التأمين تجارة معروفة فى جميع انحاء العالم ، ويقال ان شركات التأمين هى أغنى شركات العالم على الاطلاق. يبيعونك وثائق يطلق عليها (بوليصة التأمين) المكتوبة بحروف بالغة الصغر يصعب قراءتها ، وعند حصول خسارة للزبون قد لا تعوضه شركة التأمين لأن شروط التأمين تحمى الشركة أكثر مما تحمى الزبون الذى لم يقرأ (البوليصة) بعناية. هذه الشركات تعين وكلاء لها يدورون على المحلات والدوائر والمكاتب لبيع خدماتهم. قد يكون التأمين على سيارة او بيت او مخزن بضائع او عمارات ، واذا كنت تملك ( يختا ) فهم مستعدون لتأمينه ضد الحريق او الغرق او السرقة. ولعل البعض يتذكر كيف أمنت مارلين مونروا على جزء بارز من جسمها بمئة الف دولار!!! وما يهمنا هو التأمين على الحياة والصحة. فى بلدان العرب والمسلمين ، أكثر عبارة يكررها الوكيل عادة هى: لا سمح الله. وسبب ذلك هو انه يحذرك من امور مرعبة مثل الموت والاصابات البدنية والتحذير من ان تخلف ارملة او أطفال سيحرمون من رعايتك (لا سمح الله) اذا ما حدث لك حادث او عاهة مستديمة. الوكيل (الشاطر) هو الذى لا يتركك الا مرعوبا بعد زيارته وبيده (البوليصة).

تذكرت هذا وقارنت بين وكلاء التأمين ومرتزقة الدين (لا أقصد رجال الدين الأفاضل الذين يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر) وانما الذين يقتاتون على ارعاب الناس، من عذاب الجحيم فى العالم الآخر، ويمنونهم بجنات عدن وحورياتها العين وغلمانها المخلدين ، وأنهار الخمر والعسل المصفى، بعكس الكافرين الذين سيخلدون فى جهنم جزاء كفرهم والحادهم وما اقترفوه من جرائم. ان هذا الأمر لا يقتصر على الدين الاسلامي وحده ، بل سبقهم الى ذلك اليهود والمسيحيون وغيرهم من شتى الأديان التى لا تعد ولا تحصى. وأغلبنا قد قرأ عما كان يفعله البابوات القدماء من بيع (بوالص) التأمين التى تؤمن دخولهم الجنة باسم (صكوك الغفران) ، فيجنون من ذلك المبالغ الطائلة خاصة من الملوك والأمراء والأغنياء المرعوبين بسبب الجرائم التى ارتكبوها مع الناس فيدفعون لهم بطيبة خاطر ، فالمال الحرام موفور لديهم ولم يكلفهم الحصول عليه كثير عناء.
وكما ان شركات التأمين أغنى الشركات فى العالم ، فان المؤسسات الدينية وأربابها لا يقلون غنى عنها. لا أظننى بحاجة الى ذكر الأسماء والعناوين فان كل ذلك أصبح معروفا ومكشوفا للجميع. والمسافر لأوروبا يرى الكثير من الكاتدرائيات والكنائس الهائلة ، ومعظمها او جميعها قديمة ، بنيت فى القرون الوسطى أو قبلها حيث كان الجهل سائدا هناك ، ونحن فى العراق نمر الآن فى بمرحلة تشبهها.

عند وجودى فى روما قبل سنين طويلة ، ذهبت مع مجموعة من السياح لمشاهدة حدائق جميلة قريبة من روما اسمها (تيفولى). فيها الأشجارالنادرة القديمة ، وفيها خمسمائة نافورة ، يسحب اليها الماء من الجبال القريبة ، ولا تحتاج الى مضخات مطلقا. وفى وسط كل ذلك بني قصر الكاردينال ايبوليتو الثاني الذى انشأ هذه الحدائق الرائعة التى يشبهها الايطاليون بجنائن بابل المعلقة. قالت لنا الدليلة السياحية بأن كل ما نراه هو من كد العمال والكسبة الفقراء فى تلك المنطقة ، وقد أنفقوا عليها النقود التى اقتطعوها من أفواههم وأفواه أطفالهم لتكريم الكاردينال الذى كان يوعدهم بالغفران والجنة ، ومات فى سنة 1572 بمرض النقرس (داء الملوك) قبيل اتمامها، لولعه الشديد بالطعام الدسم واللحوم ، بينما الناس حوله يتضورون جوعا.

أذكر ما قصه علي احد المعارف ، بأنه مرة ومن ضمن خطبة الجمعة فى مسجد ببغداد ، أوصى الشيخ الخطيب الحاضرين بعدم نسيان الفقراء وقد أوشك حلول العيد ، وطلب منهم التبرع بما يستطيعونه من نقود او ملابس ، فيكفى للواحد مثلا ان يمتلك بدلة واحدة بدلا من عدة بدلات وهكذا. كانت زوجة الشيخ الجديدة تستمع للخطبة من وراء ستار مع بقية النساء. فأسرعت بالعودة الى بيتها وأخرجت جميع بدلات زوجها ووزعتها على المحتاجين من الجيران. وفى صباح اليوم التالى نادى زوجها عليها طالبا ان تعد له بدلته الرمادية فقالت بأنها تصدقت بها، وعاد الشيخ وطلب بدلته الزرقاء فقالت بأنها تصدقت بها أيضا ، فذهل الشيخ وقال لها ماذاأبقيت لى ؟ قالت: أبقيت لك الله ورسوله ، فعلت كما قلت انت فى خطبتك امس وتبرعت ببقية البدلات عدا التى كنت تلبسها أمس. ثارت ثائرة الشيخ وصرخ بامرأته: كيف فعلت ذلك يا امرأة من دون اذنى؟ أجابت: أليس هذا ما كنت تعظ به فى الأمس؟ قال: كنت أوجه الكلام للغرباء من الحاضرين وليس لك!!!!.

عاطف العزي

كندا