كان مقالنا الأخير في الثالث والعشرين من حزيران والذي كان جاء بصيغة شبه شعرية تحت عنوان لمن نكتب؟ بمثابة مقال وداعي بعد أن شعرنا بالصدمة بأن ما كتبناه ودعونا إليه وحذرنا منه _ وكذلك ما فعلته أقلام حرة لزملاء نعتز بهم ممن يمتلكون إحساساً وطنياً عميقاً،ً وشعوراً بالمسؤولية تجاه الوطن والقضية، وأنهم يكتبون لا لشيء أو مصلحة أو جاه أو شهرة إلا لأنهم أصحاب رسالة في المجتمع والحياة.

يحذوهم الأمل في غد مشرق، وفي مجتمع تسوده علاقات التضامن والكفالة، ويطمحون إلى وحدة وطنية ينصهر فيها الجزء في الكل نحو أرادة قوية لمواجهة المستعمر، واستكمال المشروع الوطني وصولاً إلى إقامة الدولة الفلسطينية وعاصمتها القدس الشريف_ لم يلق آذان صاغية من أولي أمرنا الذين أصروا على جرنا من أزمة إلى أخرى أشد وقعاً وتأثيراً وخطورةً على واقعنا ومستقبل قضيتنا. كان من الصعب أن نستوعب أن يتقاتل الأخوة بهذه الشراسة، وأن يصبح الدم الفلسطيني مباحاً بهذا الشكل، وأن تغرق غزة ليس في بحرها بل في دماء أبنائها.

وكما قال الشاعر محمود درويش في قصيدته الأخيرة تعلقاً على ما جرى في غزة بما معناه quot;هل كنا بحاجة إلى هذا حتى نثبت إننا لسنا استثناءquot;. كان من غير الممكن أن نرى البنادق توجه إلى صدور الأشقاء فيما تصب دبابات العدو الجاثمة على أرضنا، والماثلة للعيان حمم قذائفها على الجميع دون استثناء. كيف يمكن نقبل أن ننقلب على بعضنا البعض ونحن داخل زنزانة تفتح وتغلق على وقع أحذية جنود العدو المتربص بنا. هل نتسابق على من يكون quot;شاويشquot; الزنزانة، هل نتسابق على من يجلس على كرسي البلدية فيما تحيط بها القاذورات من كل ناحية. لست أدري هل أنهينا مشروعنا الوطني ووصلنا به إلى مبتغاه من أجل الاقتتال على الغنائم. أليس نحن بحاجة إلى كل قطرة دم، وكل رصاصة من أجل أن تصب في مجرى مشروعنا الوطني ضد المحتل الأثيم. كلها أسئلة مشروعة في ظل ما حدث، وكلها أسئلة تبحث عن إجابة لدى من نصبوا من أنفسهم أولي أمرنا وأصنام قضيتنا.


سوف نقول هنا إننا لن نكتب بعد الآن لأولي أمرنا لأنهم قوم لا يعقلون، فهم لا يقرءون، وإن قرءوا لا يفهمون، وإن فهموا فهم لا يفهمون إلى مصالحهم الخاصة، ومصالحهم أحزابهم وفصائلهم فقط. لذلك لن نكتب للقادة ولن نكتب للفصائل التي حرفت مشروعنا الوطني عن مساره الصحيح، ودخلت بنا في نفق مظلم حالك السواد، وتتاجر في قضيتنا من أجل زعامات وأصنام وشعارات. فهي قد أصبحت بشعاراتها وأصنامها وراياتها عبئ على الوطن والقضية بدل أن تكون دعماً له ومشاريع شهادة في سبيله.
نحن سوف نكتب للشعب الذي نكب بقيادته، ونكب بفصائله. نحن نكتب لمن سيبقى خالداً، فالزعامات تذهب، والفصائل تندثر، والشعارات ستأخذها الرياح بعيداً. سوف نكتب من أجل مئات الآلاف من شهدائنا الأبرار، وإلى مئات الآلاف من جرحانا الذين تجرعوا آلام الإصابة بكل صبر وإباء، ومئات الآلاف من أسرانا البواسل أو ممن ذاقوا عذابات السجن والقهر. سوف نكتب للمحاصرين والمعتقلين في زنزانة قطاع غزة. سوف نكتب للأجيال التي سوف تخجل يوماً مما فعلنا، وتقلب الصفحة السوداء إلى صفحات أكثر بياضاً وإشراقاً. سوف نكتب لكل هؤلاء فهم بحق من يستحق أن نكتب من أجلهم، ونحيا ونموت من أجلهم.


سوف نكتب من أجل التصدي لثقافة الدم والقتل والتكفير. سوف نكون رسلاً لثقافة التسامح التي هي جوهر ديننا الحنيف. سوف ندعو إلى المحبة بعيداً عن الحقد والكراهية والتعصب الأعمى. سوف نحمل رسالة تنويرية تتجاوز قوى الظلام والتخلف. سنكون في خدمة الحقيقة بعيداً عن الضبابية والخطابات الإنشائية العنترية التي لا تسمن ولا تغني من جوع. سوف نتحدث عن عدالة قضيتنا وإنسانيتها، وندعو إلى تجاوز عبثية الفكر والسلوك. سوف نكتب من أجل أن نستوعب الصدمة ونمتصها، ونواجه الإحباط والكراهية ونفتح باب الأمل. علينا أن نشحن طاقتنا ونعبئ إرادتنا في معركة البناء. علينا أن ندعو إلى قيم التعايش والشراكة بين الأخوة، ونعزز ثقافة الحوار. فالمثقف هو ضمير ووجدان الشعب هو حامي القيم والمبادئ. هو إرادة الشعب التي لا تنكسر ولا تنهزم.

د. خالد محمد صافي