النعمان في ذكراه الحادية عشر: 26 إبريل 1909 ndash; 27 سبتمبر 1996

بمناسبة الذكري الحادية عشر لرحيل أحمد محمد النعمان إختارت إيلاف نص رسالة من الفيلسوف الراحل عبدالله القصيمي كتبها إلى النعمان في 19 أغسطس 1974م.
ومقدمة الدكتور علي محمد زيد في الكتاب الذي حققه بعنوان quot;أحمدمحمد النعمانquot; سيرة حياته الثقافية والسياسية.

نص رسالة القصيمي

quot;إلى الرجل بكل تفاسيره، ونماذجه وفي مواجهاته لكل الظروف والحالات والأحداث.. إلى شامخ التاريخ والهامة والذات والقلب والعقل.. إلى الأستاذ أحمد محمد النعمان.. لقد ازددت حباً واحتراماً وتقديراً لجلالة الملك فيصل، ولكل آل سعود، ولكل رجال المملكة، لما أضفوا عليك من حب وحنان واهتمام ورعاية، ومن كل ما أنت به جدير وله أهل.. ولقد أدركت الفرق جيداًُ بينهم وبين هؤلاء العسكر المتعاقبين على سرقة الحكم والسلطان، بالانقلابات المتآمرة البائسة القبيحة.. وإنكم لتعلمون أني كنت أدرك كل هذه الفروق بين هؤلاء وهؤلاء قبل أن نصاب بكل هذه التجارب المريرة الرهيبة التي أوقعها بنا وبكل العالم العربي هؤلاء العساكر العرب، السارقون للحكم والسلطان والمجدquot;.

quot;أيها الإنسان الكبير.. علمت أن هناك فكرة تقول بانتقالكم إلى القاهرة للإقامة..لا..لا.. أيها الإنسان الكبير.. إن مكة والمدينة والرياض يرفضن ذلك.. وإن استقبال جلالة الملك فيصل وآل سعود لكم وحبهم ورعايتهم وتكريمهم واهتمامهم بكم ليرفض هذه الفكرة.. وإن ذكرياتكم عن القاهرة، ومن هذه الذكريات اعتقال رجال دولة اليمن حينما جاءوا زواراً وضيوفا وباحثين عن المشورة وعن الحب والمنطق والصدق والإنقاذ والفروسية العربية.. نعم.. إن هذه الذكريات لترفض هذه الفكرة.. ترفضها بغضب وكرامة وانفجاع بل وذهول.. إن منطق وأخلاق وضمائر جميع الأشياء لترفض ذلك، ترفض دون أن تقبل حتى مجرد الحوار فيه.. إن هواي أن تكون في القاهرة ولكن حبي ومنطقي يرفضان بل وينكران هواي هذاquot;..

مقدمة الدكتور علي محمد زيد:

مضى ما يقرب من سبعين سنة منذ أن بدأ أحمد محمد النعمان سيره الحثيث الإستثنائي نحو التمرد على بيئته التقليدية الموروثة، للبحث عن مداخل للتغيير والتحديث، دون أن يطلع المؤرخون والمهتمون على حقائق تلك السيرة غير العادية، بحيث لا تكاد الأجيال الجديدة تعرف عته شيئا، أو لا تعرف عنه وعن العصر الذي عاش فيه سوى القليل. وأقول العصر الذي عاش quot;فيهquot; لأنه بدأ كفاحه في عصر مختلف تماما عن يمن الحاضر على الرغم مما يعيشه يمن اليوم من تخلف وصعوبات. ولقد تكلم كثيرون ممن جاءوا بعد النعمان؛ quot;أو quot;الأستاذquot; النعمان كما سماه الإمام أحمد حميد الدين وكما أصبح يعرف فيما بعد، حسب قول النعمان تفسهquot;؛ فأصابوا أو أخطأوا، وقيل الكثير عن المرحلة التي مارس خلالها العمل التربوي والنشاط السياسي، لكن

