بعد الكتابة عن الاتحاد الوطني والحزب الديموقراطي الكُردستانيين، كان عليّ كما وعدتُ استكمال الحصة في تناول بنية وتاريخ وسياسة الاحزاب الكُردية الأبرز. ما تبقى حتى الآن هو الحديث عن الاسلاميين، وقد اعددت منذ أشهر مقالاً لم تتسن لي الفرصة بعد لنشره بسبب تفاقم أحداث كثيرة. سننشره في وقت آخر.


لا يمكن الحديث عن حزب العمال من دون الحديث عن عبدالله أوجلان. فأوجلان هو المؤسس الحقيقي لحزب تحوّل الى اقوى وابرز حزب في تأريخ كُردستان، بل وربما في تاريخ المنطقة بصورة عامة. كنت قرأت كتاباً أو كتابين لأوجلان فضلاً عن مقالات وبحوث في إعلام حزبه، حين كتبت أكثر من مقال في نقد أوجلان وحزب العمال في اواخر التسعينييات بلبنان إبان اعتقال أوجلان في العملية الدولية المعروفة. كان ذلك قليلاً لمعرفة أوجلان وتاريخه، لذلك خرجت آنئذٍ بنتائج تفتقر الى الموضوعية في تناول أوجلان ومواقفه. فقد كتبت في جريدة النّهار عام 1999 تحت عنوان (حزب العمال الكُردستاني في اقصى الحدود دائما) أن quot;اوجلان يتنازل لتركيا من أجل انقاذ رأسهquot;!


الحق يقال عاملني اعضاء حزب العمال وانصاره في مركزهم الثقافي بكل احترام وادب، رغم انهم اختلفوا معي تماماً في وجهة نظري ازاء اوجلان وحزبهم، علماً ان قوة الحزب في لبنان كانت كبيرة لدرجة اربكت حكومة لبنان عام 1996، حين هدد احد اعضاء المكتب السياسي، في مؤتمر صحافي، مصالح امريكا واسرائيل في العالم، بسبب مساندتهما لتركيا في حملاتها العسكرية ضد كُردستان. كان العمال يملكون قواعد عسكرية داخل الأراضي اللبنانية.


ولد اوجلان بقرية في اورفة شمال كُردستان، في وقت كانت الحكومة التركية قد سحقت الأكراد بشكل تام، وأخضعتهم لأحكام قاسية ومشينة قد تكون الأكثر انحطاطاً في التاريخ.


تاريخ الأكراد، هويتهم، لغتهم وتراثهم تعرض للتتريك والطمس، فضلاً عن تعرض مناطق كُردستان للمحاربة والاهمال من جانب الحكومات التركية التي قتلت عدداً هائلاً من الأكراد في سبيل ذلك، وزجت الألاف منهم في السجون والمعتقلات.
حين كان اوجلان شاباً في ستينيات القرن الماضي كان الحديث عن القومية الكُردية والعمل من اجلها ضرباً من المستحيل والخيال، اي ان نهاية غير معلنة قد ختمت التكوين الكُردي في تلك الاصقاع.


تأثر اوجلان في صباه وشبابه ببديع الزمان الكُردي سعيد النورسي، الذي تأسست جماعة النور الاسلامية على هدى رسائله التي سميت برسائل النور. اي ان اوجلان في تكوينه الفكري والفلسفي مشبع من نبع الاسلام العميق والواسع عبر أحد أشهر فلاسفته، الا وهو بديع الزمان النورسي الذي يدين له الأرمن في الحرب العالمية الأولى حيث انقذ مئات العوائل منهم.


من عمق شعوري ملؤه الألم والمعانات والقهر هرع اوجلان يؤسس حزب العمال الكُردستاني من موقع فيلسوف ومفكر، وسط شعبه، الذي اهلكه الفقر والجهل الذين فرضا عليه من قبل سلطة شديدة الشعور بالنقص في تكوينها البنيوي.


يختلف اوجلان عن القادة الآخرين من الكُرد بأنه قرأ تاريخ شعبه بعمق، وقرأ اخفاقاته ومكامن الخلل في حركته. والقراءات الكثيرة والعميقة في الفلسفة والسياسة العالمية وسّعت آفاق اوجلان، ومكنته من الاستفادة من التجارب الأخرى في العالم، فخلق علاقة متفاعلة وحيوية بين قطاعات الشعب والحزب، ولم يسمح ان يتحول الحزب الى دكان يغنى من ورائه قادة الحزب كما حدث للأحزاب الكُردية الأخرى.
بنى اوجلان اول مابنى القاعدة الفكرية والثقافية، ووظف الحزب لصالح مشروع نهضوي مازال مستمراً بقوة.
اعتمد الحزب في اقتصاده على قدرات اعضائه والموالين له، خصوصاً بين الجالية الكُردية الكبيرة في اوروبا وعموم البلدان الغربية. لذلك مازال هذا الحزب يتمتع باستقلال كبير في سياساته وقراراته. بالطبع يملك الحزب شبكة اعلامية ضخمة جداً، وبرلماناً يمارس اعماله في المنفى. وهذا يعني ان حزب العمال يهيئ منذ الآن لملئ الفراغ إذا ماحدث مستقبلاً، لأي سبب كان، كما حدث اثناء سحب الحكومة العراقية دوائرها من كُردستان عام 1991 وحدث فراغ كبير وخطير أدى الى حرب اهلية استمرت ما يقارب عشرة اعوام.


اعلن حزب العمال نفسه في العملية التي استهدفت قافلة عسكرية تركية بموقعة (زيلان) بكُردستان في 15/8/1984.
تركيا القوة العسكرية الأكبر في المنطقة، وعضو في حلف ناتو، والمطمئنة في القضاء على الوجود الكُردي بدليل ركود تام في مناطقهم منذ اكثر من اربعين عاماً بالتزامن مع عملية تتريك ناجحة وواسعة، ارتعدت من الحدث في اندهاش عظيم، لكنها تمادت في ظنونها، وخمنت ان الأمر سينتهي بعد القضاء على (عصابة متمردة) في غضون شهر او شهرين، كما حدث للثورات والانتفاضات الكُردية التي استمرت حتى ثلاثينيات القرن الماضي.
لكن الحزب كبُر يوماً بعد آخر وتقوت شوكته، وتحوّل الى quot;هراوة تسحق رأس التنينquot; وفق تعبير اوجلان.


اوجلان شرع في بناء الكوادر من حزبه من الشبان، صبيان وبنات، ليتحولوا لاحقاً الى خبراء في مجالات عديدة على مستوى الوظائف الاجتماعية داخل حركة ثورية. فقد اصبح الحزب بعد سنين يملك الألاف من المختصين في السياسة والاقتصاد والعسكرية والثقافة والمجالات الأخرى. والأمر كان بمثابة معجزة عظيمة. فالشعب الكُردي نظراً للمخططات التركية تحوّل الى شعب أميّ فضلاً عن نسيانه ثقافته وتراثه في ظل قمع وحشي مستمر لآماد طويلة. إن فرصة النهوض بشعب اهلكته الحروب والحصار والقمع والتعذيب كانت ضئيلة الى درجة المستحيل. لكن اوجلان بفضل عبقريته الفذة حوّل المستحيل الى أمرٍ واقع، بل وبدأ يستقطب الجماهير في كافة انحاء كُردستان، في المناطق الواقعة في ايران والعراق وسوريا.
وبعد تجربة ناجحة ومتبلورة داخل تنظيم حديدي، قام الحزب بتأسيس شبكة اقتصادية واعلامية كبيرة في اوروبا، بدأت تضيق الخناق على الحكومات التركية الواحدة بعد الأخرى.


وقطع حزب العمال بذلك مرحلة الانكماش والضمور بسبب المواجهة مع ترسانة عسكرية هي الأضخم بعد أمريكا في حلف ناتو. ليس ذلك فحسب وإنما قام العمّال باستنزاف اقتصاد الدولة الى حدٍ لم تعد قادرة على احتمال الاستمرار في انكارها للوجود الكُردي بحجة محاربة (فلول ارهابية ضالة)، فحدث ان اعلن توركوت اوزال رئيس الجمهورية لأول مرّة عن اصلاحات جذرية بخصوص القضية الكُردية، وفرصة مناقشة الفيدرالية لاقليم كُردستان. كان ذلك في بداية التسعينيات، وكان بمثابة كفر بواح بمبادئ اتاتورك التي تأسست عليها الجمهورية. لم يمر إلا وقت قصير حيث قضى اوزال نحبه في اجواء غامضة. لكن مبادرته أحدثت شرخاً كبيراً في جدار الدولة التي تعاني اختناقاً بسب ايديولوجية بالية وبائسة، لا تقاوم التطور التاريخي للمجتمعات والدول. جدير بالذكر ان خسارة تركيا في حربها ضد حزب العمال منذ عام 1984 وحتى الآن فاقت ثلاثمائة مليار دولار، وهو مبلغ ثقيل ناهيك عن الديون وفوائدها المترتبة التي تعيق التنمية الوطنية والتقدم الاجتماعي.
وفي غضون ذلك استمرت الحرب بين الدولة وحزب العمال الكُردستاني بشراسة، وتعاظم التكاتف الكُردي وضغوطاته على الدول الغربية، فحصل الحزب على مقاعد سياسية له في العالم لطرح قضية كُردستان، التي لم تعد مسألة داخلية كما حاولت الحكومات التركية اقناع دول العالم بذلك. وبما ان الأمر مع تركيا وصل الى قناة مسدودة بدأت معها تركيا على وشك الاختناق، فقامت اجهزة الدولة بالتضحية بالغالي والنفيس من الدولة والمجتمع، من اجل القاء القبض على اوجلان بهدف القضاء النهائي على حركته القومية بقيادة حزب العمال الكُردستاني. كان ذلك تفكيراً تركياً محضاً، في تناول قضية كُردستان.


بمساندة دول خادعة غير مبالية بمصلحة تركيا (شاركت فيها يونان العدوة التقليدية الشديدة لتركيا!) قامت امريكا بتسليم اوجلان الى الحكومة التركية، في صفقة دسمة لم تجن منها تركيا سوى زفر الخسارة.
مع اعتقال اوجلان اندفعت القضية الكُردية فراسخ الى الأمام في المحافل الدولية، لدرجة وقعت تركيا تحت ضغط شروط وأوامر فرضت عليها، حتى انها لم تستطع تنفيذ حكم الاعدام بحق اوجلان، رغم ان محاكمها اصدرت الحكم بالموت عليه.


في غضون المحاكمة وبطريقة عاقلة وماهرة، حوّل اوجلان ساحة المحاكم الى قاعات محاضرات يشرح فيها عبر بلاغة فلسفية وسياسية قضية شعبه للعالم اجمع. وقام ايضاً يحاكم هو دولة تركيا وحكوماتها، ويطرح فكرة السلام كجوهر اساس في حركة حزبه الوطنية والقومية. الرسالة وصلت الى مسامع العالم، ولعب الحزب بعد اعتقال قائده بذكاء وفطنة. أختير أوجلان مجدداً كرئيس للحزب في المؤتمر الحزبي. ونفذ الحزب بدقة ما أمر به اوجلان وهو في السجن، من ايصال رسائل السلام الى تركيا ودول العالم.


استفاق الاتراك متأخرين حين وجدوا انهم خسروا خسارة كبيرة باعتقالهم اوجلان ومحاكمته، خصوصاً انهم عجزوا عن تصويب الأهداف التي رموها من وراء ذلك. فقد كتب احد اشهر كتاب واعلاميي تركيا، محمد علي بيراند، ان (تركيا كانت تحظى بدعم دول غربية كثيرة في مواجهة حزب العمال قبل اعتقال اوجلان. لكن بعد اعتقاله اصبح اوجلان يحكم ليس فقط حزبه اكثر من ذي قبل، بل حتى تركيا وهو يقبع في السجن، ومعه الآن معظم دول العالم!).
ضغوطات حزب العمال الكُردستاني بقيادة اوجلان اجبرت الحكومات التركية القبول بتأسيس أحزاب كُردية في مناطق كُردستان، وترشيح ممثليها للبرلمان. لكن الأمر مرة أخرى أخذ منحىً خسر فيه الأتراك سياسياً واعلامياً. فاعتقال (ليلى زانا) النائب ـ تُكتب نائب وليس نائبة التي تعني المصيبة ـ الكُردي في البرلمان التركي وزملائها، بسبب تحدثها بكلمات كُردية، تحوّل الى حدث عالمي دفع بتركيا الى الانعزال في قفص الاتهام.
على الصعيد الكُردي الداخلي تجنب حزب العمال الحرب الداخلية الهامشية الاستنزافية، رغم ان الحزب الديموقراطي والاتحاد الوطني حاولا كثيراً اشغال حزب العمال بهكذا حروب تحقيقاً لهدفين: أولاً الحد من شعبية حزب العمال المتعاظمة على حسابهما، بسبب انغماسهما في الفساد والخراب عبر حروب داخلية قذرة انزلت شعبيتهما الى الحضيض.


ثانياً: التقرب من تركيا ونيل عطائها عبر الرضوخ لاملاءاتها وأوامرها على الحزبين الكُرديين الديموقراطي والوطني. وفعلاً خاض الحزبان حرباً كبيرة ضد العمال منذ عام 1992 باشراف الجندرمة التركية.


ومن هنا فإن العمق السياسي للحزب، افصح عن وجود خزينة فكرية كبيرة للتعامل مع الواقع. لذلك ليس غريباً نجاح الحزب من الارتقاء بشعب متخلف ومتشرذم عشائرياً وقبلياً، الى مجتمع منتج وثائر ومتحضر يعي هويته الوطنية وقضيته ومصيره، ويتعالى على القبلية المقيتة التي ابتليت بها احزاب كُردية اخرى في واقع فاسد ينتظر تغيراً حتمياً.


على الصعيد الاخلاقي، حافظ الحزب من علوٍّ روحي على القيم والمبادئ التي تربطه بجماهيره. فلم يحدث ان يتحوّل المسئولون فيه الى اثرياء كما حدث لاحزاب كُردية أخرى. وحاول حزب العمال واقعياً التأدب مع اهالي القرى ومساعدتهم، في محاولة لتصحيح ما اشيع عنهم من اكاذيب روّج لها اعلام الحزبين الكُرديين متضامناً مع الاعلام التركي. هذه هي الثمرة التي اتعب اوجلان وحزبه عليها عبر آلامٍ ومخاضات فكرية طويلة، استدعت عمليات عملاقة على مستوى التاريخ والسياسة والاجتماع.


بالطبع لا يمكن انكار ان الحزب وقع في اخطاء كثيرة في مسيرة نضاله الشاق، ولكن من الممكن الحديث عن ذلك في سياق موضوعي نقدي في تقويم بنيان الحزب وكينونته.


في الحقيقة لا نستطيع الالمام بجميع جوانب الحديث عن هذا الموضوع، الذي يستدعي مقالات طويلة أخرى علّنا نعيد الكرّة لاحقاً. لكن بقي القول ان ما ذكرناه ليس سوى قراءة هادئة لتجربة رجل أنعم الله عليه بعقلٍ ملئ بالمستقبل، ألا وهو عبدالله اوجلان.
قد يتفق مثقفو الأكراد ـ ربما ـ بعد سنين ان أوجلان اهم قائد سياسي بعد صلاح الدين الايوبي، على مرّ التاريخ الكُردي.

علي سيريني

[email protected]