قد يتبادر إلى ذهن المتلقي للبحث عدة أسئلة إبتداءً من العنوان أحياناً.. والعنوان الذي وضعته للمقال يثير السؤال التالي : من الذي يأتي بالأضواء؟ هل الباحث يلقي الضوء على فاتحة الكتاب وبالتالي يكون القرآن مستمد ضوءه من الإنسان أم العكس يعني القرآن يأتينا بالضوء ثم نفسره بالهدى الذي وافانا به الكتاب... للإجابة على هكذا سؤال : أقول إن الهدى والضوء والنور وكل هذه المترادفات الجميلة هي بالأصل تأتي من الإنسان إلى الكتاب أولاً ثم ترد إلى الإنسان من القرآن كنتيجة إذاً مفتاح الهدى والضلال هو بيد الإنسان نفسه.. فإن قيل : ألم يقل تعالى ( شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدًى للناس وبينات من الهدى والفرقان ) البقرة 185... أقول : نعم هذا الهدى كالبضاعة العظيمة التي تحتوي الفوائد كلها وتعرض لمن يريد الأخذ منها في حال توفرت لديه شروط الأخذ من ذلك الهدى.

وإلا تعذر عليه الوصول لمسمى الهدى فضلاً عن الهدى نفسه ولذلك نجد النكتة في تكرار الهدى فبعد قوله ( هدًى للناس ) قال ( وبينات من الهدى والفرقان ) أي إن هذه البينات لا يصل إليها كل إنسان يعني البضاعة المعروضة لها شروط يجب توفرها لمن يريد الأخذ منها ولذلك لما توفرت هذه الشروط عند البعض لم يقل هدًى للناس في مطلع سورة البقرة وإنما قال ( الم 0 ذلك الكتاب لا ريب فيه هدًى للمتقين ) البقرة 1- 2.. لماذا لأن الشروط توفرت لدى هؤلاء المتقين ثم صرح بهذه الشروط وهي إيمانهم بالغيب وإقامتهم الصلاة إضافة إلى إنهم ينفقون حين يرزقون ويؤمنون بما أنزل على النبي ( ص ) وعلى الأنبياء من قبله وكذلك يوقنون بالآخرة ولذلك أصبحوا متمكنين من الهدى فهم كالراكب على دابته يصرفها كيف شاء لذلك وصفهم تعالى بقوله ( أؤلئك على هدًى من ربهم ) البقرة 5.. أي إنهم جعلوا فوق الهدى وهم المتصرفون به.... أما أهل الضلال فإن القرآن الكريم يزيدهم ضلالاً بسبب فسقهم وخروجهم عن الجادة المستقيمة كما قال تعالى ( يضل به كثيراً ويهدي به كثيراً وما يضل به إلا الفاسقين ) البقرة 26...

وهذا ما أكده النبي ( ص ) بقوله : يرفع به أقواماً ويضع به آخرين.. أي إن الأمر يعود إلى القابل المتوفر لدى الإنسان فإن توفرت لديه الشروط آنفة الذكر فإن طريقه إلى القرآن ميسر ويأخذ منه الهدى كنتيجة وإن كان هو على ضلال فإن القرآن يزيده لكن لا عن إبتداء لذلك قال ( وما يضل به إلا الفاسقين ) والذي في قلبه نفاق وشرك ورجس ومرض لا ينتفع بالقرآن بل يكون القرآن في هذه الحالة أداة ضلال لا هدى كما قال تعالى ( وإذا ما أنزلت سورة فمنهم من يقول أيكم زادته هذه إيماناً فأما الذين آمنوا فزادتهم إيماناً وهم يستبشرون 0 وأما الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجساً إلى رجسهم وماتوا وهم كافرون ) التوبة 124- 125... إذاً الأضواء بيد الإنسان نفسه وهو الذي يلقي بها على القرآن ثم يستلم ذلك الضوء والهدى كنتيجة حتمية لا تتخلف..... من بعد هذه المقدمة.. أريد أن أبدأ الكلام عن ( فاتحة الكتاب ).. وهذا هو المدخل للقرآن الكريم وكل من يريد أن يبدأ التفسير عليه أن لا يتجاوز هذه المباحث.... المبحث الأول : أسماء السور : هل إن أسماء السور القرآنية أمر توقيفي نازل من السماء؟
البعض قال بهذا وهو ضعيف لأن الشيء إذا نزل منه تعالى يكون قطعياً كنص القرآن لا يحتمل إحتمالين ولطالما وجدنا أكثر من إسم لبعض السور إذاً الأسماء هي ليست منه تعالى ولكن في بداية نزول القرآن الكريم كان الوحي يخبر النبي ( ص ) أن يضع هذه الآية في السورة التي فيها البقرة أو النمل مثلاً وهكذا لأنه قد ينزل في اليوم أكثر من آية وتكون متفرقة على أكثر من سورة لذلك نجد في السور المكية آيات مدنية وبالعكس ولو دققت في المصاحف القديمة لوجدت بعض أسماء السور مختلف عما هي عليه اليوم وقد مرت الأسماء بعدة مراحل فمثلاً نجد التوبة تسمى براءة والإسراء كتبت بني إسرائيل وغافر كان يطلق عليها المؤمن والإنسان هي الدهر وهكذا......... المبحث الثاني : كيف تم التوافق على الأسماء؟ تم وضع الأسماء بناءً على القصة البارزة في السورة والملفتة للنظر عما سواها كقصة البقرة أو المائدة أو يؤخذ الإسم من مطلع السورة مثل ( ص ) أو ( ق ) أو النساء وغيرها...... المبحث الثالث : في المكي والمدني : وإن إختلفت آرائهم فيه إلا إن المكي مانزل بمكة والمدني ما نزل في المدينة.... المبحث الرابع : الإستعاذة : وهي قولنا قبل البدء في قراءة القرآن أعوذ بالله من الشيطان الرجيم كما قال تعالى ( فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم ) النحل 98 هذه الآية ترشدنا إنه عند مباشرة قراءة القرآن علينا أن نستعيذ بالله من الشيطان الرجيم وقد وضع الماضي موضع المضارع ( قرأت ) وهذا كثير في كلامهم كقول الشاعر... وإني لآتيكم لذكري الذي مضى.......... على الود واستئناف ما كان في غد.. أي ما يكون في غد. أيضاً لو دققت في لفظ الآية لتبادر إلى ذهنك إن الإستعاذة تأتي بعد القراءة وهذا من التقديم والتأخير فقد قال أبو حيان في البحر المحيط.. إن الأفعال إذا كانت متقاربة جاز لك تقديم أيهم تشاء فيكون الأصل أستعذ بالله ثم أقرأ.. أقول وهذا كثير في القرآن كقوله تعالى ( إقتربت الساعة وانشق القمر ) القمر 1 أي إنشق القمر واقتربت الساعة لأنه لا يمكن أن يكون إنشقاق القمر متفرع على قيام الساعة وإنما سابقاً لها وكقوله تعالى ( إنما يخشى الله من عباده العلماء ) فاطر 28.. أي الخشية تأتي منهم ولذلك كان المفعول مقدم وقوله ( وامرأته قائمة فضحكت فبشرناها بإسحاق ) هود 71.. أي بشرناها بإسحاق فضحكت وكذلك قوله ( ثم دنى فتدلى ) النجم 8..
..... والإستعاذة : تعني التحصن واللجوء إلى ركن قوي لدفع مكروه ومنها لغة أخرى وهي ( اللوذ )... واللوذ شبيه بالتحصن في ذلك الركن ولكن ليس لدفع مكروه وإنما لطلب محبوب كقول الشاعر.. يامن ألوذ به في ما أؤمله........ ومن أستجير به من كل مكروه..

إذاً الإستعاذة إصطلاحاً هي الإستجارة : أي أستجير بالله دون غيره من الشيطان الرجيم والشيطان هو كل متمرد من الجن والإنس والدواب كما قال تعالى ( وكذلك جعلنا لكل نبي عدواً شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا ) الأنعام 112.. وقوله تعالى عن شياطين الإنس ( وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم ) البقرة 14.. والشيطان لغة عند المدرسة الكوفية مشتق من شاط كالشيء الذي يشيط في النار لأنه مخلوق منها وعند المدرسة البصرية إنه مشتق من شطن إذا بعد أي مبعد عن رحمة الله.. وسيبويه يرجح المدرسة البصرية وحجته إن العرب تقول للذي طباعه شيطانية ( تشيطن ) قال ولو صح الأول لقالوا تشيط.. هذا وسيكون اللقاء القادم هو الأخير وسأكمل الأضواء على فاتحة الكتاب.. إنشاء الله تعالى..

عبد الله بدر إسكندر المالكي