الدنماركي النبيل المتعاطف مع قضايا الدول النامية ومع القضايا العادلة

اختطفت المنية مؤخرا صديق جمعتني به خلال سنوات القضايا العادلة والنبيلة، والتعاطف مع الإنسانية المعذبة في عالم يزداد أنانية، ويميل إلى إدارة ظهره لمن يجدون أنفسهم من ضحايا سريان التاريخ على النحو الذي يسير عليه حاليا، على نحو يزداد فيه الأغنياء اقتصاديا ومعرفيا غنى، في حين يزداد فيه الفقراء فقرا. ذلك هو quot;تُربِن كروجquot; هكذا بلا ألقاب، مع أنني أود أن أطلق عليه لقب quot;الدنماركي النبيلquot;. ومع أنه لم يكن يعرف عن اليمن قبل لقائنا به في اليونسكو سوى ما قرأه عنها في كتاب رحلة نيبور (وهو الكتاب الذي تُرجِم بعد حوالي قرنين من تلك الرحلة الفريدة إلى اللغة العربية بعنوان quot;من كوبنهاجن إلى صنعاءquot;)، فقد جمعتني به علاقة مودة وانسجام في الأفكار والنيات الحسنة، حين كان ممثلا لبلاده، الدنمارك، في المجلس التنفيذي لمنظمة اليونسكو، وكنت حينها نائبا لأبرع وأنجح من مثل اليمن في هذه المنظمة منذ إنشائها سنة 1945، وأقصد به الدكتور أحمد الصياد. وقد كان تُربِن كروج صديقا حميما للدكتور الصياد، يشتركان معا في الأحلام والنيات الحسنة. ودخلت من هذه الصداقة مع د. الصياد إلى التنسيق مع كروج عند ما انتخبناه في العقد الأخير من القرن العشرين رئسا للمجلس الدولي لتنمية الاتصال، وهو مجلس كان قد تم التوصل إليه قبل سنوات كتسوية في إطار المفاوضات مع الدول الغربية داخل اليونسكو. فقد كان الصراع داخل المنظمة منذ الستينات، أي قبل اختراع الانترنت وشيوعها،، يدور بين الغرب المطالب بحرية انتقال المعلومات والصور والأفكار في حين كانت دول أوربا الشرقية ومعها الدول النامية تطالب بوجود استراتيجية جديدة للإعلام تسمح لدول ما كان يسمى بالعالم الثالث بالمشاركة في التدفق الإعلامي الذي يسير في اتجاه واحد من الدول الغنية، التي تمتلك المعارف والتقنية والموارد المالية والبشرية، إلى الدول الفقيرة. وقد انتهى هذا الصراع إلى قبول الدول النامية بما كانت الدول الغربية تطالب به من حرية انتقال المعلومات والصور والأفكار مقابل مساهمة الدول الغربية في تمويل صندوق يساعد في تنمية وسائل الاتصال في الدول النامية حتى تستطيع هذه الدول المشاركة في نقل المعلومات، لكيلا يصبح هذا الانتقال مجرد تدفق للمعلومات، ومن ثم للأفكار، في اتجاه واحد، أي من الدول القادرة على امتلاك المعارف والبنية التحتية والموارد البشرية للنقل إلى الدول الفقيرة العاجزة عن نقل أي شيء. ومع أن هذه التسوية كانت مجرد محاولة لانتزاع بعض التمويل للهياكل الأساسية في مجال تقنية المعلومات والتأهيل في الدول النامية، فإنها قد ساعدت، وما تزال (بعد رحيل تُربِن كروج الذي كان أقدر من تولى رئاسة المجلس الدولي لتنمية الاتصال) تحاول المساعدة، في الحصول على تمويل لتطوير وسائل إعلام عديدة في الدول النامية وبخاصة أقل البلدان نموا، ومن بينها اليمن. لكن الخلل الأساسي أن هذه المساعدات قد وقعت في أيدي سلطات دكتاتورية فاسدة استخدمت هذا الإعلام بصورة سيئة لدوام دكتاتوريتها وتوسيع فسادها. وقد كنا نقنع أنفسنا، ومعنا الدنماركي النبيل، أننا حتى لو ساعدنا في تنمية وسائل إعلام رسمية، نساعد في بناء قدرات وفي تنمية موارد بشرية محلية ونطور مؤهلاتها ونوفر لها فرص العمل، ونسهم على نحو غير مباشر في تخفيض بطالة الإعلاميين وفي تحسين مستواهم المهني والمعيشي. وللتعويض عن الخسائر التي تجعل الأنظمة الدكتاتورية تستفيد من هذا الجهد النبيل الذي تبذله المنظمة لمساعدة البلدان النامية والأقل نموا، جرى التركيز على التدريب والتأهيل، ومن ذلك مثلا مساعدة نقابة الصحفيين في اليمن في امتلاك القدرة على الإسهام في التدريب المستقل، وعقد المنتدى الدولي لحرية الصحافة وتعدديتها في الدول العربية (الذي عقد في صنعاء في يناير 1996)، وهو المنتدى الذي صدرت عنه وثيقة دولية مهمة ما تزال تنتظر التنفيذ، هي quot;إعلان صنعاء حول استقلال الصحافة العربية وتعدديتهاquot;. وقد كان الدنماركي النبيل متحمسا لعقد هذا الاجتماع في صنعاء، وكذلك الدكتور الصياد الذي أوكل إليَّ عضوية اللجنة الدولية للتحضير لعقد هذا المنتدى، إلى جانب اليونسكو (بما فيها المجلس الدولي لتنمية الاتصال برئاسة كروج) والأمم المتحدة والمساهمين في التمويل من المؤسسات الدولية الخاصة.

وعلى كل حال، كان الدنماركي النبيل متحمسا لهذا المسعى للتأثير على الواقع المزري لوسائل الإعلام الرسمية في اليمن، ومحاولة زحزحتها ولو قليلا عن مواقفها المتخندقة في خدمة الفساد والاستبداد. وبالقدر الذي كان فيه معجبا بصنعاء التاريخية، وبمحاولات الإنسان اليمني للخروج من إسار التخلف، وممتنا لما لقاه من الدكتور الصياد، ومني أيضا، من مشاعر الود، ومن بذل الجهد لمساعدته خلال عمله الدولي في إطار اليونسكو، في بلوغ الأهداف النبيلة التي سعى لتحقيقها من خلال عضويته في المجلس التنفيذي للمنظمة وفي عدد من لجانه ورئاسته للمجلس الدولي لتنمية الاتصال، وبالقدر الذي كان فيه أيضا معجبا بالطريقة التي ربط فيها الحزب الاشتراكي اليمني تحقيق الوحدة اليمنية بمكسب استراتيجي تاريخي، من خلال اشتراط الديمقراطية لتحقيق الوحدة، فإنه قد صُدِم صدمة شديدة بقيام سلطة الفساد والاستبداد عام 1994 بسحق الوحدة الطوعية وتحويلها إلى وحدة تفرض نفسها على كثير من المواطنين quot;بالدمquot; كما يحلو لهذه السلطة أن تردد بفخر وتهديد للمعارضين المطالبين بالعودة إلى وحدة التراضي التي تحققت عام 199.. وكان يقول لي في نقاشاتنا المملوءة بمشاعر الود والتعاطف مع اليمن: quot;من غير المعقول حكم الناس رغما عنهمquot;. وكان باعتباره أحد ممثلي المجموعة الاسكندنافية في المجلس التنفيذي لليونسكو أحد الذين طالبوا مدير عام المنظمة مرارا بالتدخل للإفراج عن سجين الرأي اليمني منصور راجح، حينما عمل مثقفون في النرويج لحشد الرأي العام في الدول الاسكندنافية لمناصرة قضيته، حتى جعلوا حكوماتها تتحرك مجتمعة وفرادى للافراج عنه إلى أن تحرر من السجن ومن مشنقة الإعدم التعسفي وغادر اليمن لاجئا سياسيا في النرويج، في مفارقة شعرية دامية كثفها منصور على نحو حزين في أشعاره في صورة quot;الوطن المشنقة والحرية المنفىquot;.

ويعود أصل هذه المشاعر الإنسانية لدى الدنماركي النبيل إلى أنه، كما عرفت منه، كان في شبابه يساريا متحمسا في بلد اسكندنافي لم يعد فيه ما ينطبق عليه قول شكسبير في رائعته quot;هاملِتquot;: quot;هناك شيء ما يتعفن في مملكة الدنماركquot; (وهو قول اشتهر إطلاقه بعد شكسبير على كل نظام سياسي تشبه أوضاعه حال الدنمارك في القرن السابع عشر)، بل وجد نفسه في بلد يتحقق فيه الكثير من الأهداف التي حركت مطلع شبابه ولونت أجمل أحلامه. فالتوظيف شبه شامل لليد العاملة، مما يعني أن البطالة منعدمة أو في حدود نسبة مئوية متواضعة لا يعتد بها عادة في حساب نسبة البطالة، وأن جميع المواطنين يستفيدون من ثمار النمو الاقتصادي المرتفع، وأن سقف الحريات مرتفع على نحو أنموذجي، وأن حقوق الإنسان مرعية، والفساد غائب. ويستشهد بتجربته الشخصية. فقد كان يساريا معروفا لكن هذا لم يمنعه من كسب ثقة السلطة في بلاده وتولي مناصب رفيعة دون أن يغير من معتقداته العالمية التي وجد متنفسا للتعبير عنها في منظمة دولية يستطيع أن يطبق فيها قناعاته على مستوى تضامن الإنسانية كلها في العمل لخير الإنسان ونشر روح التعاون مع المحتاجين ومن وجدوا أنفسهم على هامش عالم يزداد فيه إنتاج الخيرات والمعارف ولكن على نحو متفاوت وغير عادل بشكل مأساوي. وهذا ما فعله تُربِن كروج، وعلى الأخص خلال رئاسته لعدة سنوات للمجلس الدولي لتنمية الاتصال. فقد كان يكرس نفسه للحصول على موارد مالية من حكومة بلاده أولا، ثم من دول غنية أخرى، لتمويل مشاريع في الدول النامية وأقل البلدان نموا. ومن أظرف التعليقات التي قالها لي بعد زيارته لإحدى الدول العربية التي تقدمت بطلب لتمويل مشروع إعلامي أن هذه الدولة قد استضافته في حفلة عشاء فاخرة مكلفة في أرقى مطاعم بلادها: quot;أما كان بالإمكان رصد تكاليف المأدبة للمشروع أو توفير تكاليفها لمشروع آخر، في هذا البلد أو في بلد أكثر حاجة إلى التمويل؟quot;.

هذا هو الدنماركي النبيل الذي اختطفه الموت وعمره لا يزيد عن الستين إلا ببضع سنوات. فقد استلته يد المنية ليس من أسرته ومحبيه فحسب، بل من الدول النامية والأقل نموا، تلك الدول التي كان يشعر أنه يحقق أحلام شبابه اليسارية بالعمل لمساعدتها في الساحة الدولية. والحق أنه كان من القلائل الذين عملوا في المجال الدولي بقناعة أنه يؤدي رسالة نبيلة، يعمل لتوسيع دائرة التضامن مع المحرومين ومن يعانون من الآثار الضارة لعولمة عاتية تسير دون أن تعبأ بمن لم يُعدُّوا أنفسهم لامتلاك قدرات تمكنهم من المشاركة في مسيرتها والاستفادة من ثمارها.

د.علي محمد زيد