الآشوريون شعب قديم، يعود تاريخهم الى أكثر من ستة آلاف عام في بلاد ما بين النهرين، حيث أسسوا فيها حضارة عريقة و أقاموا دولة قوية حتى غدت امبراطورية عظيمة توسعت شرقاً وغرباً،امتدت الى اقاصي الصين.ويعلل المؤرخون سقوط الامبراطورية الآشورية 612 ق.م،على ايدي الميديين الفرس، بتوسعها الزائد وقيام الملوك الآشوريين بسبي شعوب المستعمرات ونقلها الى بلاد ما بين النهرين، كما فعل نبوخذ نصر بيهود فلسطين في القرن الثامن ق.م.لا شك، تعد هذه من الأسباب الاساسية لتفكك الامبراطورية الآشورية واندحارها، لكن هناك عوامل أخرى ساهمت وبشكل كبير، ومازالت، في تقويض الوجود الآشوري وانحساره والمهدد اليوم بالتلاشي والاندثار عن موطنه التاريخي،ابرز هذه العوامل الموقع الاستراتيجي والحيوي لبلاد ما بين النهرين الذي جعلها هدفاً لمعظم الامبراطوريات القديمة والحديثة، وساحة صراع وحروب في مختلف العصور والأزمنة بين جيوش الامبراطوريات الطامعة في السيطرة عليها والقادمة من الشرق والغرب، آخرها جيوش الامبراطورية الأمريكية وحلفائها الغربيين التي غزت العراق في آذار 2003.طبعاً علينا أن لا نغفل دوماً الخصوصية الدينية والعقيدة المسيحية للشعب الآشوري التي انعكست سلباً عليه.اذ شكلت(المسيحية) سبباً اضافياً في تعرض الآشوريين لمزيد من المذابح والمحن.


مع اندلاع الحرب العالمية الأولى 1914،وقدوم الجيوش الأوربية لتفكيك الامبراطورية العثمانية، انتعشت آمال الآشوريين وغيرهم من شعوب المنطقة الواقعة تحت الحكم العثماني في الانعتاق والتحرر من حكم المستعمرين. وقد زادت آمال الآشوريين بالتحرر والاستقلال بإعلان مبادئ الرئيس الأمريكي(ويلسون)الأربعة عشرة 1918 التي نادت بحق الأمم والشعوب الواقعة تحت الحكم العثماني بتقرير مصيرها واقامة كياناتها القومية الخاصة بها.كذلك بابرام اتفاقية(سيفر)لعام 1920 التي تبنت وأقرت مبادئ ويلسون.جدير بالذكر أن(القضية الآشورية) كانت قد برزت ابان الحرب الأولى وادرجت على جدول عصبة الأمم. لكن جرت الرياح بما لا تشتهي السفن الآشورية،حيث قضت استراتيجية بريطانيا،التي قادت الحرب ضد السلطنة العثمانية،أن لا يكون للآشوريين كيان سياسي، وانما اقتلاعهم من مناطقهم وجرهم تحت وطأة المذابح إلى مناطق أخرى بغية تسخيرهم لحماية المصالح الاستراتيجية والاستعمارية للتاج البريطاني.طبعاً لم تتمكن الزعامات الدينية والقيادات التقليدية الآشورية آنذاك معرفة ألاعيب وخفايا السياسية البريطانية في المنطقة.وقد تلاشت أحلام الآشوريين كلياً في إقامة (كيان قومي) لهم،ولو على جزء من ارضهم التاريخية (بلاد ما بين النهرين)، بالإعلان عن اتفاقية (سايس بيكو) التي وقعت سراً بين بريطانيا وفرنسا عام 1916 والتي رسمت الخريطة السياسية للمنطقة من غير أن تأخذ بعين الاعتبار المستقبل السياسي والإنساني للآشوريين وحساسية وضعهم، خاصة في تركيا العثمانية التي لها مع مسيحيي الشرق تاريخ حافل بالدم والدموع والويلات، ابرز محطاته عمليات الترحيل القسري والابادة الجماعية عام 1915التي قتل فيها نحو مليون ونصف مليون أرمني ومئات الألوف من الآشوريين(سريان/كلدان) وعشرات الألوف من اليونان.تخلي بريطانيا عن الآشوريين ووقف دعمها لقضيتهم في (عصبة الأمم) دفعتهم للتمسك بدولة العراق التي اعلنت عام 1921 ومساندتهم لها. ففي قضية الخلاف مع تركيا حول الموصل (نينوى) وقف الآشوريون إلى جانب العراق في الاستفتاء الذي أجري من قبل عصبة الأمم عام 1924، وكان لموقف الآشوريين الأثر الحاسم في عودة الموصل إلى العراق.وفي مؤتمر عام للآشوريين انعقد في (العمادية) يومي 15/16 حزيران 1932، حضرته معظم زعاماتهم المدنية والدينية، طالب المؤتمرون: بضرورة تخلي تركيا عن جميع المناطق الآشورية التي ضمتها ابان الحرب والحاقها بدولة العراق.


بعد الحرب العالمية الثانية واستقرار الأوضاع السياسية واستقلال الدول المستحدثة في الشرق الأوسط،تراجعت كثيراً الطموحات القومية والسياسية لمن تبقى من الآشوريين.اذ بدءوا يدركون الواقع السياسي الجديد الذي افرزته الحروب العالمية ويتعاطون معه بايجابية،خاصة في الدول التي وفرت لهم هامش مقبول من الحريات والحقوق الدينية والاجتماعية ونعموا بشيء من الأمن والاستقرار فيها،مثل سوريا والعراق.فبالرغم من استمرار سياسات التمييز القومي بحقهم لم يبد الآشوريون تحمساً للأحزاب والتنظيمات السياسية والحركات القومية الآشورية التي ظهرت في النصف الثاني من القرن العشرين.في حين سارعت النخب الآشورية(السريانية) الانخراط في مختلف الأحزاب والحركات الوطنية واعتنقت الأفكار والعقائد الاشتراكية والديمقراطية التي تدعوا الى الحرية والمساواة بين المواطنين والى اقامة دولة الحق والعدل و القانون،واصبح الآشوريون يشغلون مناصب سياسية وادرية رفيعة في العراق وسوريا.لكن قدر العراق والعراقيين أن لا يرتاحوا من الحروب والصراعات.ومع كل حرب جديدة،داخلية كانت أم خارجية، يتقلص الوجود الآشوري وينحسر حضوره أكثر فأكثر في الجغرافيا والسياسة. واليوم هناك خشية حقيقة من أن الحملة الأمريكية الراهنة على العراق بكل مضاعفاتها الخطيرة ستخلي هذا البلد من سكانه الأوائل، الآشوريين(سريان/كلدان) ومن المسيحيين عامة. اذ تؤكد احدث التقارير الواردة من داخل العراق أن نحو ثلثي المسيحيين العراقيين،معظمهم من الكلدوآشوريين، تركوا العراق منذ بدء الغزو الأمريكي له في آذار 2003 وذلك هرباً، ليس من جحيم الحرب الذي يطال كل العراقيين فحسب، وانما من الموت والخطف والقتل الذي يلاحقهم في منازلهم وأماكن عملهم وفي الشوارع وحتى في الكنائس وهم يؤدون الصلاة، حيث تستهدفهم مجموعات ومنظمات سلفية تكفيرية متطرفة، بعضها عراقية وبعضها الآخر عربية اسلامية مستوردة- ارهابيون بلا حدود- تقوم آيديولوجيتها السياسية والدينية على رفض الديانات والعقائد الأخرى وعلى ضرورة اخلاء المجتمعات العربية والاسلامية من غير المسلمين.تستغل هذه المنظمات ظروف الحرب والاحتلال وغياب سلطة الدولة في العراق لتنفيذ خططها واجندتها السياسية والدينية.


تحت ضغط كابوس الحرب والارهاب، والخوف من مستقبل مجهول وسعياً منها لانقاذ ما يمكن إنقاذه من الوجود الآشوري والمسيحي في العراق، وبتشجيع من القيادات الكردية العراقية،تحركت في الآونة الأخيرة العديد من الأحزاب والتنظيمات والمرجعيات الدينية والمدنية الآشورية والمسيحية، داخل العراق وخارجه، وعلى أكثر من صعيد، لإيجاد منطقة آمنة للآشوريين وللمسيحيين العراقيين تتمتع بحكم ذاتي في اقليم (سهل نينوى)، ذات الغالبية الآشورية والذي يمتد الى حدود المناطق الكردية في الشمال، وقد نزحت اليه آلاف العائلات المسيحية من الوسط والجنوب.بغض النظر عن النوايا والأهداف الحقيقة أو المخفية للزعامات الكردية من دعمها للمطالب والحقوق الآشورية والمسيحية في سهل نينوى، تبدو حظوظ تحقيق حلم الآشوريين بمنطقة حكم ذاتي آمنة قليلة وضعيفة جداَ،وذلك لأسباب ذاتية وموضوعية معروفة.لا جدال على أن أوضاع الآشوريين في الشمال العراقي، الذي يتمتع بالحكم الذاتي تديره التنظيمات الكردية الرئيسة،هي مقبولة قياساً لوضعهم المأساوي في المناطق الأخرى من العراق.لكن مع استمرار الصراعات المذهبية والعرقية في المناطق العربية واخفاق العملية السياسية وتعثر المصالحة الوطنية الشاملة في العراق من الخطأ التسليم بنجاح وبقاء التجربة الفدرالية والاطمئنان للمستقبل السياسي والأمني للاقليم الشمالي.اذ ان خطر اندلاع حروب عربية كردية في العراق مازال قائماً على خلفية التناقضات القومية و الخلافات العميقة حول القضايا السياسية والاقتصادية والجغرافية والأمنية العالقة( حدود الاقليم الكردي،مستقبل القوات الكردية(البشمركة)، قضية (كركوك) الغنية بالنفط وذات الغالبية التركمانية).

واذا ما نشبت هذه الحرب ستدخل فيها، عسكرياً وبشكل مباشر، دول اقليمية لها مخاوفها المشروعة على أمنها الوطني.في مقدمة هذه الدول تأتي تركيا التي اعلنت مراراً بأن قيام دولة كردية في الشمال العراقي هو خط احمر لن تقبل بتجاوزه،كما هددت بالدفاع عن تركمان العراق وحماية مصالحهم وحقوقهم القومية والسياسية في كركوك،لهذا من غير المستبعد أن تذهب تركيا بعيداً في موقفها من قضية كركوك، مثلما فعلت في جزيرة قبرص 1974 لأجل الاتراك القبارصة.طبعاً،أي تدهور أمني في الشمال العراقي و حروب جديدة يعني المزيد من الويلات والمآسي للآشوريين.وقد افصح لنا الكثير من الآشوريين والمسيحيين العراقيين عن مخاوفهم وقلقهم على مستقبلهم وأمنهم في الشمال العراقي بالرغم من شعارات التآخي والعيش المشترك التي ترفعها الأحزاب الآشورية والكردية العراقية والخدمات التي تقدمها الحكومة الكردية للآشوريين النازحين الى الشمال.فالذاكرة التاريخية لآشوريي العراق تختزن الكثير من الويلات وصور المآسي التي لحقت بهم في ستينات وسبعينات القرن الماضي جراء عصيان وتمرد الحركة الكردية بزعامة ملا مصطفى البرزاني وحروبها مع الجيش العراقي والتي سببت في ترك آلاف العائلات الآشورية لقراها في الشمال العراقي ونزوحها الى بغداد والمدن الأخرى، وقد استولى الأكراد على تلك القرى الآشورية المهجورة واستوطنوا فيها.واذا كانت حروب الآخرين قديماً في بلاد ما بين النهرين قوضت الوجود الآشوري،فان الحروب العربية الكردية القادمة ستخلي العراق كلياً من الآشوريين(سريان/كلدان) ومن المسيحيين عامة. فالجسم الآشوري المتهالك لم يعد يتحمل المزيد من الجروح والحروب،وانما هو بحاجة الى(منطقة آمنة) توضع تحت (العناية الدولية) المشددة، بعد أن تخلت عنه (الرعاية الوطنية).

سليمان يوسف يوسف

كاتب سوري آشوري
[email protected]