المشكلة الإقتصادية في مصر، كل المشكلة، هي إن أرباب المال جبناء: لا يتنافسون فيما بينهم فتكون منافسة متكافئة، أو يطمعون ببعضهم البعض فيكون أمرا مفهوما، وإنما هم يطمعون في من هم أضعف منهم مادياً بما لا يقاس، ويربحون الملايين فيما عينهم على الجنيهات المعدودة التي يتقاضاها العامل عندهم فيتحايلون ويسلكون مثل أي quot;صبي حراميquot; لكي يسرقوا منها ما يقدرون عليه. جبناء وصغار، ليس غير.
***

الضجة التي أحدثها إضراب عمال مصانع الغزل والنسيج في مدينة المحلة الكبرى متأتية من حجمه الكبير وليس لكونه حدثا فريدا، فالإضرابات والإعتصامات العمالية في مصر لم تنقطع طوال السنوات الأخيرة، وتصاعدت طرديا مع تصاعد عمليات بيع القطاع العام الى الشركات الخاصة والتهام حقوق المواطنين المادية والإجتماعية واستهتار أرباب العمل بحقوق عمالهم. ومع إن الإعلام الرسمي يصر على وجود أغراض سياسية لهذه الإضرابات إلا أنها جميعا حصلت بسبب جشع غير طبيعي ونصب واحتيال من قبل أصحاب الشركات. إن الشهادة الأخيرة التي حصلت عليها مصر من البنك الدولي بوصفها من أسرع الدول في التخلص من قطاعها العام يعني من الجهة المقابلة أن مصر هي من أسرع الدول في تحويل عمالها الى متسولين، ونقلهم من أماكن العمل الى الشارع. فبيع شركات القطاع العام لا يصاحبه نقل الإلتزام بحقوق العمال المادية (رواتب، علاوات ومكافآت) والإجتماعية (ضمان صحي، تقاعد، إصابات العمل..)، وحتى في حالة النص على مثل هذا الإلتزام فإن quot;المشتريquot; متأكد من أنه نص روتيني فارغ من المعنى في ظل الفساد الشامل الذي يتيح الإفلات من أي قانون. وبالفعل فإن كثيرا من الإضرابات العمالية قامت بسبب عدم تنفيذ حكم قضائي حصل عليه العمال ضد أرباب العمل؛ فإن كان القضاء في صف العمال فإن الأجهزة التنفيذية، بما فيها جهاز الشرطة والأمن، في صف من يدفع أكثر، فتكون القصة هكذا: رب العمل يسرق جهد عماله فيخالف بذلك قانون العمل، فيشكيه العمال الى القضاء؛ يربحون الدعوى وتلزم المحكمة رب العمل بدفع حقوق العمال؛ يرتكب رب العمل مخالفة ثانية بعدم تنفيذه الحكم القضائي (مع مخالفات أخرى كالرشوة ليمتنع الجهاز التنفيذي عن متابعة تنفيذ الحكم)؛ في أثناء ذلك كله تسلك الحكومة وكأنها لا تعلم شيئا؛ يعتصم العمال أو يتظاهرون للمطالبة بتنفيذ القانون وعندها فقط يتحرك الجهاز التنفيذي ولكن للقبض على العمال بتهمة التخريب! فانتازيا سوداوية يعيشها المصريون كل يوم وتخفيها الحكومة بغربال من الأكاذيب البائسة. وهذه الحالة يمكن أن تكون رمزاً للحالة العامة في كل مصر: فما تحاول الحكومة التهرب منه هو حقيقة إن التحركات المطلبية الجماهيرية العفوية والحركة الوطنية لا تنوي تخريب الدولة المصرية بل بالعكس هي تطالب باتباع الدستور وتطبيق القوانين الموجودة على أقل تقدير، وأن من يخالف هذه القوانين ويخطط للإلتفاف على الدستور هو النظام نفسه: وما حكاية التغيير الدستوري الأخير الهادف الى تمديد بقاء الأقلية الحاكمة والذي مرر بالقوة رغم المقاطعة الشعبية الواسعة له سوى نموذج واحد من هذه المحاولات.
***

