دخلت البهائية ndash; التي يعتبرها أتباعها دينا سماويا - مصر منذ مائة و خمسين عاما تقريبا، من خلال اثنين من تجار السجاد الإيرانيين. و قد استفادت هذه الطائفة ndash; ككل الأقليات الدينية الأخرى و في مقدمتها المسيحيون الأقباط - من الجو الليبرالي الذي كان سائدا في مصر قبل سقوط الدولة في مخالب حركة يوليو العسكرية عام 1952. كانت الطائفة البهائية قبل ذلك العهد تقيم طقوسها بكل حرية في المحافل الخاصة بها. كما كان الملك فاروق يحرص على مشاركتها الاحتفالات بإرسال ممثل شخصي عنه للمهرجان السنوي الذي كان يقام بمحفل البهائيين في حي العباسية بالقاهرة.
لكن تحولا كبيرا نحو الاسوا بدا في العام 1960 عندما اصدر عبد الناصر المرسوم رقم 263 الذي تم بمقتضاه غلق المحافل البهائية. و من يومها تعيش هذه الطائفة حالة إحباط و تهميش اتسع نطاقها مع الفتوى التي أصدرها مجمع البحوث الإسلامية بالأزهر عام 2003، التي أقرت: quot; كل ديانة أخرى غير الإسلام و المسيحية و اليهودية غير مشروعة و مخالفة للنظام العام quot;. و زاد مفتي الديار المصرية علي جمعة الطين بلة عندما صرح في 2006 بان quot;البهائية علة خطيرة quot; (هكذا !).


سارعت الدوائر الحكومية بالامتناع عن ذكر quot;البهائيةquot; في البطاقة الشخصية لالتباع هذه الطائفة، و انتهى الأمر إلى امتناع الإدارة عن تزويد العديد منهم بالرقم القومي الضروري للدراسة و العمل، مما مثل انتهاكا خطيرا لحقوقهم المدنية.


و قد أحسنت منظمة quot;هيومن رايتس ووتشquot; فعلا عندما قامت بتخصيص الفصل الرابع من تقريرها الاخير عن انتهاك حرية المعتقد في مصر لمحنة البهائيين، إذ جاء بعنوان quot;بهائيو مصر و سياسة المحوquot; (Policy of Erasure). و يمكن الاطلاع على النص الكامل للتقرير على الرابط: http://www.hrw.org/reports/2007/egypt1107/4.htm
تعود معظم الحالات التي تعرض لها التقرير للتعميم 49 لسنة 2004 الذي يؤكد على ضرورة التنصيص على الديانة في بطاقة الهوية، مع الاقتصار على إحدى الديانات السماوية الثلاثة، أي الإسلام أو المسيحية أو اليهودية، دون أن يحدد ما يجب القيام به في حال عدم إتباع المواطن لإحدى هذه الديانات !!! و لم يسمح التعميم للإدارة بترك الفضاء المخصص للديانة فارغا أو كتابة ملاحظة quot;أخرىquot; كما كان الأمر في السابق. و لا يعلم حتى الآن المواطن المصري بفحوى هذا المرسوم الغريب، إذ لم تستطع منظمة quot;هيومن رايتسquot; ووتش quot; نفسها الحصول على نسخة منه رغم طلباتها المتكررة بذلك!!!


من الأمثلة التي يعرض لها التقرير قضية رءوف عبد الحليم الذي طالب اثر رجوعه لمصر ببطاقة هوية لابنته، ففوجئ بطلب من موظف الإدارة المسئولة يطالبه بأن يعتنق ndash; هو - الإسلام كأيسر السبل لحل قضية ابنته، باعتبار أن اسم زوجته مسلم و لذلك لا يمكن اعتبارها بهائية حتى و إن كانت تتبع هذه الديانة ndash;هي و عائلتها- منذ زمن طويل. و بما انه لا يحق لغير المسلم أن يتزوج مسلمة فالحل الوحيد المتبقي ndash; و الاجتهاد دائما لموظف الإدارة ndash; أن يعتنق الزوج الإسلام، مما يمكن كافة أفراد العائلة من الحصول على بطاقات هوية تشير لديانتهم quot;الإسلامquot; بالرغم من أن لا احد من أفراد العائلة يدين بذلك ! و عندما رفض الزوج هذا الاقتراح، لم يجد أمامه إلا اللجوء للمحكمة، عملا بنصيحة المسئول عن الإدارة المعنية ndash; و هو بدرجة لواء -، لتتم مطالبته بعد ذلك بضرورة سحب شكواه من المحكمة على اعتبار أن ذلك يسيء لسمعة مصر في الخارج!!!


أعاد الحكم الصادر في 4 ابريل 2006 بعض الأمل لأفراد هذه الطائفة المنكوبة، إذ قررت محكمة القضاء الإداري في شان قضية عائلة حسام عزت إلزام الإدارة المصرية بالتنصيص على ديانة quot;بهائيquot; لإتباع هذه الطائفة. تبع هذا الحكم ضجة كبرى في الإعلام، سرعان ما انتقلت عدواها للبرلمان عن طريق نواب ldquo;الإخوانquot;. و تم استئناف الحكم لدى المحكمة الإدارية العليا التي نقضت حكم محكمة القضاء الإداري المذكور أعلاه، بل ونقضت حكمها هي نفسها الصادر عام 1983. و بررت رفضها إلزام الإدارة بالتنصيص على الديانة البهائية في بطاقة الهوية بان ذلك سوف يمثل تطبيقا لشعائر دينية quot;من شانها الإخلال بالنظام العامquot;. و بما أن هذا القرار نهائي، يخلص تقرير quot;هيومن رايتسquot; عرضه بالقول:quot;لم يبق أمام عائلة حسام عزت (و من هم في نفس الوضع) و بناتهم الثلاثة غير الخيار بين اعتناق الإسلام أو طرد البنات من المدرسة أو الهجرة إلى الخارجquot;.
من الأمثلة الأخرى التي تدمي القلب محنة الأستاذ باسم وجدي الذي كان يدرس الفيزياء في الجامعة الألمانية في القاهرة، حتى أعلمته دائرة الموارد البشرية في الجامعة بإلغاء عقد عمله quot;بناء على تعليمات من فوقquot; لأنه لم يزود الدائرة بنسخة من الرقم القومي. و في هذا جريمة في حق الأستاذ وطلاب الفيزياء في الجامعة الامانية في القاهرة على حد سواء...


لكن تقرير quot;هيومن رايتس ووتشquot; نفسه يعجز عن الإجابة على أسئلة هامة، من بينها المصلحة في ذكر الديانة في بطاقة الهوية. فإذا كان الهدف هو الحصول على المعلومة لأغراض إحصائية، كان بالإمكان تسجيل الديانة في بيانات وزارة الداخلية دون ذكر ذلك على البطاقة. كما بالإمكان الحصول على المعلومة عند القيام بالتعداد العام للسكان مثلا. و في كل الأحوال لا معنى لإجبار الناس على إعطاء معلومة خاطئة عن معتقداتهم.
مع هذا، يمثل التقرير وثيقة هامة عن المحنة التي تتعرض لها الطائفة البهائية - و الأقليات الدينية الأخرى في مصر -، و الهدر الكبير للموارد الوطنية في الإدارات و المحاكم، في قضية كان بالإمكان حلها ببساطة بعدم التنصيص على الدين في بطاقة الهوية، كما هو الحال في معظم دول العالم.

أبو خولة

[email protected]