية.

في العراق بعد 2003 ظهرت كذلك بوادر رقابة دينية خطيرة، حيث أطلقت اليد علانية لحركات إسلامية شيعية وسنية بتحطيم وتفجير محلات بيع الشرائط الموسيقية وكذلك صالونات الحلاقة باعتبارها quot; مظاهر غير إسلاميةquot;، وغيرها من أمثلة هذه العنف الرقابي في العراق والتي باتت في منذ عام 2003 كثيرة.
الرقيب الجماهيري: هذا الرقيب هو رقيب غير مرئي أن صح التعبير. انه رقيب خفي يشكل وجوده داخل حلقة الجمهور ويخرج منها، فهو حامي العادات والتقاليد التي تفرض على بقية الرقابات أن تراعي مقدساته و مقولاته و تدافع عنها وهي في عمومها ترتبط بالعادات والتقاليد التي تدعم عادة دينياً، حتى وأن لم تجد لها مرجعاً في النص المقدس، وأحياناً أخرى من السياسي حتى وأن لم توافق توجهات هذا السياسي نفسه. أن الرقيب الجماهيري رقيب غرائبي، و رقابته هي في العموم الجنس والدين وما يتشكل حولهما والسياسة في حالات خاصة جداً. هذا الرقيب هو الذي يؤسس لمشروعية الرقيب الديني و السياسي أحيانا، ويكرس الديني والسياسي غالباً مشروعيته عبر تمثيله في الحياة العامة.
الرقيب الداخلي أو الذاتي: أن رحلة الرقابة الطويلة والعريضة في العالم العربي والإسلامي صنعت بمرور الأيام ما يمكن تسميته بالقريب الداخلي أو الرقيب الذاتي. الكثير من الكتاب وبالذات ممن يعملون في مؤسسات الدولة العربية وإعلامها يعيشون تحت هاجس الخوف من الرقابات وتبعاتها في دواخلهم. بات بعضهم هو الرقيب الأمثل لتلك الرقابات، بحيث تحول شخصياً هذا الكاتب أو المفكر إلى مقص روحي بذاته. الكثير من الكتاب العرب لا يكتبون حول الكثير من القضايا إلا بحجاب لغوي يخفي الكثير أو يمارس البعض القص والشطب والحذف بنفسه على نصه. هذا نفسه يتعرض له الناشر الذي يتطلب منه كما في سوريا والأردن وليبيا وبعض دول الخليج الحصول على موافقة السلطات المختصة على نشر أي كتاب جديد. و بدلاُ من المرور بإجراءات رقابية طويلة وعريضة أخذ بعض الناشرين يمارس الرقابة بنفسه على الأعمال التي ينشرها ليتخلص من إشكالية رفض النشر من الجهات الحكومية. وليس بغريب أن يتحول المثقف العربي وسط هذا الرعب الرقابي، إلى رقابي كتابي وليس رقابي شفاهي على ذاته، حيث انه من الحالات المتعارف عليها في الوسط الثقافي العربي، أن المثقف العربي جريئاً شفهياً، حيث ينقد ويحلل مختلف القضايا الدينية والسياسية والاجتماعية العربية الإسلامية شفهيا وسط أقرانه، ولكنه كتابياً لا يتجرأ أن يمارس ذات النقد والتحليل خوفاً على حياته أو خوفاً من فقدان وظيفته أو خوفاً على حياة عائلته ولأسباب أخرى عديدة، ولهذا تبدو كتابات أغلب الكتاب العرب وكأنها عن عالم متخيل لا دخل له بالعالم العربي والإسلامي وقضاياه ولا دخل له بما يتحدث به الكتّاب فيما بينهم لحظات السمر. أحياناً يبدو لي، بأنه لو عاد الإخباريون العرب الذين كانوا يدونون أحاديث ليالي السمر للأدباء والمفكرين العرب الأوائل، ودونوا ما قاله ويقوله المثقف العربي في ليالي السمر في القرن العشرين وما بعده، لتغيرت خارطة الثقافة العربية والإسلامية المعاصرة بشكل جذري.

***
الرقابات (السياسية، الدينية، الجماهيرية، الذاتية) ليست أكثر من محاولة تعميم ضرورية، وذلك لأن التعميم الآخر الذي يرى أن الرقابة وكأنها رقابة واحدة هو إشكالي لعدم قدرته على التفريق بين هذه الأشكال و حركتها في كل بلد ومعرفة نوعية خطابها كذلك. لكن في تصورنا أن هنالك رقابة أخرى تحددها نوعية المرحلة التاريخية، وفيها تجتمع أحياناً كل الرقابات دفعة واحدة. ونفضل هنا تسميتها بـ quot; رقابة المرحلةquot; وهذه الرقابة متحولة وفق تحولات المقولة السياسية المهيمنة: في مرحلة قومية جمال عبد الناصر( 1956 ـ 1970م) مثلاً و هيمنة فكرة القومية على الكثير من النظم السياسية والمعرفية في العالم العربي، نجد انخفاض الكم الكتابي حول موضوعة الوطنية و نجد أغلب الكتابة العربية تسير في رحى هذه المهيمنة، بحيث بدت الوطنية موضوعة منبوذة وبذيئة ليس في الأطر السياسية إنما كذلك في تنظير أغلب الكتّاب العرب. الأمر لم يختلف كذلك في مرحلة البعث العراقي خلال الثمانينات ومستلزمات المرحلة القومية البعثية وصورتها التي تمثلت في الحرب مع إيران ( 1980 ـ 1988م)، حيث نجد هنا رقابة على نوعية ما يطرح وما يقدم من رؤى و تمرير لأفكار غرائبية مثل quot; الشيعي البشعquot; مقابل quot; السني الجميلquot;، والتي وجدت لها مراكز بحوث ومعاهد دراسات عديدة في العالم العربي وتحت تمويل عراقي خليجي. لقد استطاعت مقولات هذه المرحلة أن تترك أثرها على العقلية العربية، حيث تحولت موضوعة الشيعي والسني اليوم إلى مشكلة شائكة. في ليبيا نجد ذلك واضحاً كذلك حسب مراحل السلطة الليبية حيث كانت ولفترة طويلة تسيطر فكرة القومية العربية على الخطاب العام ولكن تحولت فكرة القومية العربية إلى تهمة جنائية بعد قرار الدكتاتور الليبي بدمج ليبيا بالقارة السوداء تحت ما يسمى بالقومية الأفريقية نهاية التسعينات.
أن هذه الرقابات ورقابة المرحلة، هي نتاج طبيعي في تصورنا لمجتمعات تعيش في ظل أنظمة حكم دكتاتورية أو أنظمة دينية قبلية، تختلط فيها كل الحقول المعرفية والتكوينية بشكل مخيف. لكن ما يهمنا هنا، هو القوى الدينية السياسية وموقفها من الرقيب الآخر و موقفها من المبدع المغاير. أن الرقابة السياسية المصرية في الزمن الناصري مثلاً، قامتْ بمنع تداول كتب سيد قطب وزجت به إلى السجن ثم أعدمته بتهمة التآمر على قلب نظام الحكم ولم تكتف بمنع كتب حركة الأخوان المسلمين ومؤسسها سيد قطب إنما سعت إلى مطاردة أعضاء هذه الحركة إلى آخر بقاع الأرض. لكن من جانب آخر سعت السلطة السياسية المصرية بقيادة السادات ( 1970ـ 1981م) إلى الاستفادة من أعضاء حركة الأخوان في قمع الشيوعية، ولهذا كانت الرقابة شبه معدومة على الكتاب الديني يومها، ولكن وبعد انتهاء السلطة السياسية من عدوها الشيوعي انقلبت على الأخوان و أعلنت عليه كل الرقابات الممكنة والمحتملة والمتصورة. في العراق بقيادة صدام حسين تقوم السلطة السياسية في زمن الحرب العراقية ـ الإيرانية، بمنع تداول كتب أغلب علماء الشيعة و كتب العلامة الشيعي محمد باقر الصدر( 1935 ـ 1980م) والزج به في السجن ثم إعدامه وتمهيد الشارع العراقي لاستقبال حركة المذهب الوهابي التبشيرية وفتح الباب لمؤلفاتها داخل العراق. ولكن بعد تحول السعودية إلى عدو وبالضبط بعد 1991 وتحرير الكويت، تعلن الحكومة العراقية رقابة صارمة على المنتج الوهابي في العراق.
هذه الأمثلة تعتبر بسيطة جداً قياساً بما عرفته السياسية والدين من أدوار غرائبية تبادلية في العالم العربي والإسلامي. لكن مشكلة الحركة الدينية التي عانتْ من الرقابة السياسية، تتحول بدورها إلى رقيب شرس بمجرد الاقتراب من سلم السلطة، والأمثلة عديدة كما في فلسطين تحت حكم حركة حماس والعراق تحت حكم الحركات الشيعية والسنية على السواء، وكذلك في السودان والجزائر وليس السعودية الوهابية وإيران الشيعية وأفغانستان الطالبانية إلا نماذج أخرى لإشكالية هذا الرقيب الديني ـ السياسي.
الإبداع داخل سلطة دينيةـ سياسية لا يختلف في حقيقية الأمر عن الإبداع داخل سلطة سياسية قمعية غير دينية. الإبداع يعيش حالة مأساوية بكل ما للكلمة من معنى ـ حسب ما أثبتته التجارب التاريخية الحديثة ـ وذلك لأن تبادر الأدوار الرقابية بين الحقلين السياسي والديني هو السائد. فمن ناحية سياسية نجد عقدة عبد الحميد هي السائدة، ومن ناحية دينية نجد عقدة مؤخرة الماعز. واجتماع الحقلين في سلطة دينية هو اجتماع لكل الرقابات دفعة واحدة. أن وصول بعض الحركات الإسلامية عن طريق الانتخاب الديمقراطي أو الانقلاب العسكري إلى السلطة لم يشكل لهذه القوى والحركات أي تغير في طبيعتها الرقابية لهذه اللحظة التاريخية من الزمان.