مثل كل مرة يحتج فيها فقراء مصر على تجويعهم هيأت أجهزة الحكم قائمتها المملة تلك: مخربون! عملاء للأعداء! ( أي أعداء يقصدون هذه المرة وموسكو لم تعد شيوعية والسلطة نفسها حليفة لأميركا وصديقة لإسرائيل؟!) إنقلابيون! تنظيمات سرية!.. الخ. فيما جهز خبراء الأمن quot;الوثائقquot; وquot;الأدلةquot; التي تثبت تخطيط قادة الأحزاب لنشر الفوضى أو حتى للإستيلاء على الحكم. أما quot;مدراءquot; النقابات الحكومية فقد استنفروا مهاراتهم في quot;الفهلوةquot; لمحاولة شق صف العمال. فيما ألزمت الأقلام والأصوات المأجورة بساعات عمل إضافي لكشف الجشع والشر المبيت والحسد الذي ينطوي عليه العمال وتمجيد الحِلم والنزاهة والشرف (وخصوصاً الشرف!) الذي يتحلى به السادة الوزراء والمدراء في المصانع quot;المنكوبةquot;.

سيقال كل شيء عما هو حوالي القضية الجوهرية ولا شيء عن القضية نفسها: أن سرقات جماعية تجري في كل يوم لجهود العمال، وأن حقوق الأخيرين في المكافآت والعلاوات والأرباح يتم ابتلاعها منهجياً، وأن لا شيء يحصل لتحسين الأوضاع وكل شيء يحصل لإزادته سوءا.


في ما عرف بانتفاضة الخبز، 17 و 18 يناير 1977، التي انفجرت عقب قرار السادات رفع الدعم عن السلع الرئيسية خضوعا لشروط البنك الدولي، إعترف وكلاء الأمن أمام القضاء بأنهم كلفوا بالقيام بأعمال تخريب لكي تنسب الى المتظاهرين، أي quot;تدبيرquot; تهمة لهم. هكذا كانت الخطة، فلم يكن من المعقول إتهام المتظاهرين بالإعتراض على قتلهم تجويعاً، وهي الحقيقة البسيطة الكامنة وراء الإنتفاضة والتي أكسبتها إسمها. ويبدو أن هذا تقليد سائر في جهاز الأمن المصري تتوارثه عناصره بمعزل عن من يذهب ومن يجيء على كرسي السلطة. ودور بقية مؤسسات الحكومة هو تلقّف منظور جهاز الأمن للأحداث ونشره بحيث تغدو الدولة كلها quot;أمنquot;: حتى الصحافة الرسمية ووسائل الإعلام تنشط في ترويج ذلك المنظور فتقلد أساليب quot;الأمنquot; في تلفيقه التهم بأن تلفق تحقيقات وتقارير quot;من أرض الواقع!quot; وتشتري أصوات الفنانين والكتاب لتثبت شيطانية الشعب المعترض على تجويعه وملائكية مجوّعيه! والذي ساعد الملفّقين ـ سواء من quot;الأمنquot; أو من المسوقين لمنظوره ـ في نشر اتهاماتهم هو وجود نشاط سياسي مؤثر بل وقيادي في تلك الأحداث (أعني 1977)، كان أبرزها ـ وأكثرها تعرضا للأذى ـ هو حزب العمال الشيوعي المصري. لكن بعد الإنكفاءة الشاملة، التي طالت أكثر من اللازم، لعموم اليسار المصري بين انشقاقات لا نهاية لها وإحباط لا قرار له، وتزامنا مع سياسة الإنحناء للريح التي لجأ إليها الأخوان المسلمون بعد الهجمة السلطوية الأخيرة عليهم، لم يعد هناك مفر من الإقرار بأن الإضرابات والإعتصامات العمالية الكثيرة التي شهدتها مصر في السنوات الأخيرة، ومنها إضراب عمال المحلة هذه الأيام، هي جماهيرية عمالية صرف، بريئة من أي توجه سياسي وخالية من أي تنظيم عقائدي ما، الأمر الذي يضع الأجهزة الأمنية في موقف لا تحسد عليه بسبب شحة التهم السياسية التي يمكن أن ينسبوها الى العمال المضربين! وهذا ما يفسر التلميحات التي صدرت من جانب الحكومة ونقاباتها عن quot;طمعquot; العمال وquot;شرهمquot; الذين زينا لهم استغلال طيبة الإدارة وسهولة استجابتها لمطاليب العمال السابقة فطمعوا بالمزيد... وإلى آخر هذه الأفلام.
***
الصراحة، من يزور مصر هذه الأيام لن يحتاج الى فطنة خاصة لكي يلاحظ أن الأمور تجري صوب أن تغدو مناسبات مثل رمضان، الأعياد، الأعراس وكل أنواع الفرح مقصورة على فئة قليلة جدا من المجتمع، محرّمة على الملايين. الناس في مصر تعبانة... رأيت هذا بأم عيني. الناس هناك يفعلون كل ما يقدرون عليه في سبيل أن لا تنهار قيمهم، فيما النظام يفعل كل ما يقدر عليه إقتصاديا واجتماعيا لدفعهم الى هذا الإنهيار. إن العمال المضربين في مصانع المحلة، والآلاف غيرهم، يتقاضون رواتب شهرية لا تكفي الفرد لأسبوع واحد فكيف إذا كان هذا الفرد رب أسرة؟


