يعكس مشروع مجلس الشيوخ الاميركي غير الملزم نظرة واقعية للحالة العراقية في محاولة لايقاف نزيف الدم والصراع الطائفي في العراق والذي ادى الى قتل وتهجير الملايين.


وربما تكون فكرة تقسيم العراق البداية الحقيقية لنيل الفرد العراقي حقه في الحرية وتقرير المصير وان ينام قرير العين بعد صراع تاريخي طويل وحروب لم يكن معنيا بها، وهي حروب تواترت عبر التاريخ القريب تحت ذرائع شتى اولها وحدة الوطن واخرها تحرير الارض وبعث الامة الواحدة من جديد وهي التي لم تقم في يوم من الايام بمعناها الحقيقي الذي ينشده الوحدويون بل كانت على الدوام اضغاث احلام.

والسؤال الذي سيبدو لكثيرين ساذجا هو: ماذا لو توزع العراقيون على ثلاثة او اربعة أقاليم مستقلة او مرتبطة مع بعضها بعلاقة خاصة وسمها ماشئت فدرالية او كونفيدرالية او أي اسم لك ان تختاره.

ولنا في الاتحاد السوفيتي ويوغسلافيا وعدد من دول أوربا الشرقية الأخرى مثل تشيكوسلوفاكيا (التي نتج عن تفتيتها جمهوريتين تحملان الآن إسمي التشيك وسلوفاكيا ) أمثلة يحتذي فيها في منع سفك الدماء الذي سيستمر الى مالانهاية في ظل محاولات يائسة للحفاظ على وحدة فقدت مقومات استمرارها. ذلك ان جمع جماعات مقسمة عرقيا وطائفيا بينها مابينها من خلاف واختلاف واحتراب اصبح اليوم مهمة مستحيلة، ولعل وحدة العراق الهشة اليوم ماكانت لتستمر لولا وجود قوات الاحتلال التي ما ان تخرج حتى تشتعل نيران حرب اهلية تاكل الاخضر واليابس، تماما مثلما كانت تلك الوحدة هشة ايضا في العقود الاربعة المنصرمة لكن ضمنت استمرارها تحت وطأة القبضة الحديدية لانظمة دكتاتورية كالنظام الذي اداره صدام حسين بكفاءة وقسوة نادرتين لكنه استطاع ان يبعث مقومات الوحدة بالحديد والدم والنار.

واذا عرجنا الى الماضي القريب ونظرنا الى البوسنة والهرسك فان الكثير من الاوهام التي تسكننا سوف تتبدد (وهي اوهام يختزنها عقلنا الباطن بحكم تربيتتنا في مجتمعات قادتها انظمة توتارية ) فسنوات الحرب والبؤس الثلاث التي عصف بالبوسنة والهرسك انتهت إلى تشريد نصف سكانه وتحويلهم إلى لاجئين، وتدمير ثلثي المنازل، فضلاً عن حرمان نصف السكان من القدرة على الحصول على مياه الشرب النظيفة. تمام مثلما يحدث في العراق اليوم الذي لن تحل مشكلته الا بالتقسيم اولا ثم خروج القوات الاجنبية من اراضيه ثانيا وليس العكس.

ولا ضير من القول ان الانتخابات عززت نظام التقسيم الطائفي ودليل ذلك ان ممثلي الشعب في البرلمان انتخبو ا على اساس طائفي ليس الا وان صراعاتهم في البرلمان تقوم اليوم على اسس طائفية. وهذا برهان ساطع على ارادة الطوائف العراقية التي تريد اليوم ايقاف نزيف الدم والعنف وضمان الاستقرار في المنطقة عن طريق التقسيم الى الى اقاليم مستقلة (وهو الحاصل اليوم على ارض الواقع ) تنسق فيما بينها، ووضع الاساس الدستوري لاقامة نظام كونفدرالي يضم ثلاثة كيانات منفصلة عمليا وان ارتبطت رسميا ومؤقتا برابطة وطنية.

واذا دخلنا في التفاصيل العملية فان فكرة ضم كركوك للاقليم الكردي، بغية توفير موارد نفطية تدعم الاقليم الشمالي، وتمتع اقليم الجنوب بموارده النفطية، مع ضمان نسبة محسوية لاقليم الوسط تكفلها قرارات دولية وضمانات من عائدات النفظ من هذين الاقليمين سيجعل من الاستقرار في المنطقة أمرا محسوما وسيتمتع المواطن العراقي بجو الاستقرار والبحبوحة التي انتظرها طيلة عقود.
ولااعتقد ان نجاح الفدرالية العراقية بالصيغة التي كرسها الدستور ستلبي الغاية، ليس لانها سابقة جديدة في المنطقة فحسب ( لا توجد مثل هذه الصيغة في أي دولة عربية، كما ان وجودها في دول مثل المانيا والولايات المتحدة، لايعني نجاحها في العراق بسبب الفوارق الاقتصادية ً والاجتماعية ً، والثقافية وحتى الدينية )، ذلك أن مرحلة الدولة العراقية ربما تبدا بالانحسار في المرحلة المقبلة بسبب الاساس الطائفي والشوفيني الذي رافق قيام هذه الدولة، فمنذ البداية قامت الدولة العراقية على نفي الهوية القومية للكرد، وانكار حق الشيعة في المشاركة في اتخاذ القرار.
وليس ثمة احصائية دقيقة عن عدد الاكراد الذين قتلوا وهجروا منذ قيام الدولة العراقية ( لابد من الاشارة الى ان كاتب المقال عربي )، والحقيقة التي يعرفها الجميع انه لو استمر الحكم التوتاري في العراق فان ا لاكثرية الشيعية ستتحول الى اقلية بحكم سياسة إفناء جماعي اتبعت منذ تاسيس الدولة، وسينحسر الوجود الكردي الى اقصى الشمال في الشريط الحدودي المتاخم لدول الجوار، اما اذا استمر الوضع على ماهو عليه اليوم فسيختفي الوجود السني نهائيا من بغداد على وجه الخصوص. وهذا يعني ان الدولة العراقية قامت في الاساس على افناء الكرد الذين هم الضحية الاولى ثم الشيعة واليوم تحاول ذات الدولة تاسيس ذاتها عبر الطائفة، والدليل تلك الحرب المشتعلة اليوم في بغداد وضواحيها.
أن اشتراطات الوحدة الترابية في العراق يجب أن لا تقوم بالقوة والاحلام بل يجب ان تقوم على تساوي الحقوق والواجبات بين القوميات وهذا مالم يحدث ابدا.

ولاول مرة في تأريخ العرق الحديث يشعر العراقي انه بحاجة الى قوة الطائفة لاقوة الدولة، وهو شعور حقيقي يتولد اليوم في محاولة تلقائية من الفرد لان يتخلص من شعوره بالمهانة من جراء تسلط الاخرين عليه وسلبهم لحقوقه باسم القومية والوحدة والوطن العظيم.

ولعل فكرة التقسيم هذه تستفز الكثيرين حتى اولئك الذين ينادون بالفبدرالية بسبب التربية الثقافية والدينية، والتي تمجد الوحدة والقوة والماضي التليد، ولكنهم في دواخلهم يمجدون الطائفة ويعملون مافي وسعهم لان تصبح في يوم من الايام قوة حقيقية تاكل الوطن بكامله وتهمش الطوائف والاقليات الاخرى.

يتحدث بيتر جالبريث ـ الدبلوماسي والبرلماني والإعلامي الديمقراطي البارز في كتاب صدر له حديثا أسماه '' نهاية العراق'' عن حتمية التقسيم وانهيار النسيج الضعيف للوحدة العراقية، ويعترف ان التقسيم هو الحل الافضل لتجنب حرب اهلية قادمة وان تاجلت.

ولعل مايقوله هذا الرجل ليس مفاجأة بل تحدث عنه سياسيون امريكيون منهم هنري كيسنجر السياسي حيث يقول أن تقسيم العراق هو أحد حلين يراهما للعراق، وقال هنري كيسنجر عبر برنامج quot;حوار صعبquot; (Hard Talk) على إذاعة (BBC) البريطانية في 8-3-2006: quot;إن العراق ربما يسير باتجاه مصير يوغوسلافيا السابقةquot;.

والسؤال هو مالضير من تقسيم العراق على غرار البوسنة حين حصل ذلك بنجاح قبل عقد مضى، حين قسمت البلاد التي عانت ويلات الحرب إلى اتحادات على أساس عرقي بموجب اتفاق quot;دايتونquot; الذي أبرم بوساطة أمريكية.
وفي راي جالبريث فان العراق يقسم إلى ثلاثة أقسام: منطقة للأكراد في الشمال، ومنطقة للسنة في الوسط، ومنطقة للشيعة في الجنوب.. وكل منطقة تكون مسؤولة عن تطبيق قوانينها المحلية وعن الإدارة والأمن الداخلي. وتسيطر الحكومة المركزية على الدفاع عن الحدود والشؤون الخارجية وعائدات النفط في المرحلة الاولى لحين اكتمال اسباب الاستقلال النهائي لكل اقليم. وربما شهدنا في المستقبل القريب أرتفاع عدد الدول المستقلة لتصبح 196 بدلا من 193، بعد ان تضاف اليها دول كانت تسمى في يوم من الايام العراق، ولاغرو في ذلك فقد كان عدد الدول المستقلة بعد إنتهاء الحرب العالمية الثانية 74 دولة مستقلة فقط.

عدنان البابلي