النعمان مع صديقه محمد سيف ثابت ونجله عبدالله
المؤرخين والمهتمين ظلوا ينتظرون شهادته من مصدرها الأصلي، أي منه شخصيا، وليس من خلال ما ينقل الأخرون عنه، أوما يعتقدون أنه فعل. ذلك لأن أية شهادة أخرى لا تسد الفراغ التاريخي الذي يتركه صمته الطويل. لأن شهادته لأ تسرد حوادث تلك الفترة فحسب، بل ترسم الخطوات الأولى الحائرة، والمفعمة بالطموح النبيل، في سيرة أولئك الرواد الذين فتحوا أعينهم على عصور الظلام فوجدوا القبول بها مهانة وذل، واستمرارها طريق إنقراض وفناء. ولم يكونوا حين بدأت الأسئلة القلقة تعتمل في خيالهم يمتلكون منهجاً متاحاً أو حتى محتملاً للرفض والمقاومة والتغيير، ولا يتوجهون إلى جمهور قابل للإستجابة لدعوتهم، يؤيدهم ويحيطهم بدفء مشاعره، بل غامروا وحاولوا، وطرقوا أكثر من باب، وتخبطوا وتمردوا، وتشردوا وسجنوا، وأخطأوا وأصابوا، حتى نجحوا بمرور الأيام القاسية المعذبة في إختراق ركام الظلام المخيف، وامتلاك جرأة تحدي حصار الإستبداد والعزلة، وبذر بذور التغيير بقدر ما استطاعوا وبقدر ما أتاحت لهم الأوضاع الصعبة التي عملوا فيها.

والحق أن الأستاذ النعمان يعد أنموذجاً لعدد قليل من الطلائع الأفذاذ الذين يمثلون جسراً بين القديم والجديد ومحاولات التمرد عليه للإنتقال إلى العصر الحديث. فقد بدأ تكوينه الفكري في العقد الثالث من القرن العشرين بالدراسة الدينية التقليدية في زبيد كما تواصلت منذ ما يزيد على ألف سنة دون أن يطرأ عليها سوى القليل من التغيير، يلبدأ فيما بعد أولى محاولات التجديد بالتمرد على زبيد نفسها، ثم شرع في منتصف الثلاثينات بنسج صلته ومن ثم صلة اليمن بالعالم الحديث، عن طريق نهل المعرفة الجديدة من القادمين من عدن ومما يتسرب عبر هذه المدينة الرائدة من مطبوعات جديدة صدرت في الحواضر العربية التي سبقت اليمن في التفتح على العالم الحديث مثل القاهرة وبيروت. وحين اضطره الإستبداد للخروج إلى القاهرة التقى هناك بمثقفين يمثلون الأمل العربي في نيل الحرية، من أمثال الفلسطيني محمد علي الطاهر، صاحب جريدة الشورى، وشكيب أرسلان، quot;أمير البيانquot; والمثقف العربي الداعي لتحرر العرب والمسلمين من السيطرة الإستعمارية، وغيرهما من الداعين لنهضة حضارية عربية ربما لم تتحقق بعد. وهكذا تعمقت صلته بدعوة التحديث والتنوير، ولعل هذا القدر الأصيل من تأثير حركة التنوير العربية ما إبتعد به عن تأثير القوى التقليدية على الرغم من محاولات الإخوان المسلمين التأثير عليه، وما نقله إلى مواقع الإستنارة التي لن يتخلى عنها قط في جميع مراحل حياته، وجعله دائما يفضل المشاركة الشعبية حتى ولو اتخذت طابع تمثيل الوجاهات ما دامت الشكل المتاح للإنتخابات والتمثيل الشعبي. وهو أيضا ما سيجعله دائما على غير وفاق مع الحكم العسكري حتى ولو كان بإسم الثورة والتغيير، لينتهي به المطاف قبيل اعتزاله السياسة نزيل السجون الحربية في مصر يلخص تجربته المريرة في التعامل مع أنظمة القمع في عبارة مأساوية في هزلها تقول: quot;أنه بعد أن أمضى عمره مطالبا بحرية القول قد أرغم على أن لا يظالب سوى بحرية البولquot;.
وهذا دون شك ذروة المأساة التي واجهت ليس رواد التنوير العرب فحسب، بل كل عربي طالب بالتغيير، وهو ما يلقي الضوء على الإخفاق الذي أصاب حركة النهضة العربية، وجعل المنطقة العربية تدخل القرن الواحد والعشرين وهي تواجه أسئلة النهضة والتنوير وكأنها ما تزال في مطلع القرن العشرين.

النعمان مع الرئيس الراحل عبدالله السلال والشيخ عبدالله الأحمر
كان الأستاذ النعمان قد خرج من السجن إلى بيروت في أواخر سنة 1967م حين كانت بيروت واحة لحرية التفكير، عله يستمد من أنفاسها الحرة مدداً يتغلب به على دواعي الإحباط واليأس. وحين كانت القوى الجمهورية الجديدة تصد حصار صنعاء واثقة من النصر ومن قدرتها على الدفاع عن وعود الحرية التي مثلها النظام الجمهوري، في وجه توقع الأعداء والأصدقاء سقوط هذا النظام، ربما لاحت في خيال النعمان تجربة زميله محمد محمود الزبيري الذي نفذ بأعجوبة من صنعاء المحاصرة سنة 1948م ليعيد بعد سقوط الحركة الدستورية تنشيط المعارضة من جديد. ولذلك لم يقبل النعمان إعلان quot;الجمهورية الثانيةquot;؛ (حسب تسمية موفقة أقتبسها المرحوم عبدالله البردوني)؛ تعيينه عضواً في المجلس الجمهوري في 5 نوفمبر 1967، مفضلاً مواصلة الدور الذي تمرس على أدائه بحيث لم يعد قادراً على مغادرته حتى وهو يتولى منصباً رسمياً، أي دور المعارض المستقل برأيه، غير المستعد أن يسكت على ما يراه غير صحيح. وكان متوقعاً أن ينتهي به هذا السلوك إلى اختيار المنفى ليقضي بقية حياته حراً، قادراً على التعبير عن مشاعره إذا أراد والسكوت عن قناعة، قبل أن ينأى بنفسه عن مشاغل الحياة كلها.

ولم يكن يرغب في كتابة مذكراته لو لا أصدقاء يكبرون كفاحه من أجل التنوير، وفي مقدمتهم يوسف أبش، وهو مثقف سوري على غير وفاق مع النظام في سوريا كان يعمل أستاذاً متميزاً في الجامعة الأمريكية في بيروت. فقد أقنعوه بأن يتولى quot;قسم التاريخ الشفهيquot; في هذه الجامعة تكليف من يسجل سيرته على أشرطة صوتية. وقبل العرض بعد تردد، مشترطاً أن لا تنشر هذه المذكرات إلا بعد وفاته. وهكذا تم تسجيل أربعة عشر شريطاً، أضيفت اليها صور بـquot;المايكرو فيلمquot; للجزء الأكبر من كنز الوثائق التي جمعها. ولعل من الإتصاف أن نسجل هنا للأستاذ النعمان بذل جهد أستثنائي (يل معجز في تلك الظزوف) لجمع الوثائق وحفظها منذ الثلاثينات حتى أصبحت صورها اليوم محفوظة في مكتبتين في بيروت ولندن، عسى أن تلقى الإهتمام بنشرها ذات يوم. ولنا أن نتصور أي وعي تاريخي بأهمية الوثائق، وأي جهد خارق (في بلد يعيش ظروف قاسية) قام به شخص معارض غير مستقر، متنقل بين السجون والمنافي القسرية والإختيارية، للحقاظ على وثائق لم تبذل المؤسسات العامة أو الخاصة أو الأفراد أي جهد لجمعها والحفاظ عليها، إنه فعلاً أمر يستحق الإكبار والإعجاب.

ومن المؤسف أن الحركة الثقافية في اليمن لم تبرأ بعد من داء رفض التعدد. ينطبق ذلك على المؤسسات وعلى الأفراد. ولذلك تجد كل شخص غير مستعد لقبول روايات الآخرين عما شهدوا من أحداث، وما بدا لهم أو كما عرفوا أو سمعوا، ويتوقع منهم أن لا يقولوا إلا ما يعرفه هو، وما يناسبه، وما يمكن أن يتخيله. أما أن يكتبوا الصفحة الخاصة بهم من كتاب التاريخ، كما عاشوه أو كما بدا لهم أو كما تمنوا أن يعيشوه، فذلك مدعاة لمعارك لا تنتهي، قد لا تقتصر على معارك الكلام. وفي هذا الجو الذي تطغى عليه روح نفي الآخر يغيب الجهد الموضوعي للمؤرخ المحايد، لأن أحداً لا يعترف بدوره ولا بحقه في جمع الروايات والأدلة وفحصها والمقارنة بينها، ودراستها دراسة معمقة للوصول إلى أصح صياغة للنص التاريخي. وهذا ما يجعلني أتمنى على الجميع أن يتحلوا بالتسامح، وأن يقبلوا من النعمان أن يروي سيرته، وأن يكتب الصفحة الخاصة به من كتاب تاريخ اليمن الحديث، وأن يعطوه فسحة لأن يعبر بحرية عن أرائه وعن رؤاه. فهو لم يعد طرفاً في المماحكات السياسية الميكافيلية، ولا خصما ينبغي أن تحد كل الأسلحة للإطاحة به. ولم يعد على قيد الحياة ليحاجج ويدافع عن أرائه، ويشرح ما بدا غامصاً أو غير مفهوم أو حتى غير مقبول. لقد أدى دوره ومضى. والحق أته كان دوراً رائداً وعظيماً سواء إتفقنا معه في بعض ما يقول أم اختلفنا.

ومما يحسب له أنه سجل هذه المذكرات الشفهية في ربيع سنة 1969 وقد أنتصرت الجمهورية، ومع ذلك عبر بوضوح عن موقفه الحقيقي، مثلاً من قيام ثورة سبتمبر 1962 حتى بعد هزيمة خصومها، ولم يقم quot;بأثر رجعيquot; بإجراء جراحة تجميل لذلك الموقف.

وقد قمت بتكليف من المركز الفرنسي للدراسات اليمنية قي صنعاء، بإعداد نص المذكرات للنشر، خاصة وأن من تولى تفريغ الأشرطة غير يمني، على الرغم من الجهد الكبير الذي بذله ويستحق الشكر والثناء، صعب عليه أحياناً فهم أسماء الأعلام والأماكن اليمنية والنطق اليمني لبعض الكلمات. كما أن التسجيل يعاني من بعض الفراغات، ومن طبيعة الحديث الشفهي أن لا يصاغ في جمل مكتملة طويلة نسبياً على الرغم من حرص الأستاذ النعمان على الحديث بلغة فصيحة. ونوعية التسجيل قي بعض الأحيان غير واضحة، وكان الأستاذ النعمان أحياناً يقطع رتابة الحديث ويتغلب على التعب ببعض الطرائف الممتعة، مما قد يقطع تسلسل الفكرة. وقد تم التسجيل خلال أيام متباعدة لبضعة أشهر quot; من فبراير إلى مايو 1969مquot;. وكان الأستاد أيضاً يتحدث على سجيته من الذاكرة، وعلى نحو متقطع مما يؤدي أحياناً إلى الإستطراد أو التكرار، لكن كل أستطراد يكشف عن معلومات أضافيه وعن أحداث أخرى، وقد يوسع في مجال الرؤية. ولعل مما زاد في التكرار أن إبنه الشهيد محمد الذي تحمس لهدا العمل، عندما إطلع على الأشرطة المسجلة وجدها لا تحيط بجميع القضايا التي يعرف أن والده يستطيع الحديث عنها. وربما كان واضع الأسئلة الإضافية التي سجلت إجاباتها في آخر شريط، لأنها أسئلة صاغها شخص مطلع وتختلف عن الأسئلة السابقة التي يبدو من صياغتها أن من وجهها شخص غير مطلع على تفاصيل سيرة النعمان. وقد كان الأستاذ النعمان يتحدث عن أشخاص وأماكن وأحداث حاضرة حضوراً قوياً في ذاكرته بحيث لا تحتاج إلى تعريف أو توضيح. وهو ما استدعى أن أهتم بالتوضيح والتعريف حتى أسهل على القارىء العادي، وبخاصة من الأجيال الجديدة ومن غير اليمنيين، قراءة هذا النص المهم. وقد واجهتني منذ البداية مشكلة الشكل الذي ينبغي أن يتخذه عملي. واستقر الرأي على أن أحرص على بقاء نص النعمان كما هو في صورة إجابة على أسئلة طرحها عليه آخرون فأجاب عليها بتوسع أحياناً وبإيجاز أحياناً أخرى، حسب نوع السؤال ومزاج اللحظة وتداعي الذاكرة. وتركت عبارات النعمان كما هي إلا حين يستدعي الأمر بعض التدخل لإكمال الجملة أو إيضاح الفكرة دون المساس بالمعنى. فهل وفقت؟؟

والعق أن إنتظار القراء لهذه المذكرات قد طال. وإني أتوجه بالشكر للمركز الفرنسي للدراسات اليمنية قي صنعاء على إهتمامه بتحقيقها ونشرها. وأتوجه بشكر خاص للصديق الكاتب والمترجم فرانسوا بورجا، مدير هذا المركز على حماسته لإخراج هذا النص، وعلى الثقة التي منحني إياها، وعلى الدور الذي يقوم به، بما عرف عنه من حيوية ومثابرة وحب للعمل، في جعل المركز الذي يديره علامة مضيئة من علامات التعاون الثقافي الفرنسي.