الصراحة، لم يبلغ التوحش في استغلال وتجويع الشعب في مصر ما بلغه تحت النظام الحالي، الذي يصر على التعمية عن هذا الواقع المريع ببيع الأكاذيب والأوهام: مثل أكذوبة أن مصر، بنسبة بطالتها المرتفعة وبالفساد الذي هو الحاكم الفعلي الحقيقي فيها، قد حققت معدل نمو يبلغ 7%!! ولم يورطوا مذيعا أو صحفيا مغمورا بإعلان هذا الرقم والإختباء وراءه وإنما بلغت بهم الصلافة وانعدام الحياء أنهم جرؤوا هم بأنفسهم، وزراء ورئيس وزارة، على الوقوف أمام الكاميرات ليتفوهوا بهذه الفضيحة، التي تعني أن مصر قد حققت ثاني أعلى معدل نمو في العالم بعد الصين!! ولكن الصين حاليا قد فاقت المانيا في معد النمو فهل هذا يعني أن مصر تماثل ألمانيا في معدل النمو؟! عندما سألت متخصصا في الإحصاء الإقتصادي هو الأستاذ إلهامي الميرغني عن حقيقة معدل النمو هذا أكد لي بأنه استغباء علني لأنه يتجنب توزيع الدخل على عدد السكان؛ وأنه في حالة إجراء هذه القسمة فإن نسبة النمو تكون سالبة!
***

بدلا من معالجة الظلم بالعدل يلجأ النظام المصري الى معالجة الظلم بالظلم نفسه. إنهم يشحنون فرن الغضب الشعبي بالمزيد من الحطب. فإن كان ثمة، كما تكرر مصادر الحكومة، من quot;يحرضquot; على الإضراب والتظاهر والتمرد فهو النظام نفسه ما غيره: بإصراره على بيع اقتصاد البلاد بالجملة، وتجويع الناس، وإذلالهم، وإصراره على التظاهر بعدم رؤية الواقع واختلاق واقع وهمي تبلغ نسبة نموه السنوي 7%! النظام المصري يصر على أن يكون فاسدا، وكاذبا ومستغلا، وهو بذلك يصر على أن يفقد المواطن المصري طابعه المسالم وquot;الدبلوماسيquot; الذي يعرف به، ويتعامل مع هؤلاء اللصوص بما يليق بهم.
***

تحية لكم يا عمال المحلة!
تحية لكم يا أهل مصر!
ورمضان كريم!

سمير طاهر
[email protected]