الحريـة مفهـوم طبقـي روزا لكسمبورغ في مواجهة فلاديمير لينين

حقَََّ لي أن أشتبه في جميع الذين يوجهون نقدهم للمشروع اللينيني أو التجربة الإشتراكية في الإتحاد السوفياتي حيث أنهم جميعاً دون استثناء صبوا نقدهم الحاد جداً والهدام على الإدارة الستالينية للمشروع 1922 ـ 1953. لقد عمّر المشروع أربعة وسبعين عاماً 1917 ـ 1991؛ ولو رسمنا خطاً بيانياً يعكس بكل دقة تطور المشروع لوجدنا أن الخط البياني يتابع الصعود حتى العام 1954 ثم يبدأ بالهبوط المستمر حتى الإنهيار في العام 1991. وهكذا ينقسم عمر المشروع إلى نصفين متساويين، النصف الأول (37 عاماً) هو نصف النجاحات والنصف الثاني (37 عاماً) هو نصف الأفشال والإنهيارات. لكن وبالرغم من هذه الحقيقة الساطعة التي لا يجادل فيها أحد مهما كان جاحداً لا تجد ناقداً واحداً يوجه نقده إلى quot; تطور quot; الثورة الإشتراكية خلال النصف الثاني من عمرها ويجمعون بالمقابل على انتقاد النصف الأول الزاخر بالنجاحات! وإزّاء مثل هذا الأمر الغريب حقاً لا يسع المرء إلا أن يشتبه في هؤلاء النقاد، فمن منهم ليس خبيثاً يتنكر في هيأة الناقد الناصح وهو العدو الكاره للإشتراكية وللبروليتاريا فهو إذاً محدود القدرة العقلية لا يميّز بين الغث والسمين. أحد الناقدين الخبثاء، ميخائيل غورباتشوف، وهو الكاره للإشتراكية وللبروليتاريا كما أفصح فيما بعد الإنهيار، واجه حقيقة إنقسام عمر المشروع اللينيني إلى نصفين متعارضين من حيث نجاح الأول وفشل الثاني فلم يجد بداً من الإدعاء بأن البلاشفة استطاعوا أن يقنعوا جماهير الشعب الواسعة العريضة بيوتوبيا العدالة والمساواة (الشيوعية) وبذلك جندوا قوى الشعب الهائلة خلفهم واستطاع ستالين أن يحقق نجاحات هائلة بمختلف المقاييس. لم يكن بوسع غورباتشوف أن يتكلم عن الدكتاتورية والقمع البوليسي وهو يرى خلال رحلته من جنوب روسيا إلى موسكو، كما في مدخل كتابه البريسترويكا، كيف أن كل الإتحاد السوفياتي قد انقلب إلى خلية نحل واحدة تعمل ليل نهار من أجل إعادة إعمار ما دمرته الحرب 1941 ـ 1945 ضد قطعان الهتلرية. الدكتاتورية والقمع البوليسي قادران على فعل كل شيء ما عدا تجنيد الشعب في مشاريع تنموية التي أول شروطها تحرير قوى العمل. الدمار الكلي غير المسبوق في التاريخ الذي تسببت به الحرب العالمية الثانية وقع 80% منه في أراضي الإتحاد السوفياتي ومع ذلك فقد عاد الإتحاد السوفياتي في العام 1950 أفضل مما كان عليه قبل الحرب عام 1941، وعادت الشعوب السوفياتي تحصل على حصة غذائية كاملة، أغنى وأكبر من حصة الشعوب في غرب أوروبا. أوروبا الغربية لم تنجح في إعادة الإعمار بمثل ما نجح الإتحاد السوفياتي بالرغم من مشروع مارشال الأمريكي الذي مولها ب 12.5 ملياراً من الدولارات، في حين فرضت الولايات المتحدة حصاراً على الإتحاد السوفياتي وطالبته بإعادة كل السفن والشاحنات التي كانت قد أعارتها له وأحرقتها خلف الحدود تعبيراً عن الحقد الذي يكنّه الرأسماليون على الدولة الإشتراكية، دولة العمال، بالرغم من أن من تكفّل بهزيمة العسكرية اليابانية وضمن النصر المؤزر للولايات المتحدة هو الجيوش السوفياتية في شرق آسيا خلال النصف الثاني من شهر أغسطس آب 1945 وليس جريمة الحرب بقصف المدنيين في هيروشيما وناغازاكي بالقنابل الذرية في 6 و9 آب.

أحد هؤلاء النقاد بحث في أوراقه القديمة ليجد مقالة للسيدة روزا لكسمبورغ، وهي من قادة الفكر الماركسي، كتبتها في العام 1918 حول مسألة الدكتاتورية في الثورة الروسية. ومن الواضح أن السيد الناقد أعاد نشر هذه المقالة القديمة بغرض إدانة المشروع اللينيني، وخاصة النصف الناجح كما أشرنا، بدءاً من منطلقات لينين في إدارة الدولة كدولة دكتاتورية البروليتاريا. ولي أن ألاحظ هنا بأن روزا لكسمبورغ لو لم يتم اغتيالها ورفيقها كارل ليبكنخت في 15 يناير 1919 وطال بها العمر لأربعة أشهر أخرى ورأت بأم عينها كيف أن عصابات القتلة النازيين، quot; الكتائب الحرةFreikorps quot;، التي استدعاها المستشار quot;الإشتراكيquot;، فريدريك إيبرت، لسحق انتفاضة عصبة السبارتاكيين في برلين واقتراف جريمة اغتيالها ورفيقها ليبكنخت، هي نفسها التي هاجمت ميونخ عاصمة الجمهورية السوفياتية في بافاريا/ألمانيا في مايو أيار 1919 وفتكت بعشرات آلاف البروليتاريا الشيوعيين وزعماء الجمهورية، لو رأت كل ذلك لأدركت أن العبور الإشتراكي لا يتم في أجواء سلمية سمتها quot;الحياة العامةquot; (public life) بل عبر قتال دموي لا يتوقف تشنه البورجوازية طالما فيها رمق من حياة يوماً بعد آخر وساعة بعد أخرى. لو تحققت من ذلك لألغت ما كانت قد كتبته قبل بضعة أشهر تنتقد فيه رؤية لينين لدولة دكتاتورية البروليتاريا. الينبوع الذي تستمد منه البروليتاريا تجربتها السياسية وتطور وعيها الطبقي ليس هو quot;الحياة العامةquot; كما اعتقدت السيدة لكسمبورغ بل إنه الصراع الطبقي المتواصل الذي لا يلين ويأخذ أشكالاً مختلفة وفقاً لظروف المجتمع المتغيرة وعلاقات الإنتاج المرافقة والتي تتسم جميعها بلون من القمع الطبقي. جميع المهمومين بالحرية ويكثرون الحديث عنها يغيب عنهم دائماً المفهوم الطبقي للحرية. فالحرية مفهوم طبقي ليس له أي معنى بغياب العلاقات الطبقية وما يكتنفها من صراع طبقي (class struggle) حيث تتناسب مساحة الحرية التي تتمتع بها طبقة ما تناسباً عكسياً مع مساحة الطبقة الأخرى المقابلة لها في الصراع. ولذلك يغيب كليّاً أي معنى من معاني الحرية في المجتمع الشيوعي اللاطبقي؛ لن يعود الناس في المجتمع الشيوعي بحاجة لأي حريات من أي نوع. شعار quot; الحياة العامة quot; المقدس بسر السيدة لكسمبورغ لا يعني أقل من الإعتراف بشرعية تعايش مختلف الطبقات جنباً إلى جنب وهو سر تقدسه الطبقة الرأسمالية ضمن شروطها حيث تستخلص أرباحها من البروليتاريا التي هي الأساس في بنية النظام الرأسمالي. البروليتاريا لا تقدس مثل هذا السر ولا تعترف به، بل العكس من ذلك هو ما يتوجب عليها القيام به ألا وهو التخلص من وجود كل الطبقات.

لقد جانبت الحقيقة السيدة روزا لكسمبورغ حين قالت.. quot; الحرية هي حرية المختلف حصراً quot; الأمر الذي يعني مباشرة أنه كان على البلاشفة أن يتخلوا عن السلطة التي استولوا عليها في أكتوبر لحساب الجمعية التأسيسية المنتخبة خلال الشهر التالي، نوفمبر، ذات الأغلبية المعادية للبلاشفة وهي من quot;الحزب الإشتراكي الثوريquot; ـ إسم على مسمى ـ برئاسة كيرنسكي، الحزب الذي كان قد شكل الحكومة المؤقتة التالية لثورة شباط 1917، تلك الحكومة التي رفضت تحقيق الشروط الثلاثة الرئيسة التي نصّ عليها برنامج الثورة البورجوازية، وهي وقف الحرب والإصلاح الزراعي وانتخاب الجمعية التأسيسية، بل ذهبت حتى إلى مهادنة بقايا القيصرية وسكتت على المتآمرين من ضباط القيصر الذين حاولوا القيام بانقلاب عسكري في أغسطس آب ضد الحكومة المؤقتة. لقد ثبت بالتجربة إبّان سلطة الحكومة المؤقتة، فبراير ـ أكتوبر1917، بأن البورجوازية الروسية مجتمعة بقيادة حزب الإشتراكيين الثوريين باتت عاجزة تماماً عن التقدم بالثورة البورجوازية. ثم إن مجموع الأحزاب البورجوازية زايدت على البلاشفة برفضها لمعاهدة صلح برست ليتوفسك مارس 1918 مع الألمان التي أمنت لروسيا الخروج من الحرب. كانت العودة إلى الحرب تهدد مصير روسيا ووجودها كدولة مستقلة حيث تردد حينذاك أن إنجلترا وألمانيا تجريان مفاوضات سرية حول تقاسم روسيا بين الطرفين المتحاربين. الحرية للمختلف التي فضلتها السيدة لكسمبورغ على دكتاتورية البروليتاريا إنما تعني الحرية لقوى الرجعية والبورجوازية التي رفعت السلاح بوجه البلاشفة وقادت حرباً أهلية في غاية الدموية في وقت مبكر جداً في مارس آذار 1918؛ وبالتالي فإنها دعوة لقمع الحريات وليس لتوسيعها.. لا حريّة لأعداء الثورة!

قلنا لا نشك في أن السيدة العظيمة روزا لكسمبورغ كانت ستتنكر لمثل هذه الدعوة بعد بضعة أشهر فقط بعد أن قاد quot;الإشتراكيون الديموقراطيونquot; أنفسهم عصابات quot;الكتائب الحرةquot; النازية لتحطيم انتفاضة حزبها (عصبة السبارتاكيين) في برلين في 13 يناير ثم اغتيالها مع رفيقها كارل ليبكنخت بعد يومين، أو متأخراً بعد تحطيم الجمهورية السوفياتية في بافاريا ـ ألمانيا والمذبحة الكبرى ضد الشيوعيين من قبل ذات العصابات النازية وذات quot; الإشتراكيين quot;. وستنكرها أكثر لو تسنّى لها أن تشاهد النجاحات التاريخية الكبرى التي حققتها دولة لينين الدكتاتورية خلال النصف الأول الصاعد من عمر المشروع 1917 ـ 1954. ما كان لكل تلك النجاحات الكبرى لتتحقق لولا السلطة الدكتاتورية اللينينية والقمع المتوالي والمستمر ضد مختلف أطياف الرجعية ووسائل الإنتاج البورجوازي المختلفة.

مرة أخرى تثير دهشتنا السيدة لكسمبورغ وهي المرجعية المرموقة في الفكر الإشتراكي الماركسي حين تقول.. quot; التحقيق العملي للنظام الإشتراكي بشكله الإقتصادي والإجتماعي والقضائي إنما هو مسألة غائمة في فضاء المستقبل quot;. أي قراءة لهذه الصورة المرسومة في خيال السيدة لكسمبورغ تدلنا على أن لديها مفهوماً عن إطار يرتسم داخله نظام إشتراكي ثابت ومستقر يمكن رسم خطوطه فقط في أجواء من الحرية في غمار التجربة. لكن مثل هذا الفهم ليس هو ما تحدد في صورة ماركس التي ألمح إليها بإيجاز شديد في كراسته quot; نقد برنامج غوتا quot;. قال ماركس عن الإشتراكية أنها مرحلة عبور نحو الشيوعية تتم في ظل دولة دكتاتورية البروليتاريا حصراً. لقد قرأ لينين ماركس جيداً وقال أن دولة دكتاتورية البروليتاريا هي السلطة الوحيدة حصراً المؤهلة لعبور الإشتراكية. وتوصل إلى فهم واضح وملموس على كافة الإشتراكيين أن يتمسكوا به ولا ينسوه أبداً وهو أن الإشتراكية إنما هي محو الطبقات. ألفباء الإشتراكية هي محو النظام الإجتماعي دون تأسيس نظام إجتماعي بديل حتى الوصول إلى المجتمع الشيوعي، وهو مجتمع اللانظام. لأن السيدة لكسمبورغ توهمت بأن الإشتراكية هي نظام إجتماعي مستقر يقوم على علاقات إنتاج ثابتة، لأنها توهمت ذلك، قالت بأن quot;الحياة العامةquot; هي الينبوع الذي تستمد منه البروليتاريا تجربتها السياسية ونهوضها المستمر. لكن المرء لا يستطيع أن يسكن البيت أو يقيم حياة عائلية فيه قبل الإنتهاء من بنائه. الإشتراكية العلمية، إشتراكية ماركس، ليست كذلك على الإطلاق بل هي مرحلة عبور نحو الشيوعية يتم خلالها محو جميع الطبقات بما في ذلك طبقة البروليتاريا الحاكمة نفسها، ولذلك حصر ماركس هذا العبور بدولة دكتاتورية البروليتاريا إدراكاً منه بأن مرحلة الإشتراكية لا بد لها من أن تتسم بصراع طبقي عنيف لم يقارنه ماركس إلا بالصراع الذي خاضته البورجوازية الرأسمالية لاستكمال بناء النظام الرأسمالي حيث قامت بتحطيم أدوات الإنتاج الفردية لشرائح واسعة من البورجوازية الوضيعة كما الإستيلاء التام عبى أراضي صغار الفلاحين بوحشية لا نظير لها في التاريخ دون النظر لمصائر هؤلاء الكسبة المترزّقين على عكس دولة البروليتاريا التي تؤمن لهم وسائل عيش جديدة قبل تحطيم وسائلهم البالية. تعبير quot; الإقتصاد الإشتراكي quot; هو تعبير مجازي من حيث أنه لا يأخذ بقيمة العمل التبادلية طالما أن السوق بقوانينها المعروفة تغيب عنه نهائياً بل يُعنى بقيمة الإنتاج الإستعمالية وضرورته في خطة التنمية. كما أن أجور العمال لا تتحدد وفقاً لقيمة ناتج أعمالهم. وظيفة دولة دكتاتورية البروليتاريا هي أولاً وأخيراً العبور بالمجتمع إلى الشيوعية حيث لا دولة ولا دستور ولا قانون ولا نقد ولا أجور. كل من يتحدث عن الحريات الديموقراطية بمعناها العام والليبرالي في المجتمع الإشتراكي وينادي ب quot;الحرية للمختلفquot; فهو لم يقرأ ماركس قراءة صحيحة كما قرأه لينين. وكل من يتنكر لدكتاتورية البروليتاريا فإنه يتنكر فعلياً للإشتراكية.

السيدة لكسمبورغ تقول أن.. quot; نظرية لينين في الدكتاتورية تفترض أن الإشتراكية إنما هي صيغة معدة سلفاً وهي في جيب الحزب الثوري quot; وتستمر لتقول في بناء الإشتراكية.. quot; جماهير الشعب بأكملها يتحتم أن تأخذ دوراً في ذلك وإلا فإن تحقيق الإشتراكية سيجري بمراسيم تصدر عن دزينة من المنظرين خلف مكاتبهم quot;.

في مواجهة مثل هذه الإتهامات الخطيرة للينين وللسلطة السوفياتية في باكورة أعمالها تقوم الملاحظة بأن السيدة لكسمبورغ لم تقدم نظرية حول دولة دكتاتورية البروليتاريا مقابل نظرية لينين المزعومة. لينين لم يأت بنظرية دكتاتورية البروليتاريا بل إن كارل ماركس هو من اشترط العبور الإشتراكي ـ وليس النظام الإشتراكي ـ تحت سلطة دولة دكتاتورية البروليتاريا ثم أكد على أن الثورة الإشتراكية تقيم دولة دكتاتورية البروليتاريا وتحتفظ هذه الدولة بطبيعتها الدكتاتورية حتى تموت وتضمحل وتتلاشى. وعندما يشترط ماركس الطبيعة الدكتاتورية للدولة فإنه ضمنياً لا يستثني فقط قطاعات ليست بروليتارية في المجتمع ومن الشعب بل يشترط قمعها ومحوها من الوجود خلافاً لما تطالب به السيدة لكسمبورغ معارضة بذلك ماركس وليس لينين لتستبدل quot; البروليتاريا quot; ب quot; جماهير الشعب بأكملها quot; مع علمها الأكيد بأن البروليتاريا السوفياتية في العام 1918 لم تشكّل أكثر من 20% من قوى العمل. كان 80% من العاملين في الإنتاج القومي في روسيا في العقد الثاني من القرن العشرين ليسوا من البروليتاريا وبالتالي هم بالطبيعة ضد الإشتراكية فكيف للسيدة لكسمبورغ توكل لهم بناء الإشتراكية؟!

يبدو أنه كان في مخيلة السيدة لكسمبورغ صورة خاطئة عن البلاشفة بقيادة لينين باعتبار أنهم جماعات من الموظفين يجلسون خلف مكاتبهم ويصدرون أوامرهم بالتهديم فقط دون البناء لأنهم لا يعرفون شيئاً من أمور البناء بسبب طبيعتهم البيروقراطية. مثل هذه الصورة الستاتيكية الميتة لا تقترب من حقيقة البلاشفة بشيء. البلاشفة الذين تمكنوا من حشد جماهير العمال وفقراء الفلاحين خلفهم ليهزموا جيوش الروس البيض الجرارة وقياداتها من ضباط القيصرية الكبار وتسعة عشر جيشاً أخرى تعود لأربع عشرة دولة أجنبية هي الدول الأكثر تقدماً في العالم، مثل هؤلاء البلاشفة لا يجوز تصويرهم بدزينة من البيروقراطيين. البلاشفة الذين أثبتوا فعالية لا مثيل لها في مواجهة الأعداء مواجهات دموية مسلحة على تراب القارتين الأوروبية والأسيوية لا يجوز إفتراضهم بيروقراطيين في معارك البناء الإشتراكي السلمي بمعناها غير الدموي وغير المسلح. لقد أثبت هؤلاء البلاشفة بقيادة ستالين أنهم البناؤون الأمهر في العالم وفي التاريخ. لقد نقلوا روسيا من بلد متخلف ومهدم بفعل حروب طاحنة لسبع سنوات عجاف، بلد تبيت شعوبه على الطوى بوصف لينين عام 1921 إلى بلد رغدت شعوبه في عيش كريم بوصف الكاتبين البريطانيين الكبيرين جورج برنارد شو و إتش جي ويلز في العام 1933 والصحافة الأميركية عام 1936، ثم إلى بلد في مقدمة الدول الصناعية الكبرى في العالم عام 1941 بحيث تمكن وحده من سحق ألمانيا النازية المجهزة بكافة الموارد المادية والبشرية في القارة الأوروبية. لا يمكن ولا يجوز وصف هؤلاء البلاشفة بالبيروقراطيين. كان أول من أدخل البيروقراطية إلى الحياة السوفياتية هو أول من انتقد البيروقراطية في إدارة ستالين في العام 1956. فلول الأحزاب الشيوعية من أيتام خروشتشوف يختبئون وراء أصابعهم ويدعون بأن انهيار المشروع اللينيني إنما كان بسبب استيلاء البيروقراطية على مفاصل الدولة السوفياتية وهذا نصف الحقيقة. أما النصف الثاني الذي يستميتون في إخفائه هو أن عرّابهم خروشتشوف هو من انحرف عن السياسة اللينينية وألغى بقرار رسمي دكتاتورية البروليتاريا وأسس بذلك للنهج البيروقراطي في إدارة الدولة. بالرغم من مثل هذا الإنحراف الحاد يصر أيتام خروشتشوف على موقفهم الخياني وبكل صفاقة يكذبون وينسبون البيروقراطية إلى ستالين.

وأخيراً كيف للسيدة لكسمبورغ أن تفترض أن نظرية لينين في دولة دكتاتورية البروليتاريا ـ والنظرية لماركس وليست للينين ـ تنطوي على مفهوم الإشتراكية كوصفة جاهزة سلفاً موجودة في جيب حزب البلاشفة. كان كارل ماركس قد رفض بقوة أن يتحدث بكلمة واحدة عن الإشتراكية بمرحلتيها المتقدمة والمتأخرة سواء بسواء، سوى اشتراطه عبور الإشتراكية تحت سلطة دولة دكتاتورية البروليتاريا. ومثله فعل لينين. تعريف لينين العام للإشتراكية بأنها quot; محو الطبقات quot; يعني مباشرة أن عبور مرحلة الإشتراكية نحو الشيوعية ـ والذي يطلق عليه خطأً إسم النظام الإشتراكي، وهو ليس نظاماً ـ يتم فقط في غمرة صراع طبقي حاد؛ وهو برأي ستالين، تلميذ لينين النجيب، يزداد حدة كلما تقدم العبور. كان المفهوم السائد لدى البلاشفة هو أن الصراع الطبقي الملتحم يوماً بيوم وساعة بأخرى هو خير معلم في بناء الإشتراكية، أو الأحرى في عبور الإشتراكية، الصراع الطبقي وليس quot;الحياة العامةquot; بمفهوم الحياة السلمية والتعايش الطبقي. ولذلك بادر لينين في العام 1922 إلى الرجوع خطوتين في عبور الإشتراكية وتطبيق برنامج السياسة الإقتصادية الجديدة (NEP).

من المفاجئ حقاً هو أن ماركسية ضليعة من قامة المناضلة، شهيدة الطبقة العاملة والحركة الشيوعية، روزا لكسمبورغ تفوتها حقيقة أن الحرية إنما هي في التحليل الأخير مفهوم طبقي يستدعيه فقط الصراع الطبقي. فما الإنتخابات العامة أو الحريات العامة مثل حرية الصحافة وحرية التنظيم والإجتماع وحرية الرأي والفكر سوى تعبيرات مختلفة عن حقيقة واحدة هي الصراع الطبقي. إضطرام الصراع الطبقي هو ما يلد الحريات بمختلف أشكالها وألوانها وليس العكس كما يبدو للوهلة الأولى، وليس أدل على ذلك من أن إنتهاء الصراع الطبقي يتزامن ويترافق مع إنتهاء الحريات وتلاشيها حيث لا يعود لها أية ضرورة.

فـؤاد النمري
www.geocities.com/fuadnimri01