على رغم النور الذي يحاول الإنسان أن يخترق به ظلمة الحياة، فإن صنَّاع الظلام من الناس ما زالوا في عمل دائب على إحاطة الحياة بشتى أنواع القتامة. ولا غرابة في الأمر عندما نجد أن النفس البشرية حافلة بالسوء في طبيعتها وتطبعها سوى تلك النُّفوس المفطورة على إنتاج الخير النقي في الحياة.


في غضون قرن من الزمان مضت عقوده، شهد العالم عدة حروب؛ الحربين العالميتين الأولى والثانية، حرب فلسطين، حرب لبنان، حرب إيران مع العراق، حرب العراق على الكويت، حرب أميركا على العراق، حرب إسرائيل على لبنان، وغيرها من الحروب الفرعية الأخرى.
إنها متوالية حروب دموية مرَّت على إنساننا العربي فاستباحت دمه وعرضه وماله، ودمَّرت موجوداته وأشياءه، وانقضَّت على آماله ومستقبله، حتى باتت مجتمعاتنا العربية والإسلامية مبتلاة بإمراض الصدِّ والحقد والثأر والرغبة المستباحة بالانتقام؛ فأنتج ذلك ثقافة باتت مُرسِّخة في ذواتنا ونفوسنا وتوجُّهاتنا المجتمعية، ويكفينا ما جرى بالعراق من أمثلة ونماذج دموية عبَّرت عن واقع هذه الثقافة وبالسمات المذكورة سالفاً.
ما هو مؤسف، أن الكثير من الصناعات الثقافية، خصوصاً الإعلامية منها، في وطننا العربي وفي عالمنا الإسلامي، تغذِّي هذا النَّوع من الثقافة، وتعمل على تصريف أشكالها بأجمل الألوان والأضواء والأصوات حتى أمست ـ المؤسسات الإعلامية على سبيل المثال ـ شريكاً في صناعة ثقافة العداء والثأر والانتقام واليأس من قيم الحياة.


قديماً، كان المشركون يؤذون الرسول محمداً صلى الله عليه وسلم، فقال له الله سبحانه وتعالى: (فاصْفَحْ الصَّفح الْجَمِيلَ) (الحجر/85). وبذلك أرسى النَّص القرآني اللبنة الأولى لما أُسميه بـ (ثقافة الصَّفح) أو (ثقافة الصَّفح الْجَمِيلَ)، وهي الثقافة التي اشتغل بها الرسول محمَّد في حياته، ودعا إلى ترسيخها في المجتمع الإسلامي الوليد لتكون مبدأً جوهرياً في حياة الأمة والمجتمع الإسلامي الناشئ من بعده.
مع ذلك، استمرَّت إرادات الشَّر تدقُّ إسفين ثقافة الثأر والانتقام والتدمير في المجتمع، وها هي اليوم يستفحل أمرها من جديد، لتدقّ إسفينها في حياتنا، فهي تتجدَّد لتعيش على دماء الآخرين، ترتوي بها، وتنتشي بإراقتهاbull; ما يعني أن حاجة الإنسان، البشر، المجتمعات المعاصرة إلى ثقافة الصَّفح، باتت أكثر من واجبة، وأكثر من ضرورية بإزاء ما تعانيه الإنسانية من ويلات.


إن تحقيق الصَّفح أو الصَّفح الجميل بتمامه المنشود أو برغبته التي ينشدها للإنسان، يبدو أمراً مستحيلاً في ظل ما نراهُ ونلمسهُ من مآسٍ؛ حيث البشرية تتهاوى أمام عنف الطُّغاة والقتلة الجُدد، لكن انتشال الحال مما هو عليه من وبال يبدو أمراً ممكناً أيضاً، خصوصاً إذا نظرنا إلى تحقيق الصَّفح الكامل والتام بأنه فعل مستحيل، ولكن ممكن الوصول به إلى نتائج مُجدية إذا ما جاء كـ (فعل استثنائي وخارق)، كما يقول الفيلسوف الفرنسي جاك دريدا، فعل خاطف متوثِّب في استراتيجياته وغاياته وأهدافه، وذلك ما يتطلَّب جهداً كونياً، لكن البدء محلياً يبدو محققاً لنتائج مثمرة إذا ما شُرع به.


كل الكائنات المؤسساتية التي عندنا؛ الأسرة، المدرسة، الجامعة، التلفزة، الإذاعة، الجريدة الورقية أو المرئية، الدولة، المجتمع المدني، وكل نظم الاتصال والتواصل؛ نظام الحديث بالمقهى، بالطائرة، بالورش الثقافية والفكرية والجمالية، وكل النجوم المبدعة؛ من شعراء، وقصاصين، وروائيين، ورسامين، ونحاتين، وفنانين، كل هذه الكائنات والمكوِّنات، هي معنية اليوم ببثِّ ثقافة الصَّفح والصَّفح الجميل، معنية أيضاً بترسيخ مفردات هذه الثقافة في أبسط قواعد التعامل اليومي في الحياة، ومن دون ذلك سيتحوَّل القتلة الجُدد إلى أبطال تاريخيين، بل إلى هراقلة ماجدين في عيون أبنائنا الذين سيأتون بعدنا، فهل نستعدُّ لذلك؟

رسول محمد رسول

[email protected]