يمر لبنان اليوم بأخطر مراحله بعد التمديد الإجباري للرئيس إميل لحود الذي أعقبه سلسلة من الإغتيالات الخطيرة فيه من المرحوم رفيق الحريري إلى المرحوم أنطوان غانم قبل أيام ومابينها من تغييب نواب الأكثرية النيابية بما هي لعبة غير أخلاقية عبر التصفية الجسدي لتقليل النصاب القانوني وإشاعة الفوضى وخلط الأوراق وإحداث فراغ حكومي وعطالة دستورية بما يجعل لبنان في مهب العواصف الداخلية والإقليمية والدولية، ورغم صدور العديد من القرارات الدولية بدءاً بالقرار 1559 عام 2004 بعد التمديد سيء الصيت والقرار 1680 عام 2006 والقرار1701 عام 2006 على خلفية حرب تموز من العام نفسه، مازال لبنان ومستقبله السياسي والديموقراطي ووحدته على أكثر من عفريت بعضها من صنع النظام السوري وبعضها من القوى الإقليمية التي ترى في لبنان المستقل الديموقراطي الموحد المزدهرتهديداً لها بهذا الشكل أوذاك،وفي خضم تلك التجاذبات الخطيرة التي تعصف بهذا البلد العربي الصغير بمساحته الكبير في دوره،يعيش لبنان على أمل تغلب اللبنانيون جميعاً بوحدتهم على الأجندة الخارجية التي يمثلها النظام السوري الإيراني،والتي عاش لبنان بعض حلقاتها المأساوية وهو الآن فيها على أبواب استحقاق إنتخاب رئيس جديد للجمهورية، لبنان اليوم يراوح مابين التأجيل والتفشيل والتدويل،أو في أحسن الحالات فرض رئيس الأمر الواقع، واقع النظام السوري الإيراني ومن لف لفهم داخل لبنان وخارجه، وأيضاً مابين الشرعية اللبنانية الشعبية والدستورية الجريحة الراعفة هي الأخرى.
وبين مايجري في السر والعلن من لقاءات ومشاورات بين بعض أهل الربط والحل الداخليين في هذا البلد العربي على تناغمات الوضع الإقليمي وتداخلاته،وبين أهل العقد والتعقيد الخارجيين يعيش اللبنانيون حالة من القلق لم يشهدها لبنان سوى في محطات معينة في تاريخه وهي مظلمة ولازالت سحبها تغطي المساحة الكبرى من شعور اللبنانيين وخوفهم من دفع لبنان مرةً أخرى لها،ودفع ثمنها من جديد على طريق مساومات النظام السوري الإيراني الواضحة بشكل ملفت للنظر في خطاب النظامين، ورغم أن الفرقاء المتباعدة والمتناقضة في لبنان تصر وكلاً على طريقته بترداد الحرص على وحدة لبنان وديموقراطيته وحريته في انتخاب رئيس جديد يمثل كل اللبنانيين، مع ذلك وكون فصول اللعبة السياسية تستوجب بعض العبارات السياسية الدبلوماسية والأخلاقية هرباً من الوقوع السافر في صف النظام السوري الإيراني وحفظاً لبعض الدور على الساحة الداخلية اللبنانية، لكن حقيقة الأمر أن هناك استعصاء سياسي أولاً ودستوري ثانياً وأخلاقي ثالثاً ومصلحي رابعاً وتكتيكي خامساً واستراتيجي وهو الأهم والأخطر سادساً لأنه متعلق بسياسة واستراتجية النظام السوري الإيراني في لبنان والمنطقة،وهنا مربض الفرس كما يقال، من حيث المسافة والحرية التي يتحرك بها الفرقاء على الساحة اللبنانية وخاصة المرتبطين مصيرياً بالحلف السوري الإيراني.


ومع كون الرئيس بري يبدي تحركاً متساوياً مع الأطراف اللبنانية وضمن الهامش الذي يسمح به النظام السوري تحديداً، فهو الذي أقفل مجلس النواب وغاب عن الساحة لتفادي مالاقدرة له على فعله، تراه اليوم يستقبل الأطراف اللبنانية المتعاكسة والمتشاكسة كمن يمشي قفزاً في حقل ألغام، ولاشك أنه وهو المتمرس في شعاب لبنان وهضاب النظام السوري والعربي يحاول أن يجمع الجميع وأن يقرب بين المسافات عل القدر يكون بجانبه وجانب لبنان للخروج من هذه المحنة الكبرى،مصراً على الحل اللبناني العربي مواربةً ومبعداً خيارتدويل الأزمة اللبنانية لأسباب شتى، ومع أن موقفه الذي يمثل حالة quot; مكرهاً أخاك لابطل quot; من دور المجتمع الدولي ومجلس الأمن تحديداً الذي يصرون على استقلال لبنان ووحدته وحريته كما جاء في بيان مجلس الأمن الأخيرالذي دعى إلى اجراء انتخابات رئاسية بدون تدخل خارجي وعلق عليه الرئيس بري سلباً إرضاءاً للسلبييين وإيجاباً مغازلةً للإيجابيين وتمنى من مجلس الأمن عدم التدخل وإرهاق لبنان أكثر بمايشبه هجوم استباقي على التدويل الذي يعرف أن مصدره الأساسي هو التدخل السافر للنظام السوري بالتمديد للحود الذي أفرز كل تلك الأزمات التي تهز لبنان.


لبنان أمام إستحقاق يبدو أنه ملتبساً بين تناقضات الأطراف اللبنانية وضغوط الأطراف الخارجية، يلخصها الإستقطاب الحاد بين فريقين داخليين قوى الرابع عشر من آذار وقوى الثامن من آذار وسواعد الضغط الإقليمي الحاملة لكل منهما بهذه النسبة أو تلك، ورغم أن كافة المتصارعون على الساحة اللبنانية على عتبة الإستحقاق الرئاسي قد تعمدوا إظهار حالة من الإسترخاء السياسي التي عكست تجاوز بعض الممنوعات والخطوط التي رسمها النظام السوري بلقاء بين الأطراف المتنازعة في محاولة لقراءة النوايا ومعرفة التوجهات بشكل مباشر، تبقى الصورة الرمادية التي تحاصر لبنان كله محكومة بقديمها وفاعلها الأساسي وهو دور النظام السوري الإيراني على أكثر من مستوى في لبنان، ومع بروز هامش جديد من الحرية في حركة الفريقين الداخليين خارج مدارهما السياسي الستراتيجي بمعنى الظهور بامتلاك قدر من التحرر من ضغظ القوى الدولية وقدر من الإستقلالية عن النظام السوري الإيراني، هامش تملكه حقيقة ً قوى الرابع عشر من آذار ولاتملكه البتة قوى الثامن من آذار، هنا بالضبط تكمن أبعاد الأزمة والتي يمكن تلخيصها بموقف أو قدرة النظام السوري ورغبته على وضع حد للأزمة اللبنانية،الأمر الذي يراه استراتيجياً النظام الإيراني هو الخيار الصحيح الآن للحفاظ على ورقته الستراتيجية في صراعات إقليمية كبيرة لم تحسم بعد، وهنا أيضاً يبدو بعض الإفتراق المصلحي بين النظام السوري والنظام الإيراني على الساحة اللبنانية.


فالنظام السوري يتمسك لبنانياً بخيارات نهائية مرتبطه بمصيره وهامش المناورة فيها قليل للغاية وهو يصر على رئيس جديد هو نسخة مارونية عن إميل لحود يحافظ على مصالحه ومصالح أتباعه في لبنان وفي طليعتها حزب الله وسلاحه ولايريد أن يسقط هذه الورقة الأخيرة من يده حتى لو أدى إلى تعطيل الإنتخابات بأي وسيلة ممكنة من جهة،ومن جهة أخرى لايريد أن يعطي إيران هامش من التمايز بين مقاربتمها للحل التي تراه إيران على خلاف النظام السوري ليس المحطة الأخيرة في ترتيب مصالحها على الساحة الإقليمية،أي أن مساحة اللعب الإيراني هي أكير بكثير من مساحة النظام السوري، وعليه لازال النظام السوري بشكل كبير يتعامل أمنياً مع لبنان ولم ولن يرتق إلى مستوى المقاربة السياسية لحل الأزمة، وفي تداعيات قصور النظام السوري وعدم رغبته بالمساعدة بالحل يبقى خياره الأرجح هو تعميم حالة الفوضى السياسية والأمنية مع محاولة تخفيف الضغوط الدولية ومسايرة الرغبات الإيرانية مكرهاً وإبقاء باب الإغتيالات مفتوحا ً على الغارب لأنه سورياً هو الذي يتحكم بسير العملية السياسية في لبنان في نهاية المطاف، فمن سيمثل بيضة القبان في استحقاق الرئاسة اللبناني القادم؟!..


د.نصر حسن