من أكثر المواقف سخرية في الحياة اليومية اللبنانية أن يأتيك جابي الكهرباء حاملاً بيده فاتورتك الدسمة بينما التيار مقطوع عن منزلك، فيضيء quot;الأنتريكquot; أو المصباح اليدوي ليبشرك بالمبلغ الذي يتعين عليك دفعه وquot;إلاّ نضطر إلى قطع التيار الكهربائي عنكمquot;!!!!! الكهرباء مقطوعة بطبيعة الحال منذ ثلاثة أيام لعطل ما أصاب شبكة الحي. وبما أنّ معظم ما في حياتك يرتبط بالكهرباء فلا بد لك من أن تدفع فقد اعتدت منذ زمن بعيد على استغلال دولتك لك.

تدفع لكن الكهرباء ما زالت كما هي غير متوفرة. ودوام عملك يبدأ بعد ثلاث ساعات. تسأل صاحب المولّد الكهربائي الوحيد بعادة أسبوعية أن يمدّك بخط اشتراك من بركاته فيعتذر لك بخبث وقد تحول إلى مدير لشركة الكهرباء نفسها؛ quot;للأسف لا يوجد.. عليك أن تنتظر بضعة أيام أخرىquot;. لا مشكلة تنتظر فأنت من جماهير الإنتظار والصمت.

طبعاً لا بدّ من حلّ سريع لمشكلتك يؤمن لك مكاناً ينعم بالكهرباء وجهاز كومبيوتر وخط إنترنت. وبما انك في الضاحية الجنوبية لبيروت فلا شك أن مطلبك سهل جداً حين تصطف مقاهي الإنترنت واحداً تلو الآخر بشكل غريب إن دلّ على شيء فهو يدلّ على بطالة يعانيها شباب المكان. تمضي إلى أوسعها مساحة وأسرعها بالنسبة للكونيكشن ndash;بالمناسبة ألم يبتكر بعد فقهاء اللغة مصطلحاً مرادفاً للكونيكشن، شأن الحاسوب والمرنات!؟. تجده مكتظاً حاراً كأن شمساً جديدة قد افتتحت فيه. لكن لا مفر من العمل هناك رغم كل شيء لتفاجأ بكونيكشن سلحفاتي. يا الله ماذا ستفعل ولم يتبق سوى ثلاثة أرباع الساعة على بدء عملك!؟

تشير بوصلتك إلى quot;الحمراquot; حيث تعلم جيداً أنّ بيروت ومنذ زلزال العام 555 الذي أطاح بمعهد القانون، مستثناة من نعمة التقنين التي تهبها لنا شركة الكهرباء في الضواحي. جيد.. تصل المكان بالفعل وتبدأ عملك أيضاً؛ الكرسي جيد، الشاشة كبيرة ومسطحة، الجهاز سريع والكونيكشن quot;طيارةquot;.. تنتبه أنّك في القسم المخصص للمدخنين حين تكاد تختنق.. تسأل عن مكان آخر.. لا يوجد الآن لماذا لم تطلب مسبقاً؟ يسألك مدير المكان.. ما الذي أوحى لك أنني من المدخنين؟ تسأله بدورك.. لا يجيب.. لا مشكلة تجلس مكانك وتعمل وتنهي عملك اضطراراً قبل انتهائه الفعلي بنصف ساعة بعد أن يطلب منك الموظف ذلك بسبب إقفال المكان. لا تثير مشكلة معه.. تدفع وتخرج إلى الشارع الكبير حيث تأمل أن تقلك سيارة ما إلى منزلك في الضاحية الجنوبية..

تختلف الصورة تماماً عن المرة الأخيرة التي شاهدت فيها الشارع ضاجاً بكلّ أنواع المتحركات الآلية والبشرية.. فراغ لا متناه تقع فيه فيغرقك دون أن يكون هنالك من ينتشلك من نعاسك وتعبك ورائحة الدخان تعبق في خلايا مخيخك فتبدو نظراتك شاردة وتحركاتك غير متوازنة.. تكتشف في تلك اللحظة كم هو بعيد منزلك عن المكان.. تعود فتهمس لنفسك؛ لا لم أتركه كذلك!! لم يكن كذلك نهاراً حين تتوفر مختلف وسائل النقل منه وإليه؛ سيارات أجرة، باصات، فانات (ميكرو باص)، وحتى دراجات نارية لصديق من الأصدقاء. بمن ستتصل والساعة تقترب من مؤخرة الضوء اللبنانية!؟

تقف فترة قصيرة.. تصاب باليأس.. تمضي بحراً نحو كورنيش المنارة لعلّ الهواء جنوبي.. تنعشك نتفة منه أضاعت طريقها في ذلك الجو العابق بينما تغرق في عرض البحر وأنت راسخ في مكانك عند أطلال quot;الدرابزينquot; القديم وأشلاء الجديد فكأنها نسمة من جنتك المنشودة.. quot;لك يا منازل في القلوب منازلquot;.. تنهي كوب النيسكافيه في يدك وقد تناولته أملاً في استيقاظ وتخدير معاً.. quot;ليتها كانت معي!quot;.. تستعيد خط سيرك نحو الحمرا مجدداً.. هذه المرة تتفاجأ بعواميد النور قد أصاب شعاعها تحركات بشرية لم تعهدها في ليلتك الطويلة تلك.. تتنهد ارتياحاً أكثر من مرة لتنقطع آخرها حين تتيقن حقيقة الحشد أمامك الذي لم يكن سوى بعض عناصر قوى الأمن الداخلي يقيمون حاجزاً لإيقاف السيارات التي لا وجود لها أصلاً.. تشعر بسخرية تجاههم لكن خيبة أملك كانت أقوى..

غريب فعلاً لماذا تنأى بنفسك عن كل ما يشير إلى الدولة والنظام!!؟ لماذا تشعرك رموزها بكل هذا النفور!!؟ أهي خدمتك العسكرية أم ظلمها الإجتماعي أم محسوبياتها أم محاصصاتها أم فسادها أم سياسيوها المتعفنون على جدرانها منذ الأزل!؟ أهو كلّ ذلك!؟ أم بكل بساطة كهرباؤها التي لا تزورك إلاّ لماماً!؟.. نعم هو كذلك يبدأ الأمر دوماً من أصغر الأشياء.. يا حبذا لو باستطاعتك يوماً أن تخطف الكهرباء حين تأتيك بوقارها المفترض فتحبسها وتمنع عنها الضوء حتى تستسلم لك وتسلم نفسها إليك..

لقد بدأت هلوساتك فعلاً وها قد قطعت كثيراً من حواجز الدرك من الحمرا عبر فردان وصولاً للأونيسكو.. تصعد أخيراً نحو ضاحيتك هانئاً بها متخيلاً فيها جنتك التي تركتها هارباً هذا النهار كارهاً لها وغاضباً منها.. تصل أخيراً.. تقطع مسافة كي تدخل المنزل.. الكلاب تحيط به من كل جانب وعداوتك معها تماثل ما تكنه لنظام دولتك.. تعفو عنك هذه المرة.. تصعد درجة ثم درجتين.. تدير المقبض.. هييييييي هنالك كهرباء.. تصرخ كذلك وتنسى كل ما قد كان.. هنيئاً لك